حلت أول أمس ذكرى وفاة الزعيم الرائد علال الفاسي رحمه الله، اذ في الثالث عشر من شهر ماي سنة 1974 فجعنا في فقد الرجل الشهم الذي كان ملء السمع والنظر، الرجل الذي ترك بصماته في حياة المغرب، وكان كل وقته لكل بلاده ولكل مواطنيه ولكل المسلمين والعرب. وجد علال الفاسي في ظرف من أخطر الظروف التي مرت بالعالم الاسلامي والعربي والمغرب العربي بخاصة، ظروف تنمر فيها الاستعمار وكشر عن أنيابه واستعادعافيته بعد حربين مدمرتين. وكان الهدف هو بلادنا العربية. كان الاستعمار لا يعني فقط احتلال البلاد وامتلاك خيراتها وممتلكاتها. كان إلى جانب ذلك استعباد الإنسان والقضاء على كرامته يعرف أن الكرامة هي الانسانية وأنه بالكرامة يستطيع أن يستعيد الوطن والانسان. لذلك كان همه أن يقضي على كرامته ليجعل منه عبدا مسيرا لا مخيرا، وليجعل من جهوده الاداة التي تحقق مصالحه في الأرض وممكناتها، حجب عنه الحرية لتكتمل عبوديته. وحجب عنه التعليم لتكتمل أميته، واغتصب أرضه ليجعل منه عبدا. حينما بدا علال الفاسي يفكر في قضايا وطنه، وهو بعد فتى لم يبلغ العشرين كان الاستعمار في عنفوانه يملك الأرض بالقانون، ويفوتها للمعمرين بالعطاء ويملأ المدن بالمهيمنين على المقدرات الاقتصادية، ويملأ البادية بالمستوطنين (المعمرين) الذي يمكنهم من الأرض وساكنيها. ولتحقيق كل ذلك في هدوء كان يمنع حرية التفكير والقول والممارسة عن كل المواطنين.. أدرك علال الفاسي أن القضايا التي يعالجها الاستعمار مترابطة، وان الاحتلال العسكري ليس أخطر ما في الاستعمار. استعمار الفكر والشخصية والذات والهوية هي هدف الاستعمار، لأن ذلك وسيلة عسكرية لاحتلال المغرب بدون قتال ولا جنود ولا سلاح. ولذلك اتجه علال الفاسي للدفاع عن الحرية كجزء من كرامة المواطن، والدفاع عن الأرض كجزء من هوية المواطن، والدفاع عن الاسلام كدين يمنح الهوية والكرامة للمواطن. والدفاع عن الفكر الحر كأداة يحرر بها المواطن نفسه من اغتصاب الأرض واستلاب الروح. هذا التشابك والتكامل في العمل الاستعماري هو الذي جعل من فكر علال الفاسي بوثقة يتكامل فيها الدفاع عن الأرض بالدفاع عن الكرامة والدفاع عن الحرية (بالمفهوم العام للحرية والكرامة الذي يعني تحرير المواطن من الجهل وعقدة العبودية وتحرير فكره من التعبد للأفكار الاستعمارية وتحرير روحه من الخوف وعقدة الاحتلال) والدفاع عن الإسلام يحقق قدرا كبيرا من هذه الحريات. لأن الاسلام كرم بني آدام. أي منحهم الكرامة التي بها يصبحون أحرارا. لا عبيدا ومستقلين لا مستعمرين وعاملين في أرضهم لا عبيداً للأرض ومن يملكها من المستعمرين، ومالكين لمقدراتهم الاقتصادية لا خادمين للذين يملكون هذه المقدرات. هذا النضال الشمولي هو خلاصة زعيم رائد اسمه علال الفاسي. ولذلك ناضل بالعمل لتجنيد الشعب حول هذه الأفكار حتى ضاق الاستعمار به ذرعا فنفاه تسع سنوات من أزهر سنوات شبابه إلى الغابون في مجاهل افريقيا. وناضل بفكره في كل ما كتب من عشرات المؤلفات وآلاف المقالات حتى ترك للأجيال القادمة مدونة فكرية تضع الأسس للبناء الفكري والاجتماعي والاقتصادي والاسلامي للمغرب المستقل. وناضل وهو يحاضر ويخطب في المغرب وفي كل البلاد العربية ليثير الفكر المغربي والعربي والاسلامي ضد الاستعمار في شموليته، وليس فقط احتلاله العسكري. وناضل وهو يكون المقاومة وجيش التحرير ليكتمل بالجهاد المسلح النضال الفكري والجهاد بالكلمة. ثم ربط جهاده في المغرب بجهاده لتحرير المغرب العربي، فكان تكوين جيش التحرير الجزائري جزء من مشروعه الكبير ضد الاستعمار، لأنه كان يوصي بأن الاستعمار الذي ابتدأ احتلاله لبلادنا باحتلال الجزائر لن تسلم منه بلادنا نهائيا إلا بتحرير الجزائر وتونس وبقية أجزاء المغرب. وناضل بمشروعه الكبير في سبيل الوحدة الترابية فكانت الصحراء اهتمامه الكبير لا يكتمل المغرب المستقل بدون تحريرها. حينما انتقل علال الفاسي إلى جوار ربه في مثل هذا اليوم قبل 36 سنة لم يمت على فراشه. وإنما اختار الموت طريقه إليه وهو يناضل في بلاد، ربما كان يزورها لأول مرة ليقنع حكومتها بنضال بلاد اسمها المغرب في سبيل الوحدة والديمقراطية، وفي سبيل بلاد مستعمرة أخرى اسمها فلسطين. بوفاته على هذه الصورة اكتملت شمولية نضاله، وحقق وهو يموت ما هدف إلى تحقيقه وهو حي يتحرك في كل مكان من الأرض. كان رائدا في حياته ووفاته. رحمه الله.