لعل من القضايا التي شغلت الناس كثيرا ولا تزال هي مناقشة شكل الحكم ومسماه في الإسلام ومقارنته بما عند الغير، وليس في الأمر ما يقلق أو يخرج عن دائرة اهتمام الناس مادام الحكم و مضمونه و آثاره له تأثير على حياة الناس سلبا وايجابا، ولكن الغريب في الأمر هو أن يكون المعيار هو مقاييس الغير مع وجود اختلاف في الدين والثقافة وتباين التجارب الإنسانية في ممارسة الحكم وأساليبه. وفي حديث الجمعة اليوم نناقش بعض الشبه والأسئلة التي أثيرت أثناء تقديم العرض الذي سبق نشره على أعمدة «العلم» في الأسابيع الأخيرة. تساءلت قبل الإقدام على تحرير هذا الحديث أليس من الأمانة وقد تحدثت إلى قراء هذا الركن عما جاء في العرض الذي تقدمت به إلى الإخوة الذين شرفوني بالحضور في مدينة صفرو لسماع ذلك العرض أن أحدث القراء كذلك عن تدخلات ومناقشة الحضور في القاعة عند نهاية العرض، والأسئلة التي تقدموا بها والملاحظات التي ظهر لهم إبداؤها، والواقع أنه كان في القاعة من جاء وقد هيأ نفسه للمناقشة بل ربما كان قد هيأ مداخلة في أطروحة مضادة لما كان يعتقد أو يظن أنني سأتقدم به في ذلك الصباح الجميل مع تباشير الربيع في مدينة جميلة مثل مدينة صفرو. قانون الأحزاب والمرجعية الدينية ووفاء لما جرى في الجلسة التي استغرقت أكثر من ساعتين فإنني سأحاول من جديد أن أجعل القارئ في سياق ما جرى ذلك الصباح. لقد تدخل بعض الإخوة في موضوع قانون الأحزاب الذي يمنع تأسيس الأحزاب على أسس دينية أو عرقية أو لغوية وتساءلوا هل لا يتعارض ذلك مع وجود مرجعية دينية لدى بعض الأحزاب؟ وهذا السؤال في الواقع كثيرا ما يطرح وفي نظري كما قلت في القاعة فان السؤال يجد جوابه في نص القانون المقيد بما جاء في الالتزام بالثوابت في دستور المملكة ذلك أن الأحزاب لا يمكنها أن تكون أحزابا معادية أو ضد الإسلام أو الملكية فالإسلام والملكية من الثوابت التي لا يمكن لحزب سياسي في المغرب أن يكون وجوده شرعيا إذا كان نظامه أو قوانينه لا تحترم هاذين الأمرين بل عندنا سوابق قضائية في المغرب في الموضوع فالمحكمة في سنة 1959 حكمت بعدم شرعية الحزب الشيوعي المغربي لأنه في نظر المحكمة يتعارض وجوده مع الدين الإسلامي، ولهذا فإن المرجعية لا تعني أن حزبا معيننا هو حزب ديني يمتنع الانخراط فيه لمن ليس مسلما، فالأحزاب المغربية طبقا للقانون والدستور لا يمكنها رفض أي مواطن يود الانخراط فيها مهما كانت عقيدته الدينية، وعلى أي حال فاتخاذ حزب معين المرجعيته الدينية لا يعني أنه حزب ديني كما ان اتخاذ حزب آخر مرجعيته اشتراكية لا يعني أنه حزب لا ديني وانما يعني اختيار أسلوب معين في معالجة المسألة الاجتماعية. العلمانية والحكومة الدينية أما الموضوع الآخر الذي خصه أحد الإخوة الحاضرين بتعقيب طويل فهو موضوع العلمانية والحكومة الدينية إذ في نظره المرجعية الدينية تعني حكومة دينية، وقد اختار من