حملت الأخبار وفاة الأديب البحاثة مؤرخ القرآن ومترجم شوامخ الفكر والدراسة، وناقد مشاكس، وحامل لواء قرع أجراس نعي العلمانية ودعاتها في العالمين العربي والإسلامي، وخطيب مؤثر، وداعية مخلص، المرحوم عبد الصبور شاهين. كان الرجل منذ فترة الشباب الأولى معنيا بالفكر الإسلامي يكتب عنه ويحلل معانيه وأهدافه ويترجم ما كتب عنه محاولا تقريب ما يقال عن الإسلام والقرآن إلى قراء العربية. كانت رسالته الجامعية عن تاريخ القرآن والدرس اللغوي والقراءات القرآنية فتحا في هذا المجال أمام الباحثين والدارسين، وبينما كان البعض يتغنى بأفضال »تيودور ندلكه« الألماني في كتاب تاريخ القرآن كان الرجل معنيا بكتابة هذا التاريخ كتابة علمية رصينة محاولا الرد عن الترهات والتلفيقات التي عني بها المستشرقون والباحثون الغربيون لعلهم يظفرون هنا أو هناك بشبهة ترضى نزعتهم الباحثة عن شيء ما يمهد الطريق للانحراف والزيغ عن كلمة الحق في توثيق القرآن وإيصاله إلى المسلمين غضا طريا كما نزل به الوحي على محمد عليه السلام. وتشاء الأقدار وكم هي عجيبة ومؤثرة هذه المشيئة ان يغادر الدنيا الفانية بعد مغادرة بعض من أولئك الذي كانت كتاباته عن القرآن وعن الإسلام ونقائه ونبل مقاصده متعارضة أو تكاد عما يكتبون، وهكذا غادر هذا العالم نصر حامد أبو زيد وقبله محمد عابد الجابري وبعدهما محمد اركون والجامع بين هؤلاء مع ما بينهم من فروق منهجا وهدفا وبين الفقيد هو البحث في القرآن وفي علوم القرآن ولئن كان قد عرف بما كتبه عن نصر حامد أبي زيد فإن منهجه في تناول القرآن المنزل من عند الله وتناول الآخرين لا يلتقي إلا في كون كل من هؤلاء اشتغل كما سلف بعلوم القرآن والقرآن على نحو من الأنحاء. وهذا موضوع يحتاج إلى بحث ودراسة وليس قصدنا اليوم في هذه الكلمة الخوض في شيء من ذلك، وعلى أي حال فالكل قد أفضى إلى مولاه وعند الله تجتمع الخصوم »انك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون«. وإذا كان الإنسان في مثل هذه المناسبة قد يتأثر بشيء من العاطفة وهو كذلك فإنني شخصيا أول ما قرأت خبر وفاته عادت بي الذاكرة إلى منتصف الخمسينيات من القرن الماضي عندما كنا نقرأ في مجلة الآداب البيروتية بعض خلاصات كتابات مالك بن نبي رحمه الله وكان ذلك في تلك المرحلة شيئا غريبا ومثيرا أن يكتب كاتب جزائري باللغة الفرنسية عن الظاهرة القرآنية أو عن وجهة الإسلام ولكن سرعان ما بدأت ملامح هذه الكتابات تتسع عندما بدأ الدكتور عبد السلام الهراس متعه الله بالصحة يكتب ملخصات لهذه الكتب المترجمة من طرف المرحوم في مجلة »دعوة الحق« وإذا بالترجمة العربية لهذه المؤلفات تظهر (وجهة الإسلام) (الظاهرة القرآنية) (شروط النهضة) (مشكلات الثقافة) (فكرة الإفريقية الأسيوية) وكلها مرتبطة بترجمة هذا الشاب في تلك المرحلة من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية وتمتاز الظاهرة القرآنية بتلك المقدمة لمحمود محمد شاكر عن الإعجاز واللغة العربية. ويأتي بعد ذلك في باب الترجمة كتاب الدستور الأخلاقي في القرآن لدراز وفلسطين ارض الرسالات الإلهية لروجي كارودي، ولي مع هذا الكتاب الأخير قصة حيث كتبت مقالا لم ينشر في موضوع بين كتاب مترجم ومقدمته، لعلي انشره في هذه المناسبة. ان ما أسداه الرجل بهذه الترجمة لتلك الكتب في تلك المرحلة القلقة والمضطربة لدى الشباب المسلم أمام الهجمة للمذاهب الوافدة شرقا وغربا وأمام اندفاع الشباب وراء السراب الأيدلوجي يمينا ويسارا يعتبر شيئا عظيما وكبيرا. وتشاء الأقدار كذلك أن تقترن وفاة عبد الصبور شاهين بذكرى وفاة مالك بن نبي التي كانت في أكتوبر من سنة 1973. وعلى أي حال فإن وفاة العالم الأديب اللغوي عبد الصبور شاهين ستترك فراغا كبيرا في الحياة العلمية والفكرية في العالمي العربي والإسلامي وسيبقى العزاء عنه ما تركه من تراث علمي وأدبي وما رسمه من منهج قويم في الدراسة والبحث.