تحدثنا في الحديث الأخير الجمعة الماضية عن ضرورة توفر القدوة الحسنة والقيادة الحكيمة لتحقيق النمو والعدل الاجتماعي، وأعطينا مثالا واضحا بما كان عليه عمر بن الخطاب، ولا أظن أن هذا النموذج في القدوة مما يصعب الاقتداء به. والاقتداء بالطبع لا يعني دائما التماثل أو التطابق، ولكن يعني أن يختار الإنسان النهج الذي يريد السير عليه، وإذا كان الناس استبعدوا الاقتداء بعمر ومن على منهاجه من المسلمين حتى صار الناس يقولون لمن يحاول الإنصاف بين الناس هل أنت عمر بن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز؟ ولكنهم مع ذلك لا يستبعدون الاقتداء بالطغاة والجبابرة والظالمين، بل ان الناس يرون في بعض المتسلطين نماذج تفوق من سبقهم من الطغاة والفراعنة الجبابرة، وذلك لأن الشر يسهل الاندفاع نحوه، ولكن الخير يصعب تمثله والعمل به ولذلك قيل حفت الجنة بالمكاره، ومع هذا وذاك فإن التأسي بالكرام وبالعادلين رباح كما يقول الشاعر العربي المسؤولون قدوة لغيرهم؟ لقد امتاز عصرنا بالاستعانة بالخبراء الأجانب والوطنيين وامتاز كذلك بما يقدمه هؤلاء الخبراء في تقاريرهم من توجيهات ونصائح، والاسترشاد بالنماذج الناجحة في الأخذ بهذه التوجيهات، ولكن مع ذلك فإن المسؤولين في ديار الإسلام لا يصعب عليهم الاقتداء بالخلفاء والملوك الصالحين من سلفهم، ولكن يصعب عليهم كذلك الأخذ حتى بالنماذج الناجحة في عصرنا، من أقوام وأمم أخرى، وذلك لأن نزعة التسلط والانفراد بالرأي وشهوة الكسب والاستئثار من دون الناس في كل شيء هي التي تجعل القائمين والمسؤولين في ديار الإسلام على ما هم عليه من استصعاب كل شيء من شأنه أن يفضي إلى جعل الناس الذين تحت مسؤولياتهم يتمتعون بما أفاء الله به على أوطانهم من خيرات وإمكانيات حيث يركم البعض الأموال ولا يجد الاكثر حتى الأقل الحيوي من العيش مع ان الامر يقتضي ان يكون المسؤولون المثل الذي يقتدي به غيره. فالقدوة تجعل الإنسان يختار مثله الأعلى ليسير على النهج الذي سار عليه، ومعنى ذلك أن الإنسان منذ البداية يتوفر على برنامج واضح لأنه يرى في مثله الأعلى الذي اختاره، ليس فقط مجرد قدوة ومثلا أعلى، ولكن لأنه يحدد الصفات والمميزات التي يمتاز بها، وعلى أساسها أو بدافع منها يختاره وينصبه أمامه في الحياة، ولذلك ولما لهذا من أثر في تقويم السلوك الإنساني وجعل الإنسان منذ اليوم الأول يرقى بنفسه ويجد لها موجها يوجهها نحو الرفعة والسمو، كان المربون والموجهون يرشدون الناشئة إلى اختيار القدوة والمثل الأعلى الذي يريد الإنسان أن يكون المرجع الأساس لما يرومه في حياته سواء كانت حياة ما دية أو معنوية، فكان للجندي مثل أعلى في قائد معين، وكان للأديب الناشئ مثل أعلى في أديب بارز وللصناعي ولرجل الأعمال الخ، ولكن يظهر أن ذوي الحكم والنفوذ في ديار الإسلام لا يتوفرون على هذا الحس ربما لأنهم لم يكونوا في حياتهم يطمحون إلى أن يصبحوا قادة أو حكاما أو وزراء وإنما الصدفة والأقدار لعبت دورا ما في وصولهم إلى ما وصلوا إليه، ومن