بين ما تنشره بعض الصحف لبعض الباحثين والكتاب من مغاربة علمانيين وغيرهم كل السلبيات والعيوب التي يرى البعض انها كانت السمة الغالبة على الحكومات الدينية في أوروبا ويحاول هذا البعض أن يجعل الخلافة الإسلامية شبيهة لتلك الحكومات التيوقراطية في المغرب، وقد نقل الأخ المتحدث أكثر هذه السلبيات مع محاولة منه ان يجعل العلمانية في نظره هي الحل، وحاول في نفس الآن أن يقحم بعض المسؤولين وبعض قادة الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي في الموضوع، ولعل الجواب عن هذا الطرح كان من صميم العرض ولكن الأخ كان تعقيبه مكتوبا ولم يحاول ان يكيفه وفق ما جاء في العرض. المغرب غير معني بولاية الفقيه؟ لقد تحدث المعقب عن ولاية الفقيه وهي غير واردة على مستوى المغرب لأن المغرب بلد سني على مذهب الإمام مالك كما ورد في العرض ومن تم فهو غير معني بولاية الفقيه، وحتى بالنسبة للمراجع الشيعية فهذه الولاية منتقدة وليست من صميم التشيع والمذهب الجعفري وقد انتقدها بعض المراجع الإيرانية وكتب في هذا الصدد أحمد الكاتب وهو مفكر شيعي كتابات جيدة في كتبه وبالأخص كتابه »التشيع السياسي والتشيع الفقهي« وقبله كتب كذلك على شريعتي كتابه حول »التشيع العلوي والتشيع الصفوي« أما »العلمانية« المتنكرة للدين فقد جاء في العرض أنها نظام لا يمكن السير عليه في مجتمع مسلم لسبب بسيط هو أن الإسلام ليس فيه كهنوت وليس فيه اكليروس وليس فيه رجال دين كما جاء في العرض. الإسلام ليس فيه حكومة دينية وإذا جاء التعقيب لمحاكمة الحكومة الدينية فإن الإسلام لا يعرف الحكومة الدينية ولكنه يعرف حكومة مدنية مرجعيتها ثوابت الشرع الإسلامي الثابتة بنصوص قطعية الدلالة و الثبوت وهي نصوص معروفة ومحددة وأكثرية الأحكام الفقهية ليست من هذا القبيل بل هي أحكام ظنية وليست قطعية فجميع الأحكام القياسية هي ظنية وأخبار الاحاد والظاهر والمؤول إلى آخر ما هو موجود من طرق وأساليب استنباط الأحكام التي هي في الواقع أحكام مدنية ذات مرجعية إسلامية ولهذا كان الغزالي يعتبر الفقه من علوم الدنيا وليس من علوم الآخرة. وهذا موضوع يحتاج إلى دراسة خاصة ومعالجة مستقلة ونعود إلى مسمى الحكومة الدينية. أول انتقاد للحكم من طرف قاض مسلم ولقد كان أول من انتقد شكل الحكم وأصوله في الإسلام من منظور غربي في القرن الماضي وخصه بكتاب مستقل من العلماء المسلمين هو الشيخ علي عبد الرازق في كتابه المعروف »الإسلام وأصول الحكم« وهو كتاب تم الرد على ما جاء فيه وكتبت حوله آلاف الصفحات ولست أدري لماذا يتشبث به البعض وفي نفس العام تقريبا كتب متخصص فقيه كتابا علميا بكل ما في الكلمة من معنى حول تأصيل الحكم ونظام الخلافة في الإسلام وهو الدكتور عبد الرزاق السنهوري في رسالته الجامعية لنيل الدكتورة بعنوان »فقه الخلافة«، ومع ذلك فإن الذين في قلوبهم شيء ما ضد الحكم في الإسلام يتجاهلون