تَعرفُ ليلة رمضان حُضور ثلاثة عازفين لاغنى عنهم في هذا الشهر الكريم. أولهم النّفّار وهو صاحب الْبوق النّحاسي الطّويل الذي يمتاز بشكله وصوتِه الغريب أيضاً والطّبال بطبله الصغير المعلق على أحد كتفيه، وهو مألوف لديْنا في مناسبات عديدة. أما الغيّاط فهو عازف الغيطة أو المزمار الشّعبي بصوته الرفيع الذي يخترق المسامّ! يحتاج النفخُ في البوقِ النّحاسي الذي يبتدىء بقناةِ رفيعة، وينتهي بقاعدة مخروطية الشكل، إلى قوة ودراية. القوة ترتبط بطول النّفس الذي يصْدر عن رئتين تحوّلان رصيدَ الهواء إلى نفخةٍ محسوبةٍ بدقّة تبدأ بصوْتٍ يصعدُ من الأعماق بهدوء، لينفجرَ بصوْتِ آخر مضغوط وضعَ فيه النّافخُ كلّ قواه لتندفعَ النّفخة الأخيرة مخنوقة، ولكّنها، في الوقت ذاته صاخبة مثل نفيرٍ نهاية معركة كشفتْ عن بوادِر النّصْر الأولى. ومن المؤكّد أنّ هذه الأداة من أدوات الحرب أو الأنوار والتحذير. لم يكُن النّفار مثل باقي العازفين، بل كان نسيجا وحْده، كان استثنائياً بين عشرات الطّبالين والغيّاطين. ولذلك كنّا نقتفي أثره، وهو يناقلُ خطواته الرزينة بين الدّروب والفضاءات العامرة والنّفّارُ، عادةً، لايظهر إلاّ في البداية والوسط منتصف رمضان والنهاية وهذا نوعٌ من الإعتزاز بآلة لايقدرُ عليها إلا الأقوياء وأهل الْحرفة. أما الطّبال فنقراتُ طبلِه ليست غريبة عنّا نقراتٌ مسموعة في المواسم والأعراس وحفلات الختان.. ودقّات طبله لاتتغيّر، ولكنّه يظلّ مخلصاً لرمضان من بدايته إلى نهايته، عارفاً بأسماء ساكني الأحياء والأزقة، مؤثراً من يكرمُه، بنقرات إضافية وهو أبعث على الألفة بخلافِ صوت النفار المثير للرهبة يأتي الغيّاط بمزماره الشعبي ليتنازَل قليلا عن عزفه للأغاني والمعزوفات الشّائعة، بل قد يتنازل عن عزفه لبعض الأغاني العصرية خاصة أغاني فريد الأطرش الخفيفة بإيقاعاتها الشعبية الشّهيرة. في شهر رمضان يعزف الغيّاط الموّال الديني«موسيقياً صوْت المزمار الرّفيع يخترقُ الفضاءات وباحاتً المنازل، والتجمّعات البشرية، وكأنّه يذكّر الحاضرين بمن ذهبوا، ولكنّه، في الوقت ذاته، يذكّر بمتّعِ الدّنيا، متعِ هذا الشّهرالكريم الذي تأتي بدُون حساب.