ثم فإن الاقتداء بمثل أعلى يشخصونه أمامهم ربما كان آخر شيء يفكرون فيه، وثمة أمر آخر ربما لا يسعف في ذلك وهو أن ضحالة الثقافة أو انعدامها بالمرة لدى البعض لا يتيح لهم فرصة التفكير في غير ما هو أقرب وأكثر فائدة في نظرهم، وليس هناك في هذا العصر ما هو أكثر وأجدى وأنفع من التفكير في إيصال الأهل والأحباب والأقارب إلى أعلى المناصب وإتاحة الفرصة أمامهم ليحققوا المكاسب بأسهل طريق وأقرب مسلك فكانت الويلات التي نقرأها ونسمع بها وربما نشاهدها نماذج حية تمشي على رجليها في هذا البلد أو ذاك. ومع أن الأمر كما أشرت وربما في بعض الحالات أكثر فإن الواجب يقتضي أن يسعى الإنسان ما وسعه السعي للتذكير بما يجب التذكير به سعيا لتبرئة الذمة من واجب الصدع بما ينبغي الصدع به من ضرورة تحقيق العدل والإنصاف بين الناس وذلك أضعف الإيمان. ولعل أن يكون هذا القدر الذي تحدثنا به عن القدوة كافيا لإثارة الانتباه وتذكير من يريد وفي جميع الأحوال فالذكرى تنفع المؤمنين. نريد الوسطيات بالجمع لا بالمفرد وإذا كان الناس لا يتحدثون عن القدوة فإنهم هذه الأيام يكثرون الحديث عن الوسطية، وأنا هنا سأتحدث عن الوسطية كشرط لازم لتحقيق العدل بين الناس، والقضاء على هذه الفوارق الاجتماعية الفاحشة التي يلاحظها الإنسان في المجتمع الإسلامي هنا وهناك، غير أن الذي يتحدثون عن الوسطية في الوقت الحاضر إنما يتحدثون عن الوسطية التي تجعل الناس خاضعين وغير متأثرين بما يجري من الانحرافات والتطرف المبالغ فيه في التبذير والإنفاق في غير وجه حق الذي تعرفه المجتمعات الإسلامية، إن الكثيرين اليوم يستعملون الآية الكريمة « وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا» وذلك للرد على تلك الفئة من الناس التي تتطرف في فهم النصوص والأحكام، وترتكز على هذا الفهم الخاطئ في القيام بأعمال تصنف ضمن ما يعرف اليوم بالإرهاب، وذلك لأنها تروع الناس الآمنين ويذهب ضحيتها كثير من الأبرياء الذين لا ذنب لهم، وليسوا في واقع الأمر إلا ضحايا الانحراف الفكري ولرد الفعل تجاه تصرفات ليس أولئك الضحايا مسؤولين عنها لا من قريب ولا من بعيد، فالوسطية إذن إنما تستعمل هنا استعمالا سياسيا للوقوف في وجه الناس الذين يبالغون في تصرفاتهم ويصيبهم جنون الغلو فيخرجون عن سواء السبيل بما يرتكبونه من أعمال وتصرفات. ولست أريد هنا أن أعترض على هذا الفهم من أجل الرد على المتطرفين فهو فهم على أي حال يضع الأمر في سياق ما يجب من لزوم الاعتدال وعدم فرض ما فيه حرج على الناس فالدين يسر (وما جعل عليكم في الدين من حرج) ولكن أريد أن أشير إلى جانب آخر من الوسطية لان الوسطية وسطيات بالجمع لا بالمفرد وهذا الجانب هو الذي له مساس كبير بالموضوع الذي نتحدث فيه وهو موضوع العدل والإنصاف بين الناس مساهمة في القضاء على الفقر واثاره. هذه الوسطية التي أريد اليوم أن أذكر بها، هي تلك الوسطية المرتبطة بالإنفاق الخاص والعام، هذا الإنفاق الذي تحدث عنه القرآن في الكثير من الآيات وخصه الفقهاء والباحثون في