هذا ويتشبثون بذاك، مع ان ما كتبه عبد الرازق ليس كتاب علم ومنهج بل مجرد وريقات لا ترقى إلى مستوى البحث العلمي الرصين وقد تراجع صاحبه عما جاء في كتابه بعد ذلك. اما الكتاب الثاني الذي كان له دور كبير في هذا الموضوع فهو كتاب المرحوم (خالد محمد خالد) والذي عنوانه: »من هنا نبدأ« وهو كتاب كان له دوى حين صدوره لأنه بدوره صدر عن عالم أزهري شاب. والكتاب قد تصدى للرد عليه (الشيخ محمد الغزالي) بكتاب آخر بعنوان: »من هنا نعلم« ولسنا الآن بصدد مناقشة ما جاء في الكتابين ولكننا سنترك الشيخ خالد محمد خالد يقوم كتابه ويرد بنفسه على ما جاء فيه في كتاب آخر نشره بعد ذلك بعنوان: »الدولة في الإسلام« والذي يقول في افتتاحه: خالد محمد خالد يرد على محمد خالد في عام1950 ظهر أول كتاب لي، وكان عنوانه: »من هنا.. نبدأ« وكان ينتظم أربعة فصول، وكان ثالثها بعنوان: »قومية الحكم« وفي هذا الفصل ذهبت أقرر أن الإسلام دين لا دولة، وأنه ليس في حاجة إلى أن يكون دولة... وأن الدين علامات تضئ لنا الطريق إلى الله وليس قوة سياسية تتحكم في الناس، وتأخذهم بالقوة إلى سواء السبيل. ما على الدين إلا البلاغ وليس من حقه أن يقود بالعصا من يريد لهم الهدى وحسن ثواب. وقلت.. أن الدين حين يتحول إلى.. حكومة، فان هده الحكومة الدينية تتحول إلى عبء لا يطاق. وذهبت أعداد يومئذ ما أسميته... غرائز الحكومة الدينية وزعمت لنفسه القدرة على إقامة البراهين على أنها، أغلى الحكومة الدينية، في تسع وتسعين في المائة من حالاتها جحيم وفوضى، وأنها إحدى المؤسسات التاريخية التي استنفذت أغراضها ولم يعد لها في التاريخ الحديث دور تؤديه. خالد يعدد مساوئ الحكومة الدينية وبعد هذه المقدمة التي يمكن اعتبارها تلخيصا واضحا لما لا يزال يروجه ويدافع عنه العلمانيون يشرع الشيخ خالد في تعداد المساوئ التي تنتج عن الحكومة الدينية التي لا وجود لها في الإسلام فيقول: وكان خطئى أنني عممت الحديث حتى شمل الحكومة الإسلامية. وقلت.. أن غرائز الحكومة الدينية تجعلها بعيدة من الدين كل البعد، ولخصت هذه الغرائز في. 1 الغموض المطلق، إذ هي تعتمد في قيامها على سلطة غامضة، لا يعرف مأتاها، ولا يدرك مداه، وصلة الناس بها يحبب أن تقوم عل الطاعة العمياء والتسليم الكلي والتفويض المطلق ... 2 ومن خصائصها -كما قلت يومذاك _ أنها لا تثق بالذكاء الإنساني ولا تأنس له، ولا تمنحه فرصة التعبير عن ذاته، لأنها تخافه وتخشاه. 3 وهي لكي تقنع الناس بضرورة قيامها وبقائها تهيب بجانب الضعف فيهم. فتلقى في روعهم أن رواد الخير والحرية والفكر والإصلاح ليسوا سوى أعداء لله ولرسوله يحاولون نفي الدين عن المجتمع بنفي السلطة التي تمثله وتصونه. 4 والغرور المقدس من شر غرائز الحكومة الدينية، وهي لهذا لا تقبل النصيحة ولا التوجيه. بل ولا مجرد لفت النظر فضلا عن المعارضة والنقد. 