لايذكر المرحوم الأستاذ عبد الله كنون إلا ويتبادر إلى الذهن وضوح المفهوم الحقيقي للعصامية واثبات الذات، وهو شيء لايحظى به إلاَّ أفذاذ لاينبغون إلا في عصور متباعدة، وعبد الله كنون أحد هؤلاء الأفذاذ، لقد علم نفسه بنفسه ووجهها التوجيه الذي يريد وكيف يريد، وتخطى بها حواجز التاريخ والبيئة التي يقف دونها كل من حاول تجاوزها ولا يملك ذلك. فتح عبد الله كنون بصره وبصيرته على القرآن الكريم، فوجد في كتاب الله لذة العقل وكمال النفس والوجدان، وفي صحيح البخاري وجد كل العلوم الشرعية والاخلاقية والأدبية والتربوية مستمدة من سنة الرسول محمد (ص) وسيرته العطرة. تلقى الأستاذ عبد الله كنون دروسه العلمية على والده العلامة عبد الصمد بن الشيخ التهامي كنون، وبدأ نبوغه المبكر في الكتابة ونظم الشعر في العقد الثاني من عمره، ولما بلغ العشرين أخذ يؤلف الكتب وينشر أبحاثاً في الصحف والمجلات، وعمل في التدريس فأنشأ مدرسة إسلامية حرة تخرج منها كثير من رجال التعليم والمثقفين. فعبد الله كنون ينطبق عليه قول أحد المفكرين: (إن أشرف ما في الانسان فكره، وقائد الأفكار أعظم من قائد الجيوش، وسرُّ الأمَم في رجالها المفكرين الذين وهبوا من بعد الفهم، وقرارة العلم وصفاء الجبان ماهيأ لهم خدمة أوطانهم في حرارة وإيمان وجعلهم ممثليها ينطقون بآلامها وآمالها، ويقفون جهادهم عليها ويستنزفون اعمارهم في خدمتها)، وهذا ماينطبق على الفقيد المرحوم الاستاذ عبد الله كنون. فالمفكرون العظام هم الذين لايموتون بفقد أشخاصهم، وغيابهم واختفائهم في بطن الأرض، لأنهم ليس كعامة الناس الذين اذا ماتوا انسدل الستار بينهم وبين الأحياء إلى الأبد، فالعظيم إذا استوفى أجله في هذه الحياة فإنما تجرد فقط من معاني الفناء وانتقل إلى حياة أخرى أشد توهجاً، واسمى معنى وابعد حقيقة. كان المرحوم عبد الله كنون متكامل البنية، مهيب الطلعة، قوي الشخصية قادراً على استمالة الناس والأخذ بمجامع قلوبهم، ملتزماً بالبساطة في العيش والتواضع في المعشر، والإبتعاد عن الشبهات والصغائر، فكان صالحاً تقيا وفالحاً ونقياًَ، رفيع المقام، وافر الاحترام، كانت سماتة تنطق بالورع، وحركاته بالتقوى، ونظارته بالخشوع وكلماته بالإستغفار. لقد أتيح لي أن أتعرف على الأستاذ عبد الله كنون وأنا طالب حديث ا لعهد بالجامعة، حيث كنت أراسله بانتظام الى منزله بحي القصبة بمدينة طنجة أسأله عن موضوعات فكرية أو دينية، فكان رحمه الله يرد على كل خطاب أبعثه إليه، ومازلت احتفظ بسيل من الرسائل التي كنت أتوصل بها من الفقيد العزيز ومنها رسائل توصلت بها أياماً قبل وفاته بمدة قصيرة، فكان المرض لايمنعه من التواصل مع احبائه وهذه شيمة من شيمه الكثيرة. وضمن المراسلات التي كنت أبعثها إليه بعض ما أكتبه من موضوعات ثقافية كان يشجعني على نشرها في جريدة (الميثاق) الأسبوعية لسان رابطة علماء المغرب التي كان يرأس تحريرها آنذاك. ولما أسسنا الجمعية المغربية للتضامن الاسلامي وبعد وفاة مؤسسها المرحوم الأستاذ علال الفاسي، طلبت من فضيلته ان يكون رئيساً شرفا لهذه الجمعية فقبل رئاستها الشرفية حيث استمرت هذه الرئاسة لعدة سنوات كان خلالها الموجه والمرشد للجمعية مما جعلها تستفيد من نصائحه وإرشاداته الغالية وتثمر نشاطاتها. وأبى المرحوم عبد الله كنون إلا أن يساهم في سلسلة الكتب التي تصدرها الجمعية ضمن سلسلته في سبيل وعي اسلامي بكتاب اختار له عنوان (حب الرسول للنساء) وعندما توصل مكتب الجمعية بمسودة هذا الكتاب تردد في الاتصال بالمؤلف حول امكانية تغيير عنوانه وجعله (حب الرسول لنسائه) تلافياً لانتقادات بعض المتشددين، فامتنع المرحوم عبد الله كنون عن أن يقع أي تغيير في العنوان مصراً على العنوان الذي اختاره والا فلاداعي لطبع الكتاب، معززاً رأيه بالحديث النبوي الشريف «حبب إليَّ من دنياكم النساء والطيب...» فاختيار عنوان آخر في نظر الفقيد لايبرز الغاية المتوخاة من هذا الكتاب استناداً الى حديث الرسول. فرحم الله العلامة عبد الله كنون - مفخرة المغرب - الذي يصدق عليه قول الشاعر العربي القديم: وما عمرو هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما