ينوي البعض، وهو يستعد للترشح للانتخابات التشريعية، كثيرا من النوايا، أهمها أنه سيتمتع بحصانة برلمانية تَقِيهِ انقلابات الوقت، ونوائب الدّهر، وسَيُجالِس ويتكلم ويُصاحِب الناس الكبار، وستكون له «كلمة» في البلاد. حين يفوز بالمقعد البرلماني، يبدأ في وضع خريطة طريق خاصة بالمرحلة الجديدة، يضع على رأسها كيفية الاستفادة من بطاقة نائب برلماني، والبحث عن الامتيازات الشخصية، ولا ينسى، في غمرة التخطيط لتحقيق أحلامه، تغيير عاداته وسلوكه، وتغيير ملابسه وأصدقائه، وسيارته ومنزله، وربما حتى زوجته. ألم يصبح «مُمَثِّلاً للأمة»؟ هذا ما كان يبحث عنه وقد بذل في سبيل ذلك الغالي والنفيس؛ والآن جاءت الفرصة لاسترداد كل الغالي والنفيس وما فوقهما. وكل الطرق تؤدّي إلى.... مرت هذه الصور وغيرها أمامي وأنا أتابع، باهتمام، خطاب جلالة الملك محمد السادس، الذي ألقاه بالبرلمان بمناسبة افتتاحه الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية الثامنة، خاصة الفقرة التي يقول فيها: «إن عضوية البرلمان ليست امتيازا شخصيا، بقدر ما هي أمانة ، تقتضي الانكباب الجاد ، بكل مسؤولية والتزام، على إيجاد حلول واقعية ، للقضايا الملحة للشعب..» أعدت قراءة هذه الفقرة، بإمعان، عدة مرات وتذكرتُ أسماء وصور نواب برلمانيين أعرفهم، كانوا عفا الله عنهم يتعمّدون إظهار التباهي بصفتهم البرلمانية بشكل مستفز. منهم من كان يذهب إلى مقر البرلمان، ليس للقيام بواجبه النيابي، بل لعقد لقاءات مع من يعتبرهم شخصيات وازنة يمكن أن يستفيد من علاقاتهم. أما الحديث عن لقائه بالمواطنين، فهو ضَرْبٌ من الخيال. منهم من أصبح بمثابة مُمَوِّل حفلات، أجَنْدَتُهُ كلها مواعيد ولائم في مختلف الفنادق والمزارع والمطاعم البعيدة عن عيون الفضوليين. أتذكر أيضا نوابا هم في نفس الوقت رؤساء جماعات، لايقومون بمهامهم النيابية ولا بمهامهم الجماعية، ولا حتى الحزبية. إذا سألتَ عنهم في مقر الجماعة يقال لك إنه في البرلمان، وإذا تعقَّبتَ أثره في مبنى البرلمان يقال لك إنه في الجماعة !!؟ وبين البرلمان والجماعة مسافات وشوارع يوجد فيها ما يُغْري ويُلْهي عن الذهاب إليهما. ماذا يفعل هذا المواطن الذي يبحث عن رئيس جماعته الذي هو في نفس الوقت مُمَثِّله في البرلمان لكي يلتقي به، ولا يجد له أثرا لا هنا ولا هناك!؟ أتذكر، وأنا أقوم بمهمة المحررالبرلماني لجريدة «العَلَم» في الثمانينيات من القرن العشرين، النائب المرحوم علي يعته، زعيم حزب «التقدم والاشتراكية»، وكان الممثل الوحيد لحزبه في البرلمان الذي كان يتكون من غرفة واحدة هي مجلس النوّاب، كيف كان الرجل يسعى من مكتب إلى مكتب، ومن لجنة إلى لجنة، ومن اجتماع إلى اجتماع. كان يصرعلى حضورجميع الجلسات البرلمانية؛ يشارك، بجدٍّ ونشاط، في سائر أشغالها ومناقشاتها ... قبل أن يعود، في المساء، إلى الدارالبيضاء، ليقف على أمورالجريدة التي كان يشرف على إدارتها، وما تَبَقَّى من الوقت يُخَصِّصُهُ للقضايا الحزبية... أظن أن خطاب جلالة الملك محمد السادس واضح كل الوضوح . وضع الأصبع على مكامن الداء، وشدّد على أن عضوية البرلمان لا تُكْسب صاحبها امتيازا على خلْقِ الله؛ وهي أمانة قبل كل شيء، وأنّ من يحمل هذه الصفة مُؤْتَمَنٌ على مصالح البلاد والعباد، وعليه تَحَمُّل مسؤوليته لدرجة أنها مقرونة في ديننا الحنيف بالإيمان: «لا إيمان لمن لا أمانة له». وعلى هذا المُؤْتَمَن النائب أن يكون مؤمنا أشد الإيمان بقضايا شعبه ووطنه. حينها يسهل عليه تناولها وإيجاد الحلول لها. لم يعد أمامنا مجال لهَدْرِ الوقت من أجل التصدي لقضايا التعليم الذي يجب أن يكون نافعا، وليس أيّ تعليم بأيّة طريقة؛ ومعالجة قضية السكن الذي ينبغي أن يكون لائقا، وليس بضعة أمتار لاتسعف المواطن في مَدِّ رجله داخل غرفته؛ ومواجهة مشاكل التغطية الصحية التي تتطلب العناية بالمريض حتى تعود إليه عافيته ويعود إلى نشاطه؛ والقَطْعُ مع العادة السيئة التي تقول:«ادفع لكي تُعَاَلَج»؛ والاهتمام بموضوع البيئة السليمة، فقد بحَّ صوت «بُونْظيفْ» من كثرة المناداة بضرورة تَهْيِيء بيئة نقية لنا ولأبنائنا وللأجيال القادمة ؛ والنظر بعمق في مسألة تحفيز الاستثمار بأسلوب مَرِنٍ وعقلاني، وبكيفية سَلْسَة تجعل المستثمر يثق في الإمكانات المُهَيَّأَة له من طرف الجهات المعنية ، لأن الأمر، في النهاية ، يتعلق بتوفير فُرَص الشغل والتنمية البشرية المستدامة. ألاَ إن جلالة الملك قد بلّغ. [email protected]