أدغال بكثرة ما عدنا إلى هنا، خطر لنا مرارا أن نتساءل: لماذا نعود أصلا؟! ثم حين كان لابد أن نعود، فلماذا نعود إلى هنا؟! أوليس أمرا مستغربا أن نعود إلى هنا تحديدا، وليس إلى مكان آخر؟! أي إلى نفس المكان الذي سئمناه كثيرا وكنا نود أن نهجره، دائما، غير أننا لم نستطع، حتى في المواسم التي تكون الهجرة فيها طبيعية، علما أنه إذا هاجرنا، تغيرنا حتما، وتمكنا من كسر السلسلة الجهنمية من العودة والذهاب ؟ أحيانا نقول بأنه كان يجدر بنا أن نذهب إلى مكان آخر، لأنه في هذه الحالة فقط، يكون يسيرا علينا أن نهجرهما معا، إلى مكان آخر، يكون ممكنا علينا العيش فيه، ومن ثم، يكون يسيرا علينا أن نكون أيضا، ما نحن إياه. ولكم أدهشنا أن نلاحظ يوما، أننا كنا نعود ببساطة لأننا لم نكن نجد أين نمضي! أحيانا، من فرط ملازمتنا لنفس المكان، وانضوائنا الدائم تحته في كل الفصول التي تقتضي منا الذهاب إلى أي مكان آخر، أرحب، أو فقط أوسع قليلا من رصيف ضيق في شارع هامشي و بلا أرصفة، وحتى نبرئ ساحتنا من كوننا ظللنا فقط نتقاعس، بتذرعنا بالألغام، أو بالحرس، الذي يضرب طوقا من حولنا طوال الوقت الذي لا يمر إلا بعد أن يستنزفنا ويحبس أنفاسنا. وأحيانا أخرى لا نتصور أننا من فرط جلوسنا، صرنا من البدانة بحيث أخذنا نبدو للآخرين مثل دببة، ولا غرابة، ما دامت ملابسنا تضيق حول أجسادنا، ومادام لا يساورنا إحساس ما عدا هذا»الشوق» إلى مداعبة الدببة الأخرى أو إلى نهشها، فضلا عن حنين جارف إلى الأدغال، حيث لا ندري إن كان حنيننا إليها متأت من ذهولنا عن أمكنتنا الطبيعية، أم هو متأت من حرماننا منها! وفضلا عن البدانة، فقد صرنا خرسا، ولم نعد نصدر تلك الأصوات التي تشبه الأنين، فقط، من شدة ضيقنا من رخام أبيض كثير و يحف بنا من كل جهة، كما تحف بنا الأيام، صرنا نصدر أصواتا كالعواء. هدف «برشلونة سجلت الهدف»! يكرر المذيع الجملة عشرات المرات، رافعا صوته في كل مرة، ومضفيا المزيد من الحماس، ثم يردف «لاحظ لاحظ» ، فنلاحظ المشهد أمامنا ، بألوانه الحمراء والخضراء والبيضاء، وكل ما يواكبه من هياج ملايين الجماهير بالتصوير البطيء المقرون بالصوت الذي يستدرك مؤكدا: «واكون يا عالم!» إنه لا يستدرك فقط ، بل هو يزف لنا الخبر، كما لو أننا سهونا عنه، فيزفه للعالم، ويعيد نقل المشهد مرة أخرى بالصوت المرتفع وبالصورة، واضعا إيانا في إطاره أو في بؤرته أو في قلبه، وهو لا يتركنا لأنفسنا لحظة لكي نختبر حواسنا وحتى نهتف مستجيبين وبصوت واحد: «والزوط» بل هو يتأفف، بدل أن يستحسن، ونحن لا نحتاج إلى تفكير طويل بعدئذ لكي نتأكد أنه لا يتحمس إلا لكونه يتلقى تعويضا ضخما، بل إنه يشبه المؤذن الذي لا يرفع الآذان عاليا إن لم يكن يتلقى مقابلا مناظرا، لأنه مفروض فيه أن يؤمن بالقضية أولا، وأن لا يتشكك لحظة واحدة من سموها أو من عدلها، إننا لا يمكن أن نقبل أن يكون مستوى الحماس متوافقا مع نسبة التعويض ، فمثل هذا التقويم مغلوط وعلى أية حال، فإنه أفضل كثيرا من المذيع الآخر الذي يكرر فقط « أولا لا لا»!» أولالالا»...طوال الوقت، على نحو ممل وسخيف،، وللتعبير عن نفورنا، نكرر: «أولالالا»،وكم نشمئز من كونه ينال بالمقابل تعويضا طائلا عن ذلك فقط. سبت عادة، لا ينتهي يوم السبت، مهما كان يبدأ مبكرا. تنتهي الأيام الأخرى، برفق واقتضاب، إلا يوم السبت، الذي، إن تصورت أنك خرجت منه،تعقبك، فتحس أنه من اللجاجة حد أن يخوض الطرق المولية الى الخلف . مشاهدات لا تكون المشاهدة حقيقية، من غير المطالبة بأن تكون مقرونة بالكلام، وبصراحة، نحن نحب أن نتكلم، لذلك نتكلم، خصوصا حين نحس أننا لا نقول شيئا، نحن نتكلم، وأحيانا ننصت، وكثيرا ما نطالب النادل أن يرفع صوت التلفزيون الذي «يخطب» طوال الوقت باللغة الصينية، التي لا نعرفها ،غير أننا نعرف أنه يقدم نشرة الأخبار، معربا عما يجري في البلاد، لذلك نحب أن نسمع الأخبار،مرتفعة.. وفضلا عن ذلك،نحن نحب أن نصلي، فنصلي جميعا، وحينما ننتهي، نصف مزايا ذلك، ودوره في الإرتفاع أوالسمو بأرواحنا لكل من لا يفعل. سيرة يقول جاك : «حينما ازددت، وجدت نفسي في الرابعة عشر من عمري، لقد تأخرت عنوة في المجيء، لأنني كنت دائما أخشى الدخول في الآلية المفترسة للزمن، لأني أعرف أنه حينما يدخل المرء فيها يصير «كرونولوجيا»، أي مضبوطا زمنيا، أو مؤقتا،و ما أن يتفطن لذلك، حتى ينقض عليه الرعب الميتافزيقي، وينشب مخالبه في روحه كنسر».و» جاك» هذا هو انعكاس أوجين يونيسكو ، وهو قد تفادى المجيء إلى العالم لسنوات، لكنه لم يعرف ماذا حدث فجأة، فكان ضروريا ،هكذا،أن يجيء، وبذلك، صار ملزما أن يندمج في الواقع أيضا ،ف»اندمج»، أحيانا يحس أن المتعة الجسدية هي، في حد ذاتها، أمر لايمكن أن يقاوم، فقط لو كانت أبدية. فضلا عنها، فإن للبضائع جاذبية اضافية،لكن ، فجأة يموت منتج البضائع، غير أن الملك يظل يصيح، وسط الحلبة،وهو يحتضر ، ويظن أنه ان كان لابد أن يموت ، فعلى الجميع أن يموت الآن! لقد انتاب جاك» الإحساس» يوما أنه لم يجئ، إلا لكونه طرد بالفعل من الجنة، لكنه طرد نتيجة معصية ارتكبها من قبل سيده آدم،ولم يرتكبها هو! عيادة للضجر جاذبية لا تقاوم، وعموما، فقد جئنا إلى هنا لكي ننتظر، بإمكان الطبيب أن يتأخر كما يشاء، فسوف نبقى بانتظاره حتى النهاية، نشاهد صور الهياكل العظمية وصورالأمعاء.. ثمة صور كثيرة للأمعاء في كل مكان، في الممر، وفي حجرة الانتظار، ناهيك عن حجرة الفحص بلا شك.. بعد الصور، سنقرأ كل المجلات التي صدرت في عصر قديم ، ونحن نقرأها، سنتصور أن أحداثها حدثت للتو.. وحينما ننتهي من المجلات، سننتقل الى الجرائد، التي هي أجزاء مهلهلة، قد يسعفك الحظ فتعثر على نصف الجريدة الأخرى، وحينئذ سنكتشف لأول مرة أنها صدرت في 11 شتنبر 2001، فنعيد توزيع الأحداث من جديد ونكتشف أن عدة أحداث كان من الضروري أن تحدث وأخرى كان من الممكن أن تؤجل وأخرى كان من الممكن أن تحدث قبل حدوثهاأو أثناءه أو بعده، وأخرى لم يكن من اللازم أن تحدث أبدا، لولا وجود أشخاص عجلوا بحدوثها وكان من الأليق أن ينالوا عقابهم وأن يحاسبوا،...إلخ. وفي لحظة، نعرف أن الطبيب، إن هو جاء، سيقول لنا ان الكثير منا يعاني فقط من القلق، أو هو بصراحة لم يعد ينفع، لأنه يدخل كثيرا ويخرج في الكلام ?كأنه طبيب نفسي- والواقع أنه سئم وجوهنا، ومج أن يكتب لنا كل مرة دواء بديلا (بلاسبو).. أما فيما يخصنا، فنحن نشكو بالفعل من الأمعاء، وأي «مبرر» للأمر كله انما هو مجرد هروب، وبالمناسبة، فإنه يكاد يدهشنا أنه لا يمكن أن يكون كسائر الأطباء الذين لم يعد يهمهم صحة الناس، بقدر ما يهمهم استغلال هشاشاتنا وابتزازنا، ومراكمة الأموال والسيارات والفيلات والحسابات. . وعموما، فإننا لم نجد بدا من الثقة في الطبيب، وفي كل الأحوال، فقد تكون ثقتنا هذه «عمياء»، كما يقال، ثم إننا نعرف جميعا أن الأعمار بيد الله وحده، ومع ذلك، لا نجد بدا من أن «نجرب» ولاسيما حينما تتكالب علينا الآلام ، حينئذ نجد أنفسنا نلجأ إليهم(الى الأطباء)، وكأنهم مكلفون بالحياة، أو أنهم يملكون مفاتيحها، وأننا بذلك لا يمكن فقط أن نتوهم المرض. فرح لاشك أن مقياس فرحنا، مرتبط ارتباطا وثيقا باستياء الآخرين، لذلك يمكن أن تطمئن بالكامل، فنحن نعرف جيدا كيف نعكر صفوهم، ولا يمكن أن نتصور كم هو مسموح لنا بذلك! وكيف أنه من السهل، أن نعصف أيضا براحتهم! فإن كانت تلزمنا الخبرة، فقد أخذناها لمدة كافية (53 عاما!)، وتعلمنا أن نرفع أصواتنا كل سنة، أكثر من السنوات الماضية، ويكفي أن نلاحظ أن السكوت قد عم، لأننا نكره السكوت، حتى نرفع أصواتنا بالدعاء،وقبلها بالغناء، وبعدها بالصراخ، نصرخ ونصفق، ونضع مضخمات للصوت أكثر فعالية، ونأتي دائما بمغنيات أفواههن أضخم، وحناجرهن أكثر نجاعة. ونرفع زمارات سياراتنا و «نحني» للعريس، ونتحلق حوله، وهو مغطى الوجه بجلباب أبيض ثم نرفع أصواتنا بالنشيد، ونعلي من رنين أي شيء بطرق تقليدية وعصرية وبمختلف الطرق التي تتضمن طربا. وعموما، فالمسلم، لكي يكون مسلما، يجدر به أن يحب لنفسه ما يحب لغيره، ونحن نحب لغيرنا أن يفرح، وصدق من قال بأننا خير أمة أخرجت للناس. حركة شخوص بيكيت يجوبون كل الأنحاء، بدراجتهم الهوائية وعكاكيزهم، من شدة الحركة، هم غالبا ما يضيعون وسائلهم في النقل (دراجاتهم وعكاكيزهم)، ويفقدون معها سواعدهم وسيقانهم، ولكنهم لا يركنون بالمرة إلى الجمود، فحين يحسون أنهم جابوا كل الأنحاء، من غير جدوى، وأهدروا كل مجهوداتهم، هم لا يركنون إلى الجمود، بل يفعلون كل ما في وسعهم، ويتمرغون في كل الأوحال، ويحفرون حفرهم، وهم خلال سعيهم، العسير، لم تساورهم أحلام اليقظة، ولا أحلام النوم، وعاشوا في أيام غير قابلة للإندراج في أية روزنامة،فزحفوا في أمكنة بلا أبعاد، ولم يبقوا مكتوفي الأيدي أبدا للعاصفة ، فهي حين مرت، أخذوا يصنعون الفراغ في أنفسهم