تجيش بخاطري ألف فكرة وفكرة ، وتتملك قلبي أحاسيس شتى ، وتنتابني لحظات من الحسرة والكآبة ، في تناوب متصل ، لا تنفصل إلا لتعاود الكرة وبعنف ، وأنا أعايش أحداثا يومية رهيبة ، متوحشة ، عاتية عتو الأمواج الصاخبة . وأتساءل في نفس الوقت أين أصبح الحد الفاصل بين الواجبات والحقوق ، والعدل والظلم ، والحب والكره . وأتساءل في نفس الوقت أين بات موقعنا الحقيقي نحن العرب والمسلمين كبشر أولا ، وكشعوب ثانيا ، وكحكومات ثالثا ، على بساط الأرض في هذا الزمن ، وما هي هويتنا ؟ في أيامنا هذه غزو ما بعده غزو ، بالبهتان وبالمراوغات ، بالكيد ونسج الأحقاد ، وبالأسلحة على اختلاف حدتها وتسلطها وفتكها ، ناهيك عن الشد والجذب بكل ما يقع تحت اليد وصار له سحر خاص في رهن حياة الآخرين ، وتقزيم قاماتهم ، وكبت أحاسيسهم ، وإرهاق حياتهم ! فهل نستطيع القول بأن الإنسان لم يعد سيد نفسه ، لم يعد ذلك الشخص الذي يعيش معركته وكفاحه من أجل خُلُق فاضل يتحلى به ، وصفة عالية ترفع هامته ، ونبل تصرف يسمو به عن كل زلة قد يسقط فيها رغما عنه . ما نراه في مجتمعاتنا قفزات بهلوانية غير محكمة التداريب ، نهايتها تجمع بين الضحك والأسى قفزات بهلوانية متطفلة تدمع العين بعاطفتين متناقضتين ، ما نراه جنون العظمة ، حب ذاتٍ أعمى البصر والبصيرة ، سباحة عواطف لا تحسن الغطس أصلا ، وتنتظر تصفيق الجماهير على الفوز مسبقا . ما نراه في مجتمعاتنا شبيه بدمل متقيحة تنتاب الجسم كلما تعرض لعدوى مرضية ، تحتاج لدواء ناجع ورعاية يقظة حتى لا تعاود الكرة ، وإلا فالضرر سيكون أشد شراسة وفتكا ، كلما غض الطرف عنه وترك علاجه للأيام ، وشعوذة المشعوذين . ما نراه في مجتمعاتنا ولادات مشوهة رغم سلامة المحتد وطيبوبة العرق وأصالة النسب . ولادات معتوهة خُلُقا لا خَلْقا ، كفيفة العين عن كل جميل ، صماء الأذن عن كل مطرب . ولادات تهزها النغمة النشاز ، وتعشق الطبق عديم المذاق ، وتسير عبر طرق تظهر لها أشواكها ورودا ، وغربانها فواكه تزين هامات الأشجار . ما عاد عدد ممن يصنعون نسيج زمن اليوم يفهمون المقاومة والجهاد والتضحية لقمع الاستكبار ، وتقلد المسؤولية لرفع الظلم والحيف عن المقهورين ، ووأد الفساد بكل صنوفه كما تشرح هذه المفردات كل الموسوعات العلمية المتعارف عليها ثقافيا وأخلاقيا ، بل عدد منهم اليوم يغطون في النوم العميق ، ويحلمون بعكس أحلام أجدادهم الأشاوس ، وعند استيقاظهم يُكسرون كل شيء بناه الأجداد الذين قضوا وهم يتمنون أن ينجبوا خير خلف لخير سلف . أعداد من جيل اليوم يعيشون تيها وجدانيا ، وتيها اجتماعيا ، وتيها ثقافيا ، وتيها نضاليا . همّ جلل يسيطر على ما يعتقدونه فكرا ، ويتجلى لهم طموحا ، وينقادون إليه هياما وعشقا . إنه الشهرة والسلطة والمال ؛ كيف ، ومن أين ، وإلى أين ، لا يهم . أداس على جثة غيره ، أم غدر به ، أم تحداه ، لا يهم . يتوهم خطواته تضحية ، ومطالبه شهامة ، وشتان بين التضحية والشهامة والتحدي مع الحق ، وبين التهور والجنون . في كل حقبة زمنية كمّ من الأحداث والعبر ، وموجات من النجاحات والإخفاقات ، ومعارك مع لقمة العيش ، ومع لباس يقي الحر والقر ، ومع ملاذ آمن مطمئن . لكن ذلك يخضع لمقاسات زمان الحقبة ومكانها ، وأمزجة ساكنتها وخط مسير أوطانها . وكل حقبة لا تخلو من رخاء ويسر ، ورعونة وتظلم وقهر ، لا تخلو من البسطاء والقنوعين والمستضعفين ، ولا تخلو من الأقوياء بدينهم ، أو بمالهم ، أو بمكانتهم ، والكل يُكَوّن خزان أمة ما ، في وطن ما ، يعيش أقوامه في كنفه ، ينهض بهم ، ويعتزون به ، ينتقدون طغاته ومستغلي خيراته وطاقاته داخل رقعته ، يحاولون إصلاح ما فسد وتقويم ما اعوج ، وفي نفس الوقت يدافعون عنه بحب وغيرة شديدة كلما وجدوا أنفسهم خارج دائرة الوطن ، هذا ما تواتر على الأسماع ، ودونته الصحف والكتب ، وتوارثه جيل بعد جيل ، ونقرأه حتى اليوم . أما أن يصبح الوطن عدوا ، والعدو صديقا ، ويطلب المرء العون ممن استعبدوه واستغلوا خيراته وأناسه أبشع استغلال ، يمثلون بالنسبة إليه أهل الحق والقانون ، ولا يلتفت إلى ما صنعوا ، بل وما زال في جعبتهم الكثير من التهميش لدولنا ومجتمعاتنا ، وإظهارنا أوهن مما نتصور، ولن نستطيع الحراك بدون الاعتماد على استشاراتهم ، وتنفيذ أوامرهم ، أما حقدهم على الإسلام والمسلمين فغير خاف في إعلامهم ، وأفلامهم ، وأغانيهم ، ويصرح به جهابذة أوطانهم دون خجل أو وجل . ترى هل تشعر أمَة الله أميناتو بالراحة وهي تسعى للطعن في إجماع أمة على وحدتها الترابية مستعينة في ذلك بألد الخصام ؟ ، وهل تحس بالزهو والافتخار وهي ترى أناسها في وطنها تمرغ أنوفهم في التراب ؟ ، وهل تتملكها النشوة وهي تسمع تصريحات حاقدة لمنافقين من هنا وهناك يحيطون بها ، ومَن يركبون مشكلتها ، إن كانت حقا مشكلة ؟ ، لا لسواد عيونها ، وإنما حبا في الشهرة وتوطين الأقدام في إعلام الساعة ، والتنافس على قائمة الريادة في مجال لم يعد مقتصرا على أهل الصنعة ، وإنما دخله الدخلاء ، وجندوا الطاقات بكل الوسائل للانتقال إلى استعمار إعلامي جديد يأتي على الأخضر واليابس . في الحقيقة لا أعلم مثل هذه الحالة لا في سير الأولين ، ولا الآخرين . فأين نحن من قول الشاعر: بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنوا علي كرام أو قول الشافعي : صحة النظر في الأمور نجاة من الغرور . وصدق الله العظيم حين قال في محكم التنزيل ، الذي لا يغفل عنه إلا الغافلون والسذج : « إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور» ومع ذلك ، يفتح لي الأمل بابا على مصراعيه بحضور جيل من الشباب الواعي بقيم مجتمعاتنا وطموحنا ، ويتحدى في إصرار وترفع ، لتقويم المعوج وإصلاح الأضرار ، ومواصلة إذكاء روح النضال الحقيقي الثابت المشرف .