تتبعت ككل مهتم بالشأن القانوني ذلك النقاش المستفيض وفي بعض الأحيان الحاد الذي عرفته مقتضيات المادة 17 من مشروع قانون المسطرة المدنية المعروض على أنظار ممثلي الأمة للتصويت، هذا ومصطلح الأمة، كما نعلم، اعتمده الفصل 60 من الدستور حينما نص على أنه: " يتكون البرلمان من مجلسين، مجلس النواب ومجلس المستشارين ، ويستمد أعضاؤه نيابتهم من الأمة ..."، وهو كذلك يصوت ايضا على القوانين، ويراقب أعمال الحكومة ويقيم السياسات العمومية . فيما نص الفصل 95 من الدستور أنه : " للملك أن يطلب من كلا مجلسي البرلمان أن يقرأ قراءة جديدة كل مشروع أو مقترح قانون . تطلب القراءة الجديدة بخطاب، ولا يمكن أن ترفض هذه القراءة الجديدة."
وبذلك تم تحديد الجهة المؤهلة بالتصويت على القانون والجهة المؤهلة للمطالبة بإعادة قراءة كل مشروع أو مقترح قانون معروض للتصويت. والدستور هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة والجميع ملزم بالامتثال له.
والنتيجة المنطقية أنه في دولة القانون والمؤسسات، يكون لكل مؤسسة دستورية مجال تدخلها، ونحن في دستورنا حدد المشرع الدستوري مجال القانون في الفصل 71 بالإضافة إلى المواد المسندة إليه صراحة بفصول أخرى، غير أن مجال السلطة التنظيمية باعتباره استثناء يبقى عاما فيما لم يشمله مجال القانون . وعملا بما سلف لرئيس الحكومة ولأعضاء البرلمان حق التقدم باقتراح القوانين، أي للحكومة حق تقديم مشاريع القوانين في حين يمكن لأعضاء البرلمان جميعا أو أشتاتا تقديم مقترحات قوانين .
وحسب علمي تكون الحكومة هي من تبادر بتقديم مشاريع قوانين بخصوص المسطرة المدنية ولم يسبق أن أتقدم أي فريق برلماني بمقترح قانون شامل يتعلق بقانون المسطرة المدنية . إذن الانطلاقة هي أن البرلمان يختص بالتشريع في هذا المجال ليس كصاحب اختصاص أصلي وإنما يمارس سلطته التشريعية عن طريق التصويت عملا بالفصل 70 من الدستور السالف الذكر.
ونعتقد بأن الحكومة سواء السابقة أو الآنية كانت لها الجرأة في أخد المبادرة من أجل تعديل نص قانوني صدر بتاريخ 28 شتنبر 1974 بالطريقة المعروفة وفي ظل دستور 1972 رغبة في مواكبة التنظيم لقضائي المحدث سنة 1974.
ودون الدخول في متاهات النقاش الفقهي أو السياسي لمشروع قانون، الذي سيكون له حيز زماني ومكاني بين أهل الخبرة، وكذا بعيدا عن التراشق والتنابز بالألقاب، سأحصر النقاش في مضمون المادة 17 كما أسلفت لنقيم الحجة على ضرورة وجودها . في البداية، جاء في المادة المذكورة من المشروع قانون كما قدمه وزير العدل أمام لجنة العدل والتشريع وحقوق الانسان بمجلس النواب ما يلي: "يمكن للنيابة العامة، سواء كانت طرفا في الدعوى أم لا، دون التقيد بآجال الطعن المنصوص عليه في المادة السابقة أن تطلب التصريح ببطلان الحكم المخالف للنظام العام عن طريق ممارسة طرق الطعن القانونية." ويبدو أن الصياغة التي أتت بها المادة المذكورة متناقضة في جوهرها مع المادة 18، على اعتبار أن النيابة العامة تكون طرفا أصليا في كل القضايا التي تهم النظام العام، وبالتالي لا مجال للقول في المادة التي قبلها "سواء كانت طرفا في الدعوى أم لا " لأنها طرف في الدعوى بقوة القانون .