القرآن والسنة بكثير من الكلام والتوضيح ذلك ان مسألة الإنفاق مسألة تتعلق بالناس كثيرا، بل هي أكثر مساسا بحياتهم من أي شيء آخر، والسياسة إنما تضر الناس أو تنفعهم، ويهتمون بها أولا يهتمون بقدر مالها من علاقة بالإنفاق فإذا كان الإنفاق كثيرا واستهلك السياسيون أو من بيدهم أمر السياسية والحكم أكثر مما ينبغي فإن ما ينفقونه إنما يجلبونه أو يجبونه مما يفرضون على الناس من اتاوات وضرائب وغيرها في وقتنا الحاضر. أو ما يحصلونه من خراج وزكاة وفيء وغيرها بالمصطلح الإسلامي القديم من هنا كانت العناية بالإنفاق وكيف يتم وما تأثيره على حياة الناس من حيث الكسب والمعيشة أو من حيث الجوع والشبع، أو من حيث الغنى والفقر، أو من حيث الغصب وانتزاع الأموال بغير حق، واكتسابها من وجه غير مشروع؟ فالناس إذن يهتمون بهذه السياسية المرتبطة بالإنفاق لأن الإنفاق لابد له من مصدر فكان هذا المصدر الذي تجبى منه الأموال هم الناس مباشرة أو بكيفية غير مباشرة. إن الإنفاق هو بدوره ركن أساس في تلك الوسطية التي يحلو لكثير من الناس ومن المسؤولين أن يتحدثوا عنها، فقل أن تجد مسؤولا في ديار الإسلام اليوم إلا وهو من دعاة الوسطية وحماتها، ولكن لندع الحكم والسياسة ولنسأل هل هذه الوسطية لها وجود في تصرفات هؤلاء المسؤولين في مجال الإنفاق؟ إن الجواب على هذا السؤال لا يحتاج إلى عناء كبير للإجابة عليه، والإجابة بالطبع ليست في صالح هؤلاء المسؤولين، ذلك أنهم ينفقون من المال الذي هو أساسا مال الله أو مال الناس؟ حسب النية وهدف المتكلم، فقد كان بعض الخلفاء في عصر بني أمية يستعملون جملة مال الله فوجدوا من رفض ذلك لأنهم يتخذون ذلك ذريعة للحيلولة بين الناس وبين ما لهم من حقوق في هذا المال فكان الرد هو ان المال مال المسلمين، وهو رد ذكي ولا يرفض أن يكون المال مال الله إذا انفق بعدل وإنصاف على عيال الله. البذخ والاسراف ضد الوسطية ونرجع إلى ما كنا بصدده من الوسطية في الإنفاق، فإذا كان القرآن تحدث على الإنفاق فإننا من أجل أن يكون في وجهه الصحيح وهذا الوجه الصحيح هو أن لا يكون التبذير هو الطابع الغالب على الإنفاق، لقد أوضح القرآن في آيات واضحة أن التبذير مذموم، بل أن صاحبه يعد في خانة إخوان الشياطين، فقال (ولا تبذر تبذيرا ان المبذرين كانوا إخوان الشياطين) الآية لذلك فإن الذين يتحدثون في السياسة عن الوسطية ثم تجدهم عند الإنفاق يبذرون الأموال وينفقونها في غير ما رصدت له وربما بأكثر مما ينبغي حتى بالنسبة لما رصدت له حيث يلتجئ المسؤولون إلى البذخ والترف الزائد فتضيع الحقوق ومصالح الناس ويكون هذا الإنفاق مدعاة وسببا في كثير من المآسي التي نتج عنها التطرف في المجال الآخر الذي استنكرناه، فإذا كان التطرف في الدين مذموما فإن التطرف في الإنفاق والإسراف فيه والتبذير هو كذلك من التطرف المذموم، ولا يمكن أن يكون السعي للوسطية ممدوحا ومرغوبا فيه في جانب،وفي جانب آخر نتجنبه ونتنكبه، فعندما نتصرف هذا التصرف يصدق علينا ما نعاه القرآن على أولئك الأقوام