5 والوحدانية المطلة أعتى غرائزها _ وهي تحفزها إلى مكافحة الرأي مهما يكن حكيما، وقتل المعارضة ومهما تكن مخلصة نافعة. 6 والجمود الذي تتسم به يجعله تضيق بكل جديد لان صورة الدين في ذهنها مرتبطة بكل مت هو جامد وقديم. 7 والقسوة المتوحشة هي سيدة غرائزها وأكثرها عتوا ونفوذا وأنها لتحز عنقك وتهرق دمك وهي تصيح من فرط نشوتها ... واها لريح الجنة هكذا ذهبت أنعت وأهدم ما أسميته يومها بالحكومة الدينية..! وهكذا أخذت كل خصائص ونقائص الحكم الاتقراطي الديكتاتوري وخلعته على ما أسميته »الحكومة الدينية«..!! بداية المراجعة ويقظة ضمير هذه هي الخلاصة لما يعتبره الشيخ مساوئ الحكومة الدينية التي استيقظ ضميره ضدها وكتب بيانا للناس تبرئة للذمة وإرشادا لمن كان يسعى إلى الإصلاح وليس في قلبه غل ولا مرض فقال: ...ولم أكن يومئذ أخدع نفسي ولا أزيف اقتناعي، فليس ذلك والحمد لله من طبيعتي. إنما كنت مقتنعا بما أكتب مؤمنا بصوابه. وحين أرجع بذاكرتي إلى الأيام التي سطرت فيها هذا الرأي وهذه الكلمات لا أخطئ التعرف إلى العوامل التي تغشتنى بهذا التفكير.. والكاتب حين يحيا بفكر مفتوح بعيدا عن ظلام التعصب وغواشي العناد، فإنه يستطيع دائما أو غالبا أن يهتدي إلى الصواب ويقترب من الحقيقة ويعانقها في يقين جديد، وحبور أكيد، ونحن مطالبون بأن نفكر دائما، ونراجع أفكارنا، وننكر ذواتنا ونتخلى عن كبريائنا أمام الحقائق الوافدة.. وإذا لم نفعل فسنكون كما قال »أفلاطون«. » مجانين، إذا لم نستطيع أن نفكر ..« » ومتعصبون، إذا لم نرد أن نفكر ..« » وعبيد إذا لم نجرؤ أن نفكر ..« * * * وأحمد الله على أنني لست من المجانين، ولا المتعصبين، ولا العبيد.. ومن أجل هذا كان من اليسير على أن استقبل في بشر ومودة هذا التفكير الجديد الذي واتاني من طول التأمل والتمعن وتقليب وجوه النظر في حياد سديد. ترى ماذا كانت المقدمات التي أوصلتني إلى موقفي القديم من »الحكومة الدينية«، أو بتعبير أصح ماذا كانت البواعث النفسية والفكرية التي أفضت بي إلى ذلك الموقف..؟؟ تسمية الحكومة الإسلامية بالدينية تجن وخطأ وأود أولا أن أشير إلى أن تسمية »الحكومة الإسلامية« بالحكومة الدينية فيه تجن وخطأ. فعبارة »الحكومة الدينية« لها مدلول تاريخي يتمثل في كيان كهنوتي قام فعلا، وطال مكثه. وكان الدين المسيحي يستغل أبشع استغلال في دعمه وفي إخضاع الناس له. فالحكومة الدينية مؤسسة تاريخية نهضت على سلطان ديني بينما كانت أغراضها السياسية، وأصلت الناس سعيرا بسوء تصرفاتها وتحكمها.. وهي في المسيحية واضحة كل الوضوح بينما الإسلام لم يشهد في فترات استغلاله ما شهدته وما تكبدته المسيحية، لاسيما في العصور الوسطى، عصور الظلام !! ولعل أول خطأ تغشى منهجى الذي عالجت به قديما قضية الحكومة الدينية كان تأثري الشديد بما قرأته عن الحكومات الدينية التي قامت في أوربا، والتي اتخذت من الدين المسيحي دثارا تغطى به عريها