لكن المادة 17 حصرت باب الطعن القانوني الموكول للنيابة العامة في المقررات المخالفة للنظام العام دون غيرها، ويكون موضوع الطعن بطلان الحكم دون الالتفات لطبيعة النزاع .
وهذا التوجه أقرته كذلك المادة 407 من المشروع قانون عندما نصت على أنه: "إذا علم الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض أنه صدر حكم انتهائي على وجه مخالف للقانون أو لقواعد المسطرة ولم يتقدم أي واحد من الأطراف بطلب نقضه في الأجل المقرر أحاله إلى محكمة النقض . إذا صدر عن محكمة النقض حكم بالنقض، فلا يمكن للأطراف الاستفادة منه ليتخلصوا من مقتضيات المقرر المنقوض."
ومن خلال مناقشة المادة 17 من طرف أعضاء لجنة العدل والتشريع وحقوق الانسان نستنبط أن مداخلات جزءا كبيرا من الأعضاء لم تطالب بحذف هذه المادة وإنما فقط تجويدها بدواعي متعددة وغير موحدة، حينما قالوا:
تارة بداعي أن "الاحتجاج بالنظام العام لا يسوغ عدم احترام الآجال، وبالتالي طالبوا بوضع سقف معين." 2 ) تارة بداعي أنه "لا يمكن الدفع بحجة مخالفة النظام العام والحال أن النيابة العامة طرفا أصليا ." 3) أو بداعي ضرورة التمييز بين مفهوم النظام العام كمفهوم شامل وبين مفهوم الأخلاق الحميدة محذرين من عواقب توسيع نطاق الطعن في الأحكام على الأمن القضائي .
غير أن وزير العدل في معرض رده على ملاحظات أعضاء لجنة العدل والتشريع وحقوق الانسام بمجلس النواب اعتبر أن النظام العام مبدأ عام، وأن الأمن القضائي فرع منه، وألا قيمة لهذا الأخير إذا لم يتم الحفاظ على النظام العام، ثم إن النيابة العامة لا تلغي الأحكام وإنما تطعن فيها، ناهيك عن أن الفصل 110 من الدستور يمنح للنيابة العامة سلطة فرض احترام القانون في الإجراءات والمساطر.
وبالفعل عند الرجوع إلى الفصل 110 المذكور فإنه ينص على أنه : "يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون...". ومن خلال التعديلات التي ساقتها الفرق البرلمانية على المادة 17 نجد ما يلي : 1 ) الفريق الاشتراكي / المعارضة الاتحادية: يقترح التعديل الآتي : "يمكن للنيابة العامة، سواء كانت طرفا في الدعوى أم لا، أن تطلب التصريح ببطلان الحكم المخالف للنظام العام عن طريق ممارسة طرق الطعن القانونية، وفق الآجال المحددة في المادة السابقة ." 2 ) الفريق الحركي : لم يقدم أي تعديل بخصوص المادة 17. 3 ) فريق التقدم والاشتراكية :
اقترح الصيغة التالية: "يمكن للنيابة العامة، سواء كانت طرفا في الدعوى أم لا، وداخل آجال الطعن المنصوص عليها في المادة السابقة، أن تطلب التصريح ببطلان الحكم المخالف للنظام العام عن طريق ممارسة طرق الطعن القانونية. " 4 ) المجموعة النيابية للعدالة والتنمية: اتجهت اتجاها آخر وطالبت بحذف هذه المادة بداعي أنها تمس بالأمن القانوني واستقرار المعاملات، لاسيما أن المشرع وسع من حالات تدخل النيابة العامة في الدعوى سواء كطرف أصلي أو منضم، ناهيك على أنه عدد من القضايا تبلغ إليها، بالاضافة إلى أن الأمر يتعلق بالمعاملات المدنية التي لا يمكن توسيع تدخل النيابة العامة بها، وإن منح النيابة العامة حق "طلب التصريح ببطلان الحكم" الذي من المفروض أنه صدر باسم جلالة الملك وطبقا للقانون سيعطيها سلطة مراقبة قاضي الحكم وهذا فيه مساس باستقلال القضاء والقاعدة القانونية التي تنظم حجية الشي المقضي به . 5 ) تعديلات فرق التجمع الوطني للأحرار،الأصالة والمعاصرة، الاستقلالي للوحدة والتعادلية، والدستوري الديمقراطي الاجتماعي: التعديلات التي تقدمت بها هذه الفرق مجتمعة تمثلت في أنه: "يمكن للنيابة العامة، سواء كانت طرفا في الدعوى أم لا، أن تطلب التصريح ببطلان الحكم المخالف للنظام العام عن طريق ممارسة طرق الطعن القانونية، داخل أجل أقصاه خمسة عشر(15) يوما ." 6 ) تعديلات النواب غير المنتسبين: اقترح بعض النواب غير المنتسبين أنه: " لا تسري الآجال المنصوص عليها في المادة السابقة أمام حق النيابة العامة في الطعن متى كان الحكم مخالفا للنظام العام" ، وهناك من رأى حذف المادة 17 ما دام حق النيابة العامة في الطعن مكفول بموجب المادة 16 من المشروع .
