كثير من الناس يعرفون علال الفاسي كمناضل سياسي وهب نفسه للدفاع عن بلاده أمام تعنت وجبروت المستعمر الذي دأب على إستغلال البلاد والعباد. لكن للحقيقة والتاريخ فإن علال الفاسي جمع بين مآرب شتى، وساهم طيلة حياته في تنوير عقول الناس بمواقفه، وأفكاره، ونضاله وكان نظم الشعر يعبر عما يخالج نفسه. ونقدم في هذه الصفحة مختارات من شعره رحمه الله كما ندرج مقدمة كتاب المختار من شعر علال الفاسي الذي وضعته اللجنة الثقافية لحزب الاستقلال والتي كان يرأسها الأستاذ عبد الكريم غلاب سنة 1976 . «كان اللقاء الاول لعلال الفاسي مع الجماهير عن طريق الشعر. فقد عرف وهو ما يزال فتى دون الخامسة عشرة في الحي وفي الوسط العائلي الكبير بنبوغه في دروسه وبحماسه للقضايا التي كانت تثار بين التلاميذ، ولكنه انتهز فرصة ذكرى المولد النبوي والحفلة التي تقام في «زاوية» سيدي عبدالقادر الفاسي وهي حفلة كان ينتظرها كثير من العلماء والطلبة والمتأدبين فألقى قصيدة في مدح الرسول . اشرأبت الاعناق الى هذا الفتى الصغير الذي وقف وسط مجموعة كبيرة من رجال العلم في جرأة وحماس ليلقى شعرا اختار له المناسبة الكريمة. وتحدثت فاس جميعها عن اسم شاب يمتلئ فصاحة وبلاغة وجرأة ينشد شعرا ممتازا في مدح الرسول. وقد يكون المجتمع الثقافي في القرويين مايزال في منتصف العشرينات ينظر الى الشعر والشعراء نظرة ملئها الريبة، ولكن حينما يكون الشعر في مدح الرسول يحني المعارضون هاماتهم تقديرا للذين ينهجون نهج البوصيري في البردة والهمزية. وسط آخر لم يندهش من قولة علال هو جماعة الطلبة الذين كانوا يجتمعون بعد أن ينتهوا من دروسهم ليتحدثوا فيما درسوا وفي الكتب التي يجب أن يقرأوا، ويتبادلوا وجهات النظر في القضايا الوطنية ويعلقوا على ما أنشدهم أستاذهم الشيخ أحمد بن المأمون البلغيثي من شعره ويكاد يسربه اليهم لان الشيوخ المحترمين لا ينبغي أن يعنوا بنظم الشعر، الذاتي والعاطفي منه بخاصة هذه الجماعة لم تدهش من حديث الناس عن الفتى الذي ألقى قصيدة «عصماء» في زاوية سيدي عبدالقادر الفاسي، لانها كانت تعرف شعره من خلال ما تسمع منه عندما ينشد لزملائه وفيهم الشعراء المبدعون كالمختار السوسي قصائده . وكان شعر هذا الشاعر عند الزملاء يطرق أبوابا جديدة تختلف عما قرأوا من شعر الحماسة أو المعلقات أو شعر الغزل والمدح. مفردات جديدة وروح جديد وأن لم يبهرهم بالغريب القاموسى من الالفاظ والقوافى النادرة والاوزان المعقدة. ويخرج صيت علال الشعري من فاس الى بقية أنحاء المغرب فتردد قصائده الوطنية الجماعات الوطنية الأولى في الرباط وتطوان وسلا مثلا. وسرعان ما يعرف بشاعر الشباب، بعد أن أطلق على نفسه هذا اللقب: فأنا شاعر الشباب أناديكم.. ولعل عمله في الميدان الوطني كان يفرض عليه أن يكون شاعر الوطنية، فلا يكاد يمر حادث الا وعلال حاضر فيه بشعره، قصيدة أو نشيداً، وقلما كانت تتاح له الفرص ليلقى هذا الشعر أو ينشره، فوسائل النشر كانت منعدمة والمهرجانات الخطابية والشعرية أكثر انعداما، ولكن شعره مع ذلك يذيع في الافاق يحفظه الرواة ويردده الادباء والمتأدبون لانه يعبر عن مطامح شعبه، وكأنه لسان هذا الشعب. من هنا يمكن أن نقول: ان علال الفاسي نشأ في شعره ملتزما مع قضايا شعبه. بدأ هذا الالتزام مع القضايا العامة: مطامح الشعب، الحرية، التحرر من البوس.. ثم تبلور في القضايا الخاصة: الفلاح، العامل، الارض، الاضطهاد... ثم تطور الى شمولية الفكر الوطني: العروبة، الاسلام، فلسطين، نيجيريا، اندونيسيا... الشعر الذاتي أخذ حظا وافرا من شعر شعراء العربية، والمحدثين منهم أيضا. ولكن علال الفاسي لم يعش شعره كقضية بلاغية أو فنية بمقدار ما عاشه كوسيلة للتعبير عن القضية التي وهب لها حياته. فمنذ قصيدته المشهورة: أبعد مرور الخمس عشرة ألعب وألهو بلذات الحياة وأطرب وهي من أوائل شعره الى قصيدته المشهورة: عهارة فكر.. وهي من أواخر شعره، لم يكن علال يهدف الى غاية بلاغية أو الى هدف فنى يحقق مقولة الفن للفن، وانما كان ملتزما مع قضايا الحرية والانسان المسحوق. وحتى القصائد الذاتية التي قال الكثير منها وبخاصة في منفاه الطويل السحيق كان يجسد من نفسه وعواطفه الانسان الذي يجتاز تجربة الظلم فيفرق بينه وبين وطنه وحبيبه وفلذة كبده. من طبيعة علال الفاسي التي اكتسبها من مرانه الطويل مع القضايا السياسية والفكرية أنه كان هادفا، يقول أفكاره عن وضوح ويعبر عنها من أقرب طريق. وقد اتسم شعره في غالبه بهذا الوضوح والاستهداف. يتعامل مع الفكرة تعامل من يستعجل ايصالها الى عقل القارئ . ولذلك لا يرى في الوسيلة الفنية التي قد تغلف فكرته بغموض الفن الذي يستهدف الفن، لا يرى في هذه الوسيلة الا التجاء الى الرمزيات والتجريديات والغيبيات. ومن ثم لا نكاد نجد في شعره صورا تجريدية غائمة بمقدار ما نجد صورا شعرية واضحة تعطى من أول لقاء. لايعني ذلك أنه لا يوفر لشعره الاداة التصويرية. ولكن أسلوبه في الاداء الفني لا يعتمد على الاغراب في اللفظ أو الاغماض في التصوير أو التعقيد في الاداء أو الدوران حول الفكرة. ولكن الاداء الفني المباشر هو سبيله في التعبير عن الصور والافكار والقضايا التي كتب عنها شعره. حتى أفكاره الفلسفية التي ردد أصداءها في شعره وخاصة الرباعيات والقصص والاساطير أداها من أقرب طريق. كانت أناشيده الوطنية منذ بداية تعامله مع الشعر لا تخضع دائما للاوزان التقليدية والقافية الرتيبة، ولذلك لم يكن غريبا عليه الشعر المتحرر من رتابة الوزن ورتابة القافية، بل اننا نجد من قصائد المنفى نماذج متحررة من وحدة القافية كما نجد في احدى قصائد الحرية: وددت لو أنى زهر الربى يشق الطريق لكى يلمسك يعانق روحك مستعذبا ويعصر منى طلا خمرتك وددت لو أنى تلك الطيو ر تهيم بكونك في مرح وهذا الفراش شديد الزهو يراقص لحنك في فرج كما نجد من قصائد المنفى أيضا (أوائل الأربعينات) نماذج تحرر فيها من وحدة الوزن «رجع نواح» مثلا (نوفمبر 1943). ويح نفسي مما يكابد جنسي وفؤادي مما تعاني بلادي * * * * أيذبل في الكون روض بلادي وما كان الا حليف اخضرار * * * * وأين بهاها وأين جناها وإذا كان متأثرا في هذا الاتجاه بالموشحات فإن الشعر الذي قاله متحررا من رتابة الوزن ورتابة القافية في أواخر الثلاثينات وبداية الاربعينيات لم يكن شعرا غنائيا على غرار شعر الموشحات بل كان شعرا ملتزما مع قضايا بلاده. اعني أن الموضوع ليس هو الذي فرض عليه هذا النوع من فن القول، وانما هو الفكرة في أن الشعر يمكن أن يتحرر من الوزن الرتيب والقافية الرتيبة. ولكنه تحرر من يبدع طريقة جديدة في الاداء تعتمد على الايقاع الموسيقى الذي يعكس الفكرة التي يعبر عنها. وهكذا نجد أن تحلل علال الفاسي من رتابة الوزن والقافية لم تكن عن تقليد أو مسايرة للمجددين من الشعراء، بل عن ابتداع أصيل نجد نماذجه في بداياته الشعرية، ولم يكن عن اهمال وتحرر من الاداء الموسيقى، ولكنه التزام متحرر بموسيقى الكلمة والفقرة الشعرية التي يخرج فيها أحيانا عن بحور الشعر العربي المعروفة، ويلتزم في كثير من الأحيان بتفاعيل معينة ومنوعة. وبالرجوع الى القصائد الكثيرة التي تحرر فيها من رتابة الوزن ورتابة القافية يمكن أن يتضح هذا الاتجاه. ورغم هذا التطور في الاداة الشعرية فيمكن ان نقول: ان علالا كان يعنى بالمضمون أكثر مما كان يعنى بالشكل. ولهذا لاتجده يفرق في الاداة التعبيرية بقدر ما يهتم بالمضمون الثورى في القصيدة الشعرية. هناك خيط يربط بين قصائد علال منذ كلمة البدء حتى آخر قصيدة قالها هو الثورة على الأوضاع السياسيةوالاجتماعية والفكرية. ولذلك عاش بفكره في شعره أكثر مما عاش بعاطفته. كان ثائرا منذ البدء، وعاش حياة كفاح مرير نتيجة ثورته وذاق مرارة السجن والنفي والابعاد والتشرد في الآفاق، ولكن رؤياه للاعصار الذي عاش فيه لم تكن ذاتية ولذلك لم يكن شعره فيها غنائيا، وانما كانت رؤيا داخل العالم الفكري النضالي الذي عاش فيه، ولذلك كان شعره ثوريا، يصدر عن فكرة ويؤدى فكرة، ولا يصدر عن تصور فوقى أو بعدى فيمتلئ بالصور الخيالية المجنحة. الخيط الفكري الذي يربط حياة علال النضالية هو الذي يربط حياته الشعرية. ولو لم تكن رؤياه للشعر على هذا النحو من الواقعية لنفض يده من الشعر في مبكر شبابه فيما اعتقد. بهذه النظرة يمكن أن ندرس شعر علال دراسة نقدية. أما تبنى الأفكار النظرية والأفكار الجاهزة وتطبيقها على شعر علال فستكون تعاملا مع غير موضوع. استمر علال يقول الشعر ما يقارب خمسين عاما. وقد ضاع من هذا الشعر الكثير أثناء الهجرات المتعددة من المنزل إلى السجن إلى النفي إلى التجول في آفاق الدنيا وأثناء تفتيش الشرطة وحجز أوراقه والعبث بكتبه، ومع ذلك بقى الكثير. وحاول عدة مرات أن ينشر ديوانه الذي أسماه «روض الملك» - كان الشعر عنده روضا من رياض الملائكة - ولم يكن يسعفه الوقت ولا الوسائل، فقد كان الديوان في حاجة إلى مراجعة، وأكثر ما كان يثقل عليه أن يعود إلى عمل نفض يده منه. ولذلك كان يأسف دائما للمطابع التي لاتستطيع أن تجارى المؤلف وهو يكتب. وكان يؤخر نشر الديوان إلى أن يجد من الوقت ما يكفيه لإخراجه. ووقته هو الشيء الذي لم يكن يستطيع أن يتحكم في ملكيته، فبقى الديوان موزعا في الدفاتر والصحف والمجلات والأوراق. ولانستطيع أن نقول: أن في مقدورنا أن نحصل على كل هذه الدفاتر والصحف والأوراق وأثناء الاعداد للاحتفال بذكراه الثانية قررت اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال أن تنشر ديوان علال الفاسي، وعهدت بذلك إلى اللجنة الثقافية للحزب. الوقت قصير، والشعر - الذي امتد انشاده على مدى نصف قرن - كثير. ولهذا قررت اللجنة، وفاء منها لأدب علال الفاسي ونضاله، أن تنشر الديوان في أجزاء، وأن تبدأ بنشر مختار من شعره بمناسبة الذكرى الثانية لوفاته (13 مايو 1976) وان يتضمن هذا المختار نماذج من عهوده ونماذج من مضمونه وموضوعاته فتوزعت الكراسات وبعض المجلات والصحف وبذلت جهدا مشكورا في إخراج هذا المختار الذي نقدمه لقراء العربية اليوم على أمل أن تفي اللجنة بوعدها في اخراج الأجزاد الأخرى من الديوان نرجو أن يكون ذلك في أقرب وقت ممكن. وبعد: فهذا نموذج من تراث علال الفاسي. وربما كان علال قد انفرد بين الزعماء السياسيين في مختلف القارات بأنه لم يكن يخترن أفكاره، وانما كان يفكر ويبحث ويكتب ويطبق ما فيه يفكر ويكتبه. ذلك لأنه كان زعيما مثقفا يقرأ بقدر ما يفكر وينتج بقدر ما يقرأ. وهكذا ترك مكتبة هائلة وتراثا فكريا هائلا تضمنته كتبه العديدة ومحاضراته كما تضمنه شعره. ونشرنا لهذا المختار من الشعر هو مساهمة في حفظ هذا التراث وفي اطلاع قراء العربية عليه. كل رجائنا أن يجد من القراء تجاوبا مع الروح الذي املى هذا الشعر. 10 أبريل 1976 عبد الكريم غلاب