وعارها.. أجل. فاني أستطيع أن الخص بواعثي في ذلك التفكير القديم وأردها إلى عاملين اثنين كان هذا أولهما .. التأثر بما قرأته عن الحكومة الدينية المسيحية، ولذلك تجدني أقول في كتابي »من هنا نبدأ« ».. ففي الحكومات الدينية المسيحية ابتكرت وسائل التعذيب التي لا تخطر للشيطان نفسه ببال، فكان الخازوق، ووتد التشهير، وصم الآذان، وتمزيق الجسد، ومحاكم التفتيش، وحرق العلماء بالنار وهم أحياء !!؟؟ ثم قلت : »وفي الحكومات الدينية الإسلامية حدثت أهوال مروعة، حتى ان حاكما دينيا واحدا هو الحجاج أباد البقية الكريمة الصالحة من صحابة رسول الله، حتى قال عنه » عمر بن عبد العزيز«. »لو جاءت كل أمة بخطاياها، وجئنا نحن بني أمية بالحجاج وحده لرجحناهم... !!« إذن، فقد كنت في قمة التأثر ببشاعة وجرائم الحكومة الدينية المسيحية، ثم عكست الصورة في غير حق على الحكام السياسيين في الإسلام واعتبرتهم حكومة دينية إسلامية ... !! الحاكم في الإسلام ليس حاكما دينيا والكاتب يوضح كيف وقع في خطأ الالتباس بين الحاكم في الإسلام والحاكم في غيره ولذلك يصحح ويؤكد أن الحاكم في الإسلام ليس حاكما دينيا لأنه ليست هناك سلطة كهنوتية يمكنه الاعتماد عليها وهذا ما يؤكده بقوله: ومضيت أدحض ما اعتبرته حكومة دينية في الإسلام بنفس القوة التي دحض بها الفكر الإنساني الرشيد الحكومة الدينية التي قامت في ظل الكنيسة وكانت أكثر خطرا على المسيحية من الشيطان نفسه !! من قال ان الحجاج حاكم ديني ..؟ وهل في الإسلام كهنوت يستطيع أي حاكم أن يستمد منه سلطانا مطلقا وفي ذات الوقت يكون مقدسا..؟؟ لا. ومع هذا فقد اقتنعت قديما بهذا الذي يبدو لي اليوم تجنيا وخطأ. إن الإسلام حتى في فترات استغلاله من بعض الخلفاء والحكام لم يمنح أيا منهم سلطة بابوية كهنوتية، لأنه لا يتسع لأي كهنوت لا في تعاليمه ولا في تطبيقاته. من أجل هذا كان تسمية الحكومات الإسلامية المنحرفة بالحكومة الدينية وتحميل الإسلام وزرها أمر مجاف لكل صواب.. التأثير السلبي للجهاز السري على الكاتب أما العامل الثاني الذي كل تفكيري وموقفي من الحكومة الدينية فقد كان عاملا موقوتا بزمانه. ولكني جعلت منه قاعدة عامة بنت عليها حكمي القديم. ذلك أن » الإخوان المسلمين« كانوا قد بلغوا خلال الأربعينات من الكثرة والقوة والنجاح مبلغا يكاد يكون منقطع النظير. كانت دعوتهم تسرى بين الناس كالضوء، وكان الشباب بصفة خاصة يقبل عليها إقبال أسراب النحل على رحيق الزهور!! وذات يوم والجماعة في أوج مجدها الباهر، لا ندري هل انبثق منها، أو أقحم عليها وتسلل إليها ما سمي يومئذ بالتنظيم السري. وارتكب هذا الجهاز جرائم منكرة وتوسل بالاغتيالات لفرض الدعوة التي كانت قد حققت بالإقناع والمنطق ما لم تحققه دعوة أخرى.. والدعوة التي كانت لباقة مرشدها الأستاذ حسن البنا رحمه الله وإخلاصه يفتحان له الآذان الصم والقلوب الغلف، ويسلسان له قياد الجماهير كافتهم ومثقفيهم. لفتت حوادث الاغتيال التي مارسها ذلك الجهاز السرى انتباه الناس وروعت أفئدتهم. وكنت من الذين أقض مضجعهم هذا النذير. وقلت لنفسي اذا كان هذا مسلك المتدينين وهم بعيدون عن الحكم، فكيف يكون مسلكهم حين يحكمون؟؟! وتذكرت كلمة المفكر الفرنسي » فولتير«: »ان الذي يقول لك اليوم: اعتقد ما أعتقده وإلا لعنك الله، سيقول لك إذا: اعتقد ما أعتقده وإلا قتلتك«!!! على أن ذلك الجهاز السري اختصر طريقه آنذاك فتخطى وتجاوز مرحلة اللعن إلى مرحلة القتل والاغتيال!! كان هذا هو العامل الثاني الذي جنح بتفكيري الى التحذير من قيام أي حكومة دينينة باسم الإسلام. وكان هذا خطأ آخر وقعت فيه.. الاعتراف بالخطأ وبواعثه وفي آخر ما افتتح به الكاتب كتابه يلخص عوامل الخطأ في عاملين اثنين وهما: كان الخطأ الأول مضاهاتي الحكومات الدينية الكنسية بحكم الإسلام. وكان الخطأ الثاني تعميم نتائج ما اقترفه الجهاز السري باسم الإسلام. وفي كلا الخطأين كان هناك خطأ في المنهج ذاته. فقد جعلت ما تأثرت به من قراءتي عن الحكومة الدينية في المسيحية، وما تأثرت به من تحول بعض الشباب المسلم من نساك إلى قتله.. جعلت هذا وذاك » مصدر« تفكيري، لا »موضع« تفكيري!! وفارق كبير بين أن تجعل الحدث أو الشيء مصدر تفكيرك وبين أن تجعله موضع تفكيرك. عندما يكون مصدر تفكيرك فإنه يقودك في طريقه هو، لا في طريق الحقيقة. وتبصر نفسك من حيث تشعر أولا تشعر مشدودا الى مقدمات وسائرا نحو نتائج لم يأخذ الاستقلال الفكري حظه في تمعنها ودراستها. أما حين يكون الشيء موضع تفكيرك فإنه يمد تفكيرك المحايد والمستقبل بكل اعتبارات القضية المدروسة دون أن يلزمك بحكم مسبق يتحرك الفكر داخل إطاره الحديدي الصارم. تجاوز الشكل إلى المضمون برفع التحدي إلى هذا السبب الجوهري أرد خطئي فيما أصدرته قديما من حكم ضد الحكومة في الإسلام، هذه التي أسميتها بالحكومة الدينية. والآن، وفي ضوء اقتناعي الجديد بأن الإسلام » دين، ودولة« فكيف وصلت إلى هذه الحقيقة؟؟ وما شكل هذه الدولة؟؟ وما أغراضها وأهدافها حين تقوم؟؟. هذه الأسئلة هي التي حاول الكاتب الإجابة عنها في كتابه. وكيف ما كان جوابه وسواء اتفقنا معه في جوابه عن أسئلته أو اختلفنا معه فليس الأمر مهما ما دام الأساس وهو أن الحكومة الإسلامية ليست حكومة دينية فالتفاصيل وشكل الشورى وأسلوب تحقيق العدل بين الناس فهي أمور اجتهادية مع الاهتداء بهدى النصوص القطعية الثابتة والمهم هو أن ادعاء العلمانيين بوجود حكومة دينية في الإسلام ادعاء زائف وان قياس هذه الحكومة على الحكومة الدينية في أوروبا قياس مع وجود فوارق وليس فارقا واحدا. وعلى الناس في دنيا الإسلام أن يعملوا متعاونين من أجل رفع تحدي التخلف الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والحلول المساعدة على تجاوز التخلف موجودة بوضوح في الإسلام وتعاليمه وقيمه.