غير أنه بعد أن عرض التعديلات المقترحة على التصويت وحمي النقاش اضيفت فقرة ثانية، حيث أصبحت المادة 17 على الشكل التالي: " يمكن للنيابة العامة المختصة، وإن لم تكن طرفا في الدعوى، ودون التقيد بآجال الطعن المنصوص عليها في المادة السابقة، أن تطلب التصريح ببطلان كل مقرر قضائي يكون من شأنه مخالفة النظام العام .
يتم الطعن أمام المحكمة المصدرة للقرار ، بناء على أمر كتابي يصدره الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض تلقائيا أو بناء على إحالة الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في حالة ثبوت خطأ قضائي أضر بحقوق أحد الأطراف ضررا فادحا. "
التحليل الشكلي للمادة يجعل القاريء أمام مجموعة من الاستفهامات يمكن تلخيصها كالتالي :) منحت المادة 17 المذكورة صلاحية للنيابة العامة في أن تطلب التصريح ببطلان المقررات القضائية التي من شأنها مخالفة النظام العام، وهذا يعني أنه تبقى للنيابة العامة الحرية المطلقة للطعن من عدمه .
والمقصود بالنظام العام مجموعة القواعد التي ينبني عليها المجتمع سواء اقتصاديا أو دينيا أو أخلاقيا ويترتب على المساس بها انهيار المجتمع .
الصلاحية الممنوحة للنيابة العامة المختصة وظيفية حيث لا علاقة لها بطبيعة موقعها، سواء كانت طرفا أصليا أو منضما أو أجنبية عن الدعوى.
3 إذا كان بإمكان النيابة العامة المختصة تقديم طلب التصريح ببطلان المقررات القضائية المخالفة للنظام العام من عدمه ، فإن هذه الحرية تكون مقيدة طبقا للفقرة الثانية من المادة 17عند تقديم طعن في حالة ثبوات خطأ قضائي أضر بحقوق أحد الأطراف ضررا فادحا . ففي هذ الحالة تكون النيابة العامة مختصة بتقديم طعن لفائدة القانون ، غير أنها ليست مبادرة في ذلك ، بل لا بد أن تتلقى أمرا كتابيا سواء من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بهذه الصفة لا بصفته رئيسا للنيابة العامة، وبالتالي الأمر الكتابي قد يتم توقيعه بصفة شخصية من الوكيل العام أو أحد من أعضاء النيابة العامة نيابة عن رئيسه أو بناء على إحالة من الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية وبهذه الصفة لا بصفته رئيسا لمحكمة النقض .
المقصود بالاحالة في مفهوم المسطرة المدنية عرض النزاع من جديد أمام هيءة قضائية غير التي نظرت فيه من قبل من أجل تصحيحه . وهذا الأمر في ظل المسطرة المدنية الحالية متعلق بالحالة التي تقضي محكمة النقض بنقض مقرر قضائي بسبب من أسباب النقض فتحيل القضية وطرفيها على محكمة أخرى من نفس درجة المحكمة مصدرة المقرر المنقوض أو على نفس المحكمة لكن مكونة من هيأة أخرى للنظر فيه في حدود النقض الحاصل .
وفي المقابل منح الفصل 383 من نفس القانون لكل شخص طرف في نزاع قائم أن يتقدم بطلب الإحالة من أجل التشكك المشروع ، كما يمكن لوزير العدل تقديم هذا الطلب بواسطة الوكيل العام للملك أمام محكمة النقض في الحالة التي لم يتم تقديم هذا الطلب من الأطراف، وحينذاك يبت في هذه الطلبات الرئيس الأول ورؤساء الغرف مجتمعين في غرفة المشورة خلال 8 أيام الموالية لايداع الطلب .
كما خص المشرع وزير العدل بإمكانية تقديم طلبات الإحالة بواسطة الوكيل العام للملك كلما خيف المساس باستقرار الأمن العمومي على الصعيد المحلي .
وبناء على ما ذكر يمكن أن تصدر محكمة النقض قرارا حالا ونهائيا بإحالة النزاع على محكمة أخرى من نفس الدرجة تعينها محكمة النقض . وهو التوجه الذي سارت فيه المادة 270 من قانون المسطرة الجنائية عندما نصت على أنه: " يمكن للغرفة الجنائية بمحكمة النقض أن تسحب الدعوى من أجل تشكك مشروع من أي هيئأة للتحقيق أو هيئة للحكم، وتحيلها إلى هيئأة قضائية من نفس الدرجة ." فيما نصت المواد الموالية على إمكانية الغرفة المذكورة بناء على ملتمس من الوكيل العام لدى محكمة النقض وحده أن تأمر بالاحالة من أجل الأمن العمومي ، كما يمكن لنفس الغرفة بناء على ملتمس سواء الوكيل العام لمحكمة النقض أو لمحكمة الاستئناف أو حتى بناء على طلب الأطراف أن تأمر بالاحالة لتحقيق العدالة شريطة عدم عرقلة سريان الملف أو المساس بحقوق الدغفاع .
لكن في ذات الآن المسطرة الجنائية اشترطت بألا تقبل طلبات الإحالة بعد أي استجواب أو مناقشة في الجوهر ، بمعنى أنه يقدم قبل بدء سريان المسطرة القضائية أمام النيابة العامة أو قاضي التحقيق أو هيأة الحكم .
غير أن مفهوم الإحالة في المادة 17 من مشروع المسطرة المدنية له مفهوم آخر ، حيث يتقدم به حصريا الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية وبهذه الصفة بخصوص حكم انتهائي. وبالرجوع إلى المادة 5 من القانون التنظيمي رقم 13-100 المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية ، فإنه يمثل الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية هذا المجلس أمام القضاء وباقي السلطات والإدارات العمومية وأمام الغير. كما أنه طبقا للمادة 108 يقوم بتتبع العمل القضائي بالمحاكم المندرج في خانة الولوج إلى العدالة وإجراءات التقاضي، وكذا استجماع الإحصائيات المتعلقة بالمقررات القضائية الصادرة عن هذه المحاكم.
وانطلاقا مما سلف ، يكون الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية مؤهلا قانونا لتتبع والاطلاع على أنشطة المحاكم وكل ما يصدر عنها من مقررات في احترام تام لاستقلال القضاء . بل الأكثر من ذلك فإن المجلس المذكور يتتبع أداء القضاة بالمحاكم، ويعمل على اتخاذ الإجراءات المناسبة لتحسينه وتأطيره من أجل الرفع من النجاعة القضائية، ولا سيما ما تعلق منه باحترام الآجال الاسترشادية للبت في القضايا، كما يتتبع تحرير وطبع المقررات القضائية، وعمل التبليغ والتنفيذ، وغيرها من مهام الإدارة القضائية التي تتسم بالطابع القضائي، أو تندرج في إطار الولوج إلى العدالة.
ولا شك أن عملا كهذا وبهذا الحجم يجعل الرئيس المنتدب في منصب يخوله الحرس على الأمن القضائي ومن واجبه أن يسعى إلى اصلاح ما قد يبطل من أحكام وقرارات وقضائية غير مبنية على أسس قانونية .
