لو استحالت الرموش إلى ريشة في محبرة الأعين، لأمكن تدوين كل ميكانيزمات الرقص على قماشة الهواء؛ قد يبدو هذا التوصيف غاية في الترميز الشعري ، ولكنه ينثوي على قلق يستثيره فن لا تبقى منه سوى الصور في الأخيلة؛ إنه فن الرقص المُتَفَلِّت عن كل قبض وتحديد، ولاشيء يبقى منه حين يخمد الجسد إلى سكون ، سوى أثر في الأنفس غير قابل للتسجيل؛ أجل، فالرقص بتعبير «ستيفان لوغران» في استقراء بعدد 2009/21/7 من صحيفة لومند (le monde des livres) الفرنسية عنصر جموح ، يتفلت من الفكر ويرفض الاستسلام للتدوين في أرشيفات النظرية، وليس ثمة من سبب قوي، سوى انعدام مكتبات أو متاحف للحركة؛ وقد تسطَّر هذا الكلم ل «ستيفان لوغران» على نول استقرائه لكتاب الباحث «فريدريك بويلود» الموسوم ب «الخمول الكوريغرافي: دراسة حول مفهوم الأثر في الرقص» الصادر أخيراً ضمن منشورات «دراسات في الفن والفلسفة» بفرنسا، ويقع في 430 صفحة؛ يقول «ستيفان لوغران»، إن الرقص لم يتمكن من العثور على مكانه في أنساق الفنون الجميلة، حين ولد خطاب الاستيتيقا إبان القرن الثامن عشر (18) في عقر الفلسفة؛ وتلك هي النقطة المحتومة لكتاب فريدريك بويلود. فالرقص، حسب ما يستجلي الكاتب، يبقى في نظر المفكرين الذين آلوا جهداً لإخضاعه للنظام، أكثر وأقل من فن؛ أقل، لأنه عبث وعصيان اجتماعي؛ وأكثر من فن، لأنه يكشف عن وحدة تنتسب للإدراك، والحراك، ووضعت أساساً لكل فن، من طرف مفكرين مثل «بول فاليري» و «إيروين ستراوس»، أو أولئك الأكثر حداثة، مثل «ألن باديو» و «رونو باربارا»؛ إن الرقص «فن ما قبل الفن، فن قبل التلاشي في أثر»؛ طائش ومتعال، وهو في ذات الآن، ملاك ووحش، ومتفلت أيضاً؛ والرقص، كما قال فوكو عن الجنون، بمثابة غياب للأثر؛ ولأن الرقص - حسب استقراء ستيفان دائما - يخضع للتأجج الانفعالي، وبما هو قبل كل شيء إنصات حميمي للجسد الراقص، فإنه لا يتقاسم الانطباعات التي ينتجها مع المشاهد على اختلاف الإيقاعات الصادرة عن الموسيقيين، والأشكال التي يجسدها الرسام؛ إلخ... فالراقص لا يترك لنا إلا صورة عنه، تلك التي لا تنقل شيئا عما اختبره؟ والرقص أيضا، محض استهلاك يتلاشى في اللحظة حيث يمنح نفسه؛ ولا يترك حتى الرماد خلفه؛ لا توليفة، لا كتاب، لا لوحة، ولا خراب؛ إن مفهوم «الاستهلاك» يتجوهر أيضا في قلب كتاب «فريدريك بويلود»؛ وقد استند في تفكيره في هذا المفهوم، على جورج باطاي الذي قال إن الإنسان بمثابة «سلبية دون عمل»؛ من هذه الوجهة نظر، فإن القوة الإنسانية الكامنة في «نفي» العالم؛ أي استثماره وإعادة تشكيله؛ هي في ازدياد بالمقارنة مع ما يلزم القوة الإنسانية واقتصاد الحاجات. في نهاية العمل أو الأثر الذي نستجلي من خلاله العالم من أجل منفعتنا، تظل فينا قوة النفي، مسلوبة من الغاية، «دون عمل»؛ إن الأثر الفني، شيء يخص الناس؛ ويفترض دائما أن إحدى الأدوات المادية، تمكن من تحويل تجربة فردية؛ أي تجربة الفنان؛ إلى شيء تشاركي، موجه إلى مُسْتَقْبِلٍ. من وجهة نظر أخرى؛ يعتبر الأثر الفني، عنصرا مقاوما، ويجدر به أن يعثر في إحدى الدعامات كيفما كانت، خلودا قمينا بتجاوز حدود الزمن والأشخاص. وفي نهاية هذا الاستقراء، نخلص إلى أن مفهوم الأثر، غاية في الوضوح، كما أنه في أعيننا متواشج عميقا بإنسانيتنا، ف«الأثر الفني» ليس إلا بناء تاريخيا ومحتملا؛ لكن يبقى الرقص الذي انطلت لذته على الأجساد في العالم من فرط زئبقيته، قابلا لهدم ما اكتمل أو تضخم من أنساق رياضية في دروس المعاهد، بابتكار حركة جمالية قد تأتي عفو الجسد؛ ليكون الرقص بذلك، اللغة التي لا يختلف في فهمها التعبيري العالم...