من الكتب الجديدة الجيدة والمتميزة التي صدرت أخيراً في تركيا، كتاب للمفكر المجدّد المصلح المربي القدوة الأستاذ محمد فتح الله كولن، بعنوان (التلال الزمردية: نحو حياة القلب والروح)، ترجمه من اللغة التركية إلى اللغة العربية، الأستاذ إحسان قاسم الصالحي. وصدرت الطبعة الرابعة للجزء الأول عن دار النيل للطباعة والنشر في القاهرة خلال السنة الحالية، وقدم له الأستاذ أديب إبراهيم الدباغ. وعلمت من المترجم أنه يعمل في ترجمة الجزء الثاني. و(هذا الكتاب مرآة للروح تنعكس على صفحاته، وتعكسه على الآخرين، والروح لا جهات لها، فمن أين أتيتها فقد أتيتها، وكذلك من أين دلفتَ إلى هذا الكتاب، فقد دلفت إلى الكتاب كله، وإلى روح صاحب الكتاب). بهذه الكلمات الجامعة المعبرة الموحية، يقدم أديب إبراهيم الدباغ الكتاب إلى القارئ. وأشهد أني قرأت الجزء الأول من هذا الكتاب مرتين؛ المرة الأولى كانت في شهر مارس الماضي في طبعته الثانية، والمرة الثانية كانت أثناء زيارتي الأخيرة إلى إستانبول مع الأسرة في الأسبوع الأخير من شهر يوليو الماضي. وتحت يديَّ في مكتبتي الطبعتان الثانية والرابعة. وكنت قد قرأت كتباً أخرى للمؤلف خلال السنتين الماضيتين، أذكر منها كتابه القيم الذي لم أقع على مثيل له (النور الخالد محمد صلى الله عليه وسلم مفخرة الإنسانية)، وكتابه (أضواء قرآنية في سماء الوجدان)، وعناوين أخرى. وقد بلغ عدد المؤلفات التي صدرت للمؤلف باللغة العربية حتى الآن، أربعة عشر كتاباً، منها (سلسلة النور الخالد) التي تقع في سبعة أجزاء. ولكن (التلال الزمردية) نسيج وحده، ليس فقط من بين مؤلفات الأستاذ محمد فتح الله كولن، وإنما من بين الكتب التي صدرت باللغة العربية فيما أعلم، إذ لا أعرف كتاباً في المكتبة العربية المعاصرة ينحو هذا المنحى وبهذا المستوى من العمق والشفافية والوهج الروحي والتألق الفكري. ولذلك احتفيتُ بالكتاب، واستمتعت به، وأفدت منه، ووجدت فيه ما لم أجده في غيره. ولا غرو فالمؤلف خرج من تحت معطف بديع الزمان سعيد النورسي، العارف بالله المصلح المنقذ للإيمان المجدّد للروح الذي كان له التأثيرُ القويُّ في تنشئة الأجيال التركية على الإيمان والتمسك بالقرآن والسنة، في مرحلة النكوص والتراجع التي عاشتها تركيا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى إلى منتصف القرن العشرين، في ظاهرة لم يعرف بلد عربيٌّ إسلاميٌّ مثيلا لها على الإطلاق. والغريب أن المؤلف محمد فتح الله كولن لم يلتق بسعيد النورسي، ولكنه قرأ (رسائل النور) بتعمق وتأمل وتمعن وتبصّر وتدبر وتفكر، فنذر حياته ليترجم رسائل سعيد النورسي إلى الواقع المعيش، وإلى ممارسات ومبادرات وسلوكيات، وإلى منهجٍ تجديديٍّ في الحياة التركية أصفه دائماً بأنه فريد من نوعه على صعيد العالم الإسلامي كله بدون منازع. يرسم المؤلف في هذا الكتاب المثير للتأمل، طريق ارتقاء القلب الإنساني في معارج المعرفة الإلهية التي هي أرقى معارف الإنسان قاطبة، وكل معرفة دونها هي مدينة لها، وظل من ظلالها، وأثر من آثارها. وقد استعان المؤلف في رسم معالم هذه الطريق بتجاربه الذاتية، وبتجارب جمهرة من فضلاء مَن سلك هذه الطريق نفسها من عظماء العارفين بالله الملتزمين بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. ولقد وفق الأستاذ أديب إبراهيم الدباع في تلخيص الكتاب واستخراج زبدته في تقديمه الرائع الشيّق. كما وفق المترجم الأستاذ إحسان قاسم الصالحي، في ترجمة الكتاب إلى لغة عربية جميلة آسرة استوعبت أدق المعاني وأرقّ الرؤى وأعمق التأملات وأطيب النفحات وأزكى الفتوحات التي فاضت بها روح المؤلف. وليس ذلك بغريب على المترجم البارع المتقن لعمله الأستاذ إحسان قاسم الصالحي، فهو الذي قدم للقارئ العربي (كليات رسائل النور) لسعيد النورسي في عشرة مجلدات ضخمة. وإليه يعود الفضل في تعريف القراء العرب ببديع الزمان سعيد النورسي الذي كان نسيج وحده وآية من آيات الله في القرن العشرين. والقارئ لهذا الكتاب يشعر كما لو أنه يحلق في سماء النورسي، ويرتشف من ينابيعه التي تطفئ الظمأ وتشفي الغليل، فالمؤلف ينتقل بالقارئ عبر ستة وأربعين فصلاً، من مقام إلى آخر، يبدأ بالغوص في معاني التصوف الذي يخصص له ثلاثة فصول، ثم ينتقل إلى التوبة والإنابة والأوبة في فصل قائم الذات، ثم يعبر بالقارئ إلى المقامات التالية: المحاسبة، التفكر، الفرار والاعتصام، الخلوة والعزلة، الحال والمقام، القلب، الحزن، الخوف والخشية، الرجاء، الزهد، التقوى، الورع، قبل أن يصل إلى العبادة والعبودية والعبودة التي يجمعها في فصل واحد. ومن هنا يبدأ في الكلام الدقيق العميق عن المراقبة، والإخلاص، والاستقامة، ويجمع في فصل واحد بين التوكل والتسليم والتفويض والثقة، ثم يأتي مقام الخلق، ويليه مقامات التواضع، والفتوة، والصدق، والحياء، والشكر، والصبر، والرضا، والانبساط، والقصد والعزم (في فصل واحد)، والإرادة والمريد والمراد (في فصل واحد)، واليقين، والذكر، والإحسان، والبصيرة والفراسة (في فصل واحد)، والسكينة والطمأنينة أو الاطمئنان (في فصل واحد)، والقرب والبعد (في فصل واحد)، والمعرفة، والمحبة، والعشق، والشوق والاشتياق (في فصل واحد)، والجذبة والانجذاب (في فصل واحد)، والدهشة والحيرة (في فصل واحد)، والقبض والبسط (في فصل واحد)، ويجمع في آخر الفصول بين الفقر والغنى. في فصل التوبة والإنابة والأوبة، يقول المؤلف إن (التوبة هي تجديد الإنسان لنفسه باستمرار، أو رجوعه إلى صفائه الأصلي وانسجامه مع فطرته الذاتية، بعد تعرضه لتشوهات طبْعية وداخلية، تحتوي كل مرتبة من مراتبها على أمثال الأمور الآتية: 1) الندم من أعماق القلب، 2) تذكر الأخطاء السابقة بارتعاش ورعدة، 3) إزالة المظالم ونصرة الحق، 4) إيفاء الواجبات والتكاليف الفائتة حقَّها وإمعان النظر مجدداً في المسؤوليات، 5) ملء الخواء الذي أحدثته الأخطاء والزلات في الروح، بالعبادة والطاعات واغتنام التضرعات في جوف الليالي، 6) بالنسبة للخواص وأخص الخواص؛ التحسر والبكاء على الحياة التي تمضي دون ذكر وفكر وشكر، والتأوه والأنين وجلا ً مما يمكن أن يتسرب بقصدٍ شيءٌ مما سواه تعالى في الشعور والفكر) الصفحة 34 . ويقول في هذا السياق في عبارات عميقة منعشة للروح منيرة للعقل: (إن الذي لا يئن ولا يتوجع من الخطأ مهما كان مستواه في أثناء التوبة، ولا يرتعش نادماً من عثرات يمكن أن تحدث، ولا يشعر باشمئزاز ولا يتملكه الازدراء نحوها، ولا يرتعد من احتمال وقوعه تحت خط الاستقامة مرة أخرى رغم كل شيء نتيجةَ بُعده عن الله سبحانه، ولا يحاول التخلص مما وقع فيه من أخطاء وزلات في عبوديته لله وتخلقه بالعبودية .. يكون كاذباً في توبته). ويقسم المؤلف الصوفيين إلى مجموعتين رئيسَتَيْن، الأولى: المنطلقون في مدار العلم بحثاً عن الوصال بأجنحة المعرفة، والأخرى: السالكون لتحري الذوق والوجد والكشف فحسب. ويشرح قائلاً : (المجموعة الأولى، وهم الذين يحلقون في الذرى ب (لا حول ولا قوة إلا بالله)، فيقضون حياتهم بأجنحة العلم والمعرفة في سفر لا نهاية له، في آفاق (السير إلى الله)، و(السير في الله)، و(السير عن الله). فكل ما يشاهدونه من تبدل وتغيّر وتكوّن في الوجود، يقدم لهم مئات من الرسائل من القدرة والإرادة الإلهيتين، وكل حادثة تهمس لهم بنغمات مختلفة بألسنة متباينة. أما المجموعة الثانية، فهم الباحثون عن الكشف والكرامة والذوق والوجد والتواجد. لذا يمكن أن يعيشوا «البعدُ» في إقليم «القرب»، لذهولهم أحياناً عن الهدف، رغم أنهم جادّون في سيرهم وسلوكهم وزهدهم) الصفحة 29 . ويفصل المؤلف المفكر المتعمق كلامه بدقة أكثر، فيقول إن الطريق الأول، هو طريق أصحاب الولاية الكبرى السائرين في ظل ريادة القرآن الكريم، والطريق الثاني تتقدم فيه أحياناً الرغبات والمشاعر والترقّبات، رغم أن مداره في الأساس القرآن الكريم والسنة النبوية. لهذا فهو طريق أقل أمناً من الأول. وفي مقام المحاسبة الذي هو من أجلّ المقامات ومن أصعبها أيضاً، يقول المؤلف في عبارات دالة: (المحاسبة كالقنديل في عالم المؤمن الداخلي، وكالناصح الأمين في وجدانه، يميز بها الخير عن الشر والحسن عن القبح، وما يحبه الله عما لا يحبه. وبريادة ذلك الناصح الخيّر وإرشاده، يقتحم ما لا يقتحم من عقبات ويبلغ هدفه دون مبالاة بالعوائق) الصفحة 40 . ثم يزيد في التدقيق (والترقيق أيضاً) فيقول عن المحاسبة: (إنها في مواضيع الإيمان والعبودية والتوفيق والقُربية ونيل السعادة الأبوية تدور بمحض العناية الإلهية والرحمة الإلهية، وهي الخصم اللدود للأمان التام مثلما هي لليأس. إنها مفتوحة كلياً على السكينة والاطمئنان، كما تتمحور على الخوف والقلق والاضطراب. ففي ربوع القلوب المخضلة بالخشوع، المتفتحة للمحاسبة، ترجّع دائماً صدى أنين (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ً ولبكيتم كثيرًا)، وفي إقليمها حيث تعيش الطمأنينة والمهابة مندمجة، تدوّي انكسارات الأفذاذ الذين أقضَّت المسؤولية ظهورهم ب (لوددت أني كنت شجرة تعضد). وهم يشعرون كل آن كأن قوله تعالى: ]حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم[ التوبة: 118 . ففي كل جزء من أجزاء دفاعهم يرنّ ]وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله[ البقرة: 284 وتنطلق ألسنتهم بصراخ ( يا ليتني لم تلدني أمي). ثم يخلص المؤلف إلى القول الفصل في هذا المقام، بأن المحاسبة بهذا القياس أمر صعب عسير. ولكن الذي لا يحاسب نفسه بهذا المستوى لا يمكن أن يستثمر الزمان، فلا يتميز يومه عن أمسه ولا غده عن يومه. فمن يهدر الزمان فلن يبدي فعالية وكفاءة أخروية ألبتة الصفحة 41 . إن الأستاذ محمد فتح الله كولن يعلمنا في هذا الكتاب، كيف نشحن النفس بقوى الإيمان وطاقاته في مواجهة محن الزمان، وهو يريد من المسلم أن يكون عظيم النفس، هائلاً في عظمته، مهيباً في سموه، خارقاً في قوة روحه، وأن يظل تعطشه إلى الحياة متأججاً في قلبه، وإذا ما خانته نفسه رجع إلى الله متضرعاً. والمؤلف يجمع في كتابه بين العشق والإشراق والعرفان والتصوف القائم على القرآن والسنة، وبين الشعر والفلسفة وعلوم شتى في براعة آسرة.