وفي هذا الاطار لابد من الإشارة إلى أنه في مجال الأحكام القضائية يوجد ما هو صحيح ، كما أنه قد يوجد ما هو معدوم وما هو باطل . ويكون الحكم معدوما متى اختل ركن من أركان صحته، حيث لا ينتج أي أثر قانوني ويمكن لكل طرف التمسك بعيوبه من أجل أن يقرر انعدامه . كما لو صدر حكم من طرف قاض معزول مثلا. بل ومن حق الهيأة القضائية مصدرته المطالبة باعدامه . أما الحكم الباطل هو الحكم غير المبني على أي أساس قانوني سليم أوجاء مخالفا للشكل الذي حدده القانون .
ويعتبر في مفهوم المادة 97 من القانون التنظيمي رقم 13-106 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة ، خطأ جسيما الخرق الخطير لقاعدة مسطرية تشكل ضمانة لحقوق وحريات الأطراف، وكذا الخرق الخطير لقانون الموضوع ... قد يترتب عليه مساءلة جنائية أو تأديبية، بل وإن من أسباب مخاصمة القضاة ارتكاب خطأ مهني أثناء تهيء القضية .
وتأسيسا على ما سبق فإنه في الحالة التي تثبت مسؤولية القاضي عن خطإه الجسيم، وقد يحصل المتضرر على تعويض نتيجة الخطأ القضائي تطبيقا للفصل 122 من الدستور، نتساءل عن ما مصير المقرر القضائي المشوب بالخطأ الجسيم، هل يتحصن في الحالة التي لم يتم الطعن فيه. والحال أن الهيأة القضائية مصدرته تبت في حقها خرق خطير في تطبيق القانون وتعرضت للمساءلة طبقا للقانون، وربما عقوبة العزل؟
أمام صمت المسطرة المدنية السارية المفعول، ولسد هذه الثغرة القانونية جاءت المادة 17 من المشروع قانون بوسيلتين قانونيتين، الأولى ممنوحة للنيابة العامة مفادها المطالبة ببطلان المقرر القضائي لمخالفته للنظام العام، والثانية ممنوحة للرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية عن طريق طلب الإحالة، وكلا المسطرتين عبارة عن طعن أمام المحكمة المصدرة للقرار لا يتم إلا بناء على أمر كتابي يصدره الوكيل العام لدى محكمة النقض، ولا سيما ذا تعلق الأمر بخطأ قضائي جسيم أضر بحقوق أحد الأطراف .
وهنا كذلك نلاحظ أن الطعن المذكور لا يقبل إلا إذا تحقق الضرر الجسيم، أما في حالة عدم تضرر أي طرف من أطراف النزاع ومنهم النيابة العامة كذلك فلا مجال لقبول الطعن . كما أنه في كلتا الحالتين لا مجال للتمسك بآجال الطعن المنصوص عليها في المادة 16 من مشروع قانون المسطرة المدنية .
لكن التساؤل المطروح، هل يحق للنيابة العامة الطعن في المقرر القضائي المخالف للقانون وأضر بحقوق الغير دون تحديد سقف زمني لذلك ؟ أمام سكوت المادة 17 المذكورة، نرى أن المعول عليه هو مضمون المادة 449 من مشروع قانون المسطرة المدنية التي تنص في فقرتها الأولى أنه: " تكون المقررات القضائية قابلة للتنفيذ خلال 30 سنة من تاريخ صدورها، وتسقط قابليتها للتنفيذ في مواجهة كل طرف محكوم عليه بانصرام الأجل .." وهذا يعني أنه يجوز الطعن في المقررات القضائية الباطلة مادامت قابلة للتنفيذ ولم ينته الأجل المذكور. والملاحظ أن هذه المادة مقتبسة من الفصل 428 من قانون المسطرة السارية المفعول، وكان من المفروض تعديلها بتخفيض الأجل لمدة معقولة .
وقد يقول قائل أين الأمن القضائي من كل ما سبق، نقول بأن الحكم المعدوم لا تلحقه حصانة ولا يترتب عليه أي أثر قانوني فلا يحوز حجية الأحكام السليمة . وقد عرفت محكمة التمييز العراقية الحكم المعدوم بأنه: " الحكم الذي لا يرتب أي أثر قانوني ولا تلحقه حصانة، ولا يزول عيبه بفوات ميعاد الطعن بصدوره أي سبيل للتمسك بانعدامه." ( قرار محكمة التمييز201 / موسعة أولى / 1981 في 28/11/1981 ) . في حين يمكن تصحيح الحكم الباطل، ويحوز حجية الامر المقضي فيه ان لم يطعن فيه .
وقد قضى المجلس الأعلى (محكمة النقض ) بأن : " إحالة الملف على النيابة العامة لأول مرة في المرحلة الاستينافية و قيام هذه الأخيرة بتقديم مستنتجاتها ليس من شأنه أن يصحح الحكم الابتدائي الباطل لعدم مراعاته مقتضيات الفصل 9 من قانون المسطرة المدنية، ويكون القرار الاستئنافي المطعون فيه خارقا للقانون لما أيد الحكم الابتدائي مع أنه باطل." - قرار رقم 2008/1572 بتاريخ 3 دجنبر 2008 في الملف عدد 2005/2/3/275 منشور على موقع محكمة النقض - .
وبذلك يكون الحكم الباطل هو المعني بالمادة 17 السالفة الذكر، أما المعدوم فهو والعدم سيان.
... ولماذا السكوت عن مواد سارية المفعول؟ :
لكن التساؤل المطروح لماذا كل هذا النقاش حول هذه المادة، والسكوت المطبق حول مقتضيات أخرى مرت بسلام أمام أعين الجميع وصدرت بالجريدة الرسمية وهي سارية المفعول، ونذكر مثلا مضمون المادة 54 من مدونة الأوقاف التي نصت على أنه : " لاتمنع الرسوم العقارية المؤسسة لفائدة الغير، المحكمة من النظر في كل دعوى ترمي إلى إثبات صفة الوقف لعقار محفظ..." أليس هذا خروجا عن المنهجية القانونية المعتمدة في قانون التحفيظ العقاري بخصوص عدم قابلية إقامة أي دعوى في العقار بسبب حق وقع الاضرار به من جراء التحفيظ ( ف 64 من قانون التحفيظ العقاري) والمادة 58 من نفس المدونة التي نصت على أنه : " يمكن الطعن بإعادة النظر في الأحكام القضائية الصادرة في الدعاوى المتعلقة بالوقف العام متى قامت حجية على حبسية المدعى فيه، وذلك داخل 10 سنوات من التاريخ الذي يصبح فيه الحكم نهائيا. والطعن بإعادة النظر هنا يشمل كذلك قضايا التحفيظ العقاري استثناء من النص الخاص .
ومما ينبغي التذكير به أن الأجل الذي كان منصوصا عليه في مدونة 2010 هو فقط 5 سنوات وارتفع إلى 10 سنوات بموجب التعديل الذي مس المدونة بتاريخ فاتح مارس 2019.
ثم لماذا لم نسمع همسا عندما نصت المادة 15 من القانون رقم 62.17 بشأن الوصاية الإدارية على الجماعات السلالية وتدبير أملاكها، على أنه لا تكتسب أملاك الجماعات السلالية بالحيازة ولا بالتقادم ولا يمكن أن تكون موضوع حجز. بينما قامت القائمة ولم تقعد عندما تعلق الأمر بممتلكات الدولة سواء من خلال القانون المالي أو مشروع قانون المسطرة المدنية الحالي . فهل الأولى بالحماية أملاك الدولة وهي ثروة وطنية أم أملاك الجماعات السلالية وهي أملاك فئات وقبائل، في الوقت الذي يتحدث المشرع الدستوري عن الأمة المغربية.
لكل ما سبق نرى أن وضع نص المادة 17 ضمن مقتضيات مشروع قانون المسطرة المدنية الجديد كان موفقا، وسيكون عدلا تحديد سقف زمني مقبول لإمضائه.