افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 9 ماي 2024 لم يكُن أحدٌ سِواها من صَعد أدْراج مبْنى الجريدة إلى الطابق الأول، وكأنّها من فرْط ما سافرت في الذاكرة بتاريخها الشّخصي الثّقيل، صَعَدتْ عِوض الأدْراج كي تصِل إليَّ حيثُ أقْبع بين الأوراق في مكتبي، سبْعَ سماوات طِباقاً، قد يتساءل حائرٌ، مَنْ تُراها تكون هذه الزائرة التي أتحدث عن شخصيتها الثائرة على الأقل في قلمي، بصيغة (مَنْ) للعاقل وليس (ما) التي تستطيل بأذنين طويلتين على هامَة كل جاهل، إنّها لُغتنا العربية مَنْ جعلني أنتفض مُنتصباً من مقْعدي، كيف لا وأنا أنظُر لكل شموخها يقف أمام مكتبي بمقرِّ العمل، أوْمَأتْ لي بالتحية من مسافة أحرف لا تكفي للنَّبْس بجملة مُفيدة، فأوْمَأتُ بتحية أفضل منها مُوسعاً ذراعيَّ للعِنَاق، ولعنْتُ في خاطري كل البيروقراطيات التي تُمْليها النشوة الزائفة للمكتب، ثم أقعدتُ لغتنا العربية بجلال قدرها، مكاناً سَنيّاً قريباً من القلب! ولكن مَنْ تكون هذه اللغة العربية الأوسع في بحْرها اللُّجي من كل وصف، هل أبالغ إذا قلتُ إنّها تجسَّدت هذه المرّة كما يتمثّلُ الملائكة في البشر، في أحد عُشّاقها المُنافحين عن معانيها المفْقودة، إنه جامع الدُّرر الأديب والمُعْجَمائي المغربي الكبير عبد الغني أبو العزم، صاحبُ "الضريح" و"بعيدا عن الضريح" و"هكذا حدثني المنفى"... الذي أيْنع على يديْه الكريمتين مُعْجم اللغة العربية وأزْهَرْ! لقد قيل كل شيء، ولم تعُد اللغة العربية من شدّة ما تُثخنها الجراح، تحْتمل عملية شدِّ حبْل اللسان بالثرثرة، لذلك استمر الحديث معها أقصد مع أبي العزم صمتا طويلا، ولكنّه محفوفٌ بفهْم عميق يُغْني عن سرد الأعْطاب، فنحن نعيش في زمن لا يرْطن إلا بأنْكر الأصْوات، حتى اختلط الأصلُ بالمُهجَّن، ولمْ تَسْلم اللغة العربية مما يُسوِّسها من الداخل فرونكوفونيا أو أنجلوفونيا، بدعوى مُواكبة التطوُّر التكنولوجي، والحقيقة أنها من اللُّدونة والإبداعية التي تجعلها تُطوِّرُ نفسها بنفسها مُتجاوزة كل الأعطاب، غير مُتخلِّفة عن روح العصر في كل العلوم والآداب! ما أحْوجنا اليوم لرجال أفْذاذ كأبي العزم أمدَّ الله في عمره، يُهاجرون سرّاً أو علانية اللَّغطَ البشري، ليس على سبيل الاستعلاء المُتسنِّمِ لأبراج عاجية أو قرون نِعاجية، إنما التماساً لخلوةٍ مع اللغة العربية يُراوِدها عن نفسها أو معانيها لثلاثين سنة، يا أ الله ما جدوى كل الكلام الذي يطفو بغُثاء الزّبد مُلوِّثاً صفاء الأمواج، وقد خرج أبو العزم من خلْوته مع اللغة العربية منتصراً بمعْلمة خالدة اسمها "معجم الغني الزاهر"، ما جدوى كل الكلام وقد أصبح الصّمت أبلغ في أربعة مجلدات، أَوَ ليْس يستحق كي نظفر بلؤلؤ مُصفَّى في معجم، أن نضع أيادينا في الجمر ونزيد في الفحم! حين باغتني باسماً في مكتبي بالجريدة، لاحظتُ أنّه أضاف على غير العادة، لخُطْوتيه خطوةً ثالثة تتجسدُ في عكاز أنيق، لم أصدِّق، أنا الذي لم أعْهده من الأصْداء الإعلامية التي تصلُني، إلا نشيطاً مرحاً غير مُتثاقل يُسابق أجْنحة الكلمة، فعزوتُ الأمْر أنّها ليست أفاعيل السنين أو تفاعيلها الراقصة بين التّعب والخَبب، ولكنها مُجلّدات المعجم قد ناء بكلْكلها عاتقُ أبي العزم، وأنّى التثاقل ممّن يعدو خفيفاً مُواكباً كلماتنا ليَشْرح صدورنا قبل معانيها، أنَّى تُدْركه السنين بفرْدةٍ أو فرْدتين، وقد تجاوزها بروحه الاستشرافية الوثّابة، عساه يقبض بمعاني جديدة على أهْبةِ التشكُّل في رحِم المفردة! لو يعلم زمني الثقافي حجْم الخدمة الأدبية والعلمية التي قدّمها عبد الغني أبو العزم للغة العربية، هي أضخم من مُجرد شرح كلمات بمرادفات تجعل المعنى يسْتبدل كالعروس شكْله بأفخر الثياب، أكْبر من مُجرد محْو أمِّيةٍ ألفْبائيةٍ بقاموس أو مُنجد طُلّاب، بل لزمني الثقافي أن يفخر لأنّ الجيل القادم يسْتطيع أنْ يفُكَّ بمعجم أبي العزم، عُقْدة لِسانه وهو يقرأ بمفاتيح اصطلاحية جاهزة، كتاباً في العلوم الإنسانية ينتمي للمُستقبل، أو يقْرأ ربما ديواناً حظُّه غير عاثر، دون إحْساس بنقْصٍ في المشاعر!