الماضين الذين يختارون ما يومنون به وما يرفضون الإيمان به، فقال «أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض» فنحن لم نكد نسمع من المسؤولين في العالم الإسلامي من يردد تلك الآية الأخرى لتكتمل الصورة وليكتمل الأخذ بالوسطية كاملة، وليست هذه الآية إلا قوله تعالى وهو يصف عباد الرحمان وما يتمتعون به من خصال وأوصاف تجعلهم اقرب إلى الله من غيرهم من الناس، بل تجعلهم مثالا وقدوة، ونحن قد أسلفنا الكلام عن القدوة فيما بيناه سابقا، ولم يذكر القرآن الكريم صفات المؤمنين في كثير من الآيات ومن بين هذه الصفات الإنفاق في سبيل الله، كما لم يبين صفات عباد الرحمان في آيات تتلى ويتعبد بها إلا ليقتدي الناس بها ويسعوا ما وسعهم السعي ليكونوا حقيقة من عباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما. هكذا يصف القرآن عباد الرحمان في بداية هذه الصفات والأوصاف ولكني اليوم أريد أن أتحدث عن جانب فقط وعن صفات فقط من تلك الصفات والتي لها مساس بموضوعنا وهو موضوع الوسطية، هذه الوسطية التي اعتبرها أحد السلف حسنة بين السيئتين، وكأني به يعبر تعبيرا أصيلا وبمصطلح إسلامي سليم حتى قبل أن يتصل المسلمون بالفكر الإغريقي ويأخذون منهم الوسطية المكانية التي تقول الفضيلة وسط بين رذيلتين والتي انتقدها كثير من المفكرين والباحثين باعتبار أن الإسلام ينشد الكمال والكمال لا حد له ومنتهى القول عندهم إن الكمال لله وحده. ان هذه الوسطية المالية أوالإنفاقية هي في نظري تستحق التركيز عليها أكثر من غيرها من الوسطيات الأخرى، لأنها تقينا شرور ذلك التطرف السياسي أو الغلو الديني، وهي كما يلتزم بها الأفراد في سلوكهم، وهي صفات من صفات عباد الرحمن، يجب أن تكون أساس سياسة الإنفاق بالنسبة للحكومات الإسلامية فإذا رعت هذه الحكومات هذه الوسطية الإنفاقية فإن كثيرا من الأموال والنفقات التي تذهب في غير طائل والتي توغر قلوب الناس وتجعل الكثير متطرفين موتورين، كما انها اذا روعيت تساعد أكثر في تحقيق العدل بين الناس، والقضاء على الفقر وما يترتب عليه من جوع وجهل ومرض وجريمة وكل الآفات الأخرى. إن القرءان الكريم الذي هو دستور المسلمين وضع هذه القاعدة الذهبية للوسطية الانفاقية حتى لا تزل أقدام، وحتى لا تضيع الأموال فقال جل من قائل: « والذين اذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما» إنها الوسطية في قمة السلوك فإن ما ينفق من المال في مشاريع البهرجة والفخفخة والمظاهر الزائفة ولا أقول الحفلات الماجنة من طرف الحكومات أو من طرف الأفراد لو دبر إنفاقه بعقلية وسطية حقة لكان الوضع الاجتماعي والوضع الاقتصادي للأمة على أحسن حال ولكن الذي نراه من الإنفاق الفاحش والفقر المدقع يجعل من الحديث عن الوسطية حديثا يطرح أكثر من سؤال. ونحن عندما أشرنا إلى الموضوع في سياق الحديث عما تتوفر عليه الأمة من الثروات ومع ذلك يكثر الفقر والجوع والجهل فإننا نرى أن الوسطية في الإنفاق من لوازم التنمية الحقة للقضاء على الفقر وامراضه الاجتماعية.