الشركات متعددة الجنسيات هي تلك الشركات العابرة للقارات ؛تزايد عددها في العقدين الأخيرين من القرن العشرين كإحدى أهم معالم النظام الاقتصادي العالمي الجديد ، في خضم تزايد ظاهرة الاصلاحات الاقتصادية التي اجتاحت معظم دول العالم بما فيها الدول المتقدمة والنامية وحتى بلدان المعسكر الشرقي بعد انهياره. وإن بروز الشركات متعددة الجنسيات بالشكل الذي هي عليه اليوم يجسد هيمنة القطبية الأحادية والتوجه الثابت نحو الاندماج في الاقتصاد العالمي الذي يسوده نظام العولمة ؛ وهو ما نستخلص منه أن لفهم النظام الرأسمالي العالمي الجديد في مرحلته الاحتكارية القصوى يكفي فهم ظاهرة الشركات متعددة الجنسيات بشكل أعمق؛ إذ تجسد هذه الأخيرة وحدات القرن العشرين الأكثر نموذجية لمؤسسات الأعمال في الحقل الاقتصادي ذات التأثير الشديد مجاليا على باقي الحقول القانونية والسياسية والاجتماعية والثقافية في مختلف البلدان الحديثة ؛ كيفما كانت طبيعة نظامها السياسي ليبراليا أو شيوعيا نظرا لكونها شركات تتعدى الجنسيات الوطنية وتخترق حدود الدول والقارات . وإن عامل تعددية الجنسيات في الشركات أعلاه لم يعد اليوم هو العامل الأساسي؛ إذ نظرا لما أضحت تتمتع به اليوم من قدرة تنافسية عالمية ومن كفاءة فنية وإدارية وتنظيمية بالإضافة إلى إمكانياتها الهائلة في النقل والتسويق ؛كل هذا يسمح لهذه الشركات بالتنقل بخطوات كبرى وسريعة عبر الحدود لتحويلها إلى شركات عابرة الحدود أو عابرة الجنسيات Transnational Corporation بشكل لا تكون فيه فقط متعددة الجنسيات بل ترقى لتحظى بحق الإسهام في رأس المال الوطني المحلي من خلال امتلاك أسهم حتى في الشركات المحلية. إن الشركات متعددة الجنسيات إذ تنشأ في الغرب غالبا ما تبحث عن أسواق خارجية ذات خصوصيات معينة ومحددة أهمها من جهة أن تكون هذه الأسواق موجودة في بلدان تشبه العالم الغربي أو له قواسم مشتركة معه ومن جهة ثانية أن تكون هذه الأسواق أكثر اتساعا واستيعابا لها ولغيرها من أجل نشر منتجاتها ومن جهة ثالثة تبحث عن بلدان ذات أنظمة قانونية ومالية وتجارية محفزة ومشجعة على الاستثمار بصفة أساسية دون إغفال أن تكون هذه الأنظمة السياسية المهاجر إليها أو المستقر بها أنظمة تسودها قيم ديموقراطية أي قيم الحرية الاقتصادية وحرية المبادرة والحق في الملكية وغيرها من الحريات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية . و تؤكد المعطيات الحديثة أن الشركات متعددة الجنسيات تحظى بأهمية بالغة على المستوى المحلي والدولي نظرا لما تراكمه من قوة اقتصادية كاسحة مادية ومالية وفنية وإعلامية وغيرها ؛ويمكن أن نذكر من بين هذه المعطيات الأرقام التالية : من أصل 100 شركة متعددة الجنسيات الأكبر حجما ثمة 53 شركة أوربية و 23 أمريكية (أي 88 شركة تمثل دول الغرب الكبرى وهي نسبة كاسحة ). حسب بعض الدراسات الاقتصادية الواردة في مجلة «الثروة» Fortune) ( إن الدول 7 الكبرى (الولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا وبريطانيا وألمانيا واليابان وكندا وإيطاليا) تملك 426 شركة من مجموع 500 أكبر الشركات الغربية ؛ وأن من بين أكبر 500 شركة عالمية 418 منها يوجد مقرها الرئيسي في 3 مناطق رئيسية تتركز فيها 20 تريليون دولار أي أكثر من 80 % من الإنتاج العالمي وتستأثر بحوالي 85 %من إجمالي التجارة العالمية ؛ حيث أن هذه المناطق هي: منطقة الاتحاد الأوربي التي تضم 155 شركة ؛ ومنطقة الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تضم 153 شركة ؛ومنطقة اليابان التي تضم 141 شركة ؛وهو ما يفيد أن نسبة استثمارات الشركات متعددة الجنسيات في الدول المتقدمة تناهز أزيد من 80 % بينما في الدول النامية تقل عن 20 % . نسبة نمو الشركات متعددة الجنسيات تبلغ 10% أي بضعفي نسبة نمو البلدان المتقدمة (5%فقط) ؛ ومما يؤكد ذلك بلوغ إيرادات أكبر الشركات سنة 2000 أكثر من 14 تريليون دولار بينما بلغ الناتج القومي الإجمالي لدول العالم 29 تريليون دولار (أي أن الشركات تحقق نصف النمو العالمي تقريبا). إن دخل أكبر 10 شركات متعددة الجنسيات يفوق 3 مرات دخل أفقر 38 دولة في العالم ذات ساكنة تتجاوز بليون نسمة. حسب استطلاع أجراه مؤتمر الأممالمتحدة للتجارة والتنمية فإن دولة الصين أصبحت واحدة من كبريات مراكز الأبحاث والتطوير في العالم ؛ حيث تعتبرها 61.8%من الشركات متعددة الجنسيات في العالم أول اختيار لها لإقامة معاهدها في الخارج ؛كما تعتبر دولة الهند مركز استقبال لأزيد من 500 من كبريات الشركات العالمية ؛وتوجد في مدينة بنغلور الهندية وحدها وخاصة في قطاع التكنولوجيا والاتصالات . وإن ما ساعد على بسط الشركات متعددة الجنسيات لنفوذها هو توفرها على مميزات فريدة لا تتوفر في غيرها من الشركات المشابهة لها على الصعيدين الوطني و الدولي من أهمها ضخامة الحجم والتنوع المتزايد في الأنشطة والتمدد الجغرافي للأسواق وقدرتها على تحويل الإنتاج والاستثمار عالميا و إقامة التحالفات الاستراتيجية وطابع الاحتكارية و تعبئة المدخرات المالية و تعبئة الكفاءات و التخطيط الاستراتيجي ؛ وكلها مميزات من الصعب توفرها في كيان من الكيانات الكبرى . الدكتور بوشعيب أوعبي كلية الحقوق مسقط [email protected]