أصدرت السيدة جيهان السادات، أرملة الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات، كتاباً باللغة الإنجليزية ترجم إلى اللغة العربية، بعنوان (أملي في السلام). قرأت الكتاب الذي صدر عن (دار الشروق) في القاهرة، فلفت انتباهي فيه للوهلة الأولى، الفصل الذي يحمل عنوان (أن يكون المرء مسلماً) الذي يقع في أربعين صفحة، والذي يتضمن أفكاراَ وآراء وتحليلات ومواقف تبعث على الاحترام فعلاً. تقول الكاتبة التي تقيم في الولاياتالمتحدةالأمريكية حيث تزاول مهنة التدريس في إحدى الجامعات بها وتلقي المحاضرات في محافل أكاديمية ومنتديات عديدة : « إن الإسلام يجابه تحديات عظيمة ليس فقط في العالم الخارجي بل في داخله أيضاً وأنا أرى أن صلاح المسلم لا يعني التعالي على النقد أو إسكات المعارضة داخل مجتمعاتنا الإسلامية ». وتضيف : « لا يطالبنا الإسلام باعتزال العالم، بل بالأخذ بأسباب حياة عادية هي جزء لا يتجزأ من العالم، مع تطبيق الاعتدال في كل شيء. إن التطرف يتعارض مع المبادئ الجوهرية للإسلام، ومع ذلك ترتبط كلمة (التطرف) بكلمة (الإسلام) داخل عقول الكثيرين من الأشخاص. وهو ما يقودني إلى توضيح الاعتقادات الخاطئة عن الإسلام والسلام ». وتزيد السيدة جيهان السادات هذه القضية إيضاحاً، فتقول في الصفحة 57 : « سواء تم ذلك عن طريق المصادفة أو العمد، توحي الحوارات التي تتناول الإسلام بأنه ذو طبيعة واحدة، وأن المسلمين يتصرفون على نحو صارم لا سبيل إلى تغييره، وأن المسلمين متطابقون في معتقداتهم وإيديولوجياتهم وأجنداتهم. يسهل الموقفُ العقلي الجامد الذي يضع الإسلام في منافسة مع الغرب، ترويجَ مثل هذا الوهم. ولا شك أن الحقيقة مختلفة تمام الاختلاف، فالمسلمون يشكلون 1,2 مليار من سكان الكرة الرضية، وهم يتفرقون في عدة مناطق، وليسوا فقط في الشرق الأوسط ». وتمضي الكاتبة في هذا السياق قائلةً : « إنه رغم استخدام البعض كلمة (المسلمين) كبديل عن (العرب)، والعكس صحيح، فإن أقل من 20 في المائة من مسلمي العالم يتحدثون العربية، بل إن هناك اختلافات ثقافية وعرقية وسياسية بين أفراد هذا القطاع من المسلمين والمرتبط في الظاهر بلغة مشتركة ». وتعرض الكاتبة لقضية دقيقة طالما تجاهلها الكتاب والمفكرون من العالم العربي، فتقول : « في الإسلام لا يوجد بابا بمقدوره التحدث بلسان كل المؤمنين. وفي تعاليم السنة أغلبية المسلمين لا يوجد تسلسل هرمي إكليركي قد يؤلف نسخة إسلامية من الكنيسة. أسمع من حين لآخر الربط بين الأزهر، الجامعة العتيقة في القاهرة والمركز الرائد للمذهب السني، وبين الفاتيكان، لكنه ربط خاطئ. إن الشيوخ والأئمة المسلمين ليسوا نظراء للوعاظ والقساوسة المسيحيين أو أحبار اليهود. يعرف المذهبُ السني الشيخَ بالعالم الديني، والإمام بمن اختار إمامة المؤمنين في الصلاة، وهو اختيار ينبع من معرفة الإمام بالقرآن ومن سِنِّه ومكانته في المجتمع. لا يقوم الشيوخ والأئمة مقام الشفعاء، والمسلمون ليسوا مضطرين لطاعتهم. فعلاقة الفرد بربه علاقة مباشرة ». إن أهمية هذا الكلام تأتي من أنه كتب في الأصل باللغة الإنجليزية، ونشر في الولاياتالمتحدةالأمريكية، ثم ترجم إلى اللغة العربية وإلى لغات أخرى. وتنبع قيمته من كون الكاتبة شخصية ذات ثقل ووزن لها خلفية سياسية وثقافية. فهي خريجة كلية الآداب بجامعة القاهرة، وتحمل الدكتوراه في الأدب العربي عن الشاعر الإنجليزي (شيلي)، وهي رفيقة حياة زعيم عربي عاش أكثر من نصف قرن في قلب المعمعة السياسية في بلاده، وكان بطلاً في الحرب وصانعاً للسلام. أضف إلى ذلك أن هذه الأفكار تطرحها المؤلفة في الجامعات الأمريكية، وفي كل محفل أكاديمي تدعى إليه لإلقاء المحاضرات. وتتحدث الكاتبة عن موقف الإسلام من الديمقراطية تحت عنوان فرعي (الاعتقاد الخاطئ الثالث : الإسلام يقف موقف المعارض للديمقراطية)، فتقول في الصفحة 72 : «لأن الدول الإسلامية على عكس الأوروبية أصبحت أكثر تديناً وأقل علمانية في خلال العقود الثلاثة الأخيرة، أحياناً ما يتهم الإسلام بالتخلف. ويتضح ذلك أشد ما يتضح في المناقشات عن المسلمين والديمقراطية. المسَلم به هو أن هناك بعض المتعصبين الذين يؤكدون أن نظاماً يهيمن عليه الشعب سوف ينال من هيمنة الله. بيد أن هذه قضية تنطبق على كل أشكال الحكم وليس فقط الديمقراطي. هناك أيضاً قلة ترفض الديمقراطية رفضاً مطلقاً، لأنها تبدو لهم اكتشافاً غربياً، وعليه تحف به علامات الريبة. ومع ذلك يتفق معظم الخبراء على أن المسلمين مهتمون بوجه عام بحكومة تمثلهم ومنفتحون عليها. نقل استفتاء جالوب الإسلامي العالمي، أن أكثر ما يعجب المسلمين في الغرب، هو الحرية السياسية بعد التكنولوجيا، وذلك تبعاً للمسلمين من الدول العشر ذات الأغلبية الإسلامية التي تم فيها الاستفتاء، وهي : مصر وباكستان والمملكة العربية السعودية والأردن والعراق والمغرب وأندونيسيا وإيران وتركيا ولبنان». وتعقب الكاتبة على نتائج هذا الاستفتاء، فتقول : «أرى أن هذه النتائج منطقية تماماً. لقد أمر الإسلام المسلمين بالأخذ بأسباب حياة مفعمة بالإخاء خالية من التمييز. ينبغي أن نحترم البشر ونعاملهم معاملة الأكفاء، بغض النظر عن العقيدة أو اللون، سواء كانوا رجالاً أو نساء، مدنيين أو جنوداً، حكاماً أو رعايا، أغنياء أو فقراء. الواقع أن الإسلام ديمقراطية روحية، ينزع إلى المساواة نزعة راديكالية، يهتم بالكرامة الإنسانية اهتماماً عميقاً». ويعكس هذا التعقيب تصوراً سليماً للعلاقة بين الإسلام والديمقراطية، ويعبر عن فهم مستنير لمقاصد الشرع الحنيف، ولحقائق الإسلام كما هي في وضوحها وصفائها وطبيعتها. وهو موقف جدير بالاحترام يحسب للمؤلفة، ويزيد من أهميته أن الكاتبة تطرح موقفها هذا أمام الرأي العام الأمريكي. ومما لفت نظري في هذا التعقيب أيضاً، ورودُ عبارتين مشحونتين بمعان عميقة، هما : (ديمقراطية روحية) و(نزعة راديكالية). والعبارة الثانية محمودة وإيجابية في هذا السياق، فهي تصف المساواة في الإسلام بأنها تنزع نزعة راديكالية. أضف إلى ذلك كلّه المعلومةَ التي أتت بها الكاتبة عن الاستفتاء الذي أجراه معهد (جالوب الإسلامي العالمي) لقياس الرأي العام. ونحن نعلم أن (جالوب) –GALLUP- من كبريات مؤسسات قياس الرأي العام في الولاياتالمتحدةالأمريكية وفي الغرب عموماً، أسسه جورج جالوب سنة 1935 في واشنطن. ولكننا لا نعرف شيئاً عن (جالوب الإسلامي العالمي). وتعرض المؤلفة للصوفية في الإسلام، فتقول إن الطرق الصوفية تتسم بالتسامح، لأن «أفرادها يسعون إلى الحقيقة في كل العقائد، ويرنون إلى الله في كل شخص وكل شيء. وفهمها (أي الصوفية) مقصور على فئة قليلة معينة، وأحياناً ما يزهد أفرادها في الحياة». وبعد أن تعطي صورة إجمالية عن الصوفية في الإسلام، تخلص إلى القول : «إن الإسلام يخلو من تعليم رهباني، لأن المسلمين يؤمنون بأن خدمة الله تتم في إطار المجتمع، وليس الانسحاب منه. وعليه فإن بعض العناصر المتشددة في الإسلام ترى أن الممارسات الصوفية هرطقة. ومع ذلك يبقى لها تأثير جدير بالاعتبار. فقد كان الكثير من القضاة والزعماء المسلمين العظماء صوفيين» –الصفحة 64-. وتفرد المؤلفة فقرات للحديث عن العلاقة بين السنة والشيعة، في إطارها التاريخي، وتعرض للفوارق المذهبية وجذور الانقسام بين الطائفتين، من دون أن تقع في الخطأ الذي يقع فيه غالبية الكتاب الذين يتناولون هذا الموضوع. وتقول : «إن كلاًّ من السنة والشيعة يمارسون أركان الإسلام الخمسة، وينظرون إلى بعضهم بعضاً كمسلمين». وهذا رأي حصيف يحمد للمؤلفة. في الفصل الذي أسمته المؤلفة (إيماني) تطالعنا صورة المرأة المسلمة المؤمنة المثقفة الواعية المعتزة بإيمانها. تقول السيدة جيهان : «لقد لعب الإيمان دائماً دوراً حيوياً في حياتي، إذ حرصت أمي، البريطانية المسيحية المتزوجة من رجل مسلم، على أن يستوعب أطفالها دين أبيهم وكيفية مزاولة شعائره. لم تستطع أمنا بالطبع تعليمنا هذه الشعائر، وعليه أوكلت مهمة تعليمنا الديني إلى أسرة أبينا. وعلى الرغم من أني أحب شجرة عيد الميلاد المجيد برائحتها الجميلة ومذاق الحلوى في سلة عيد الفصح، فإني أدرك أن القرآن هو أساس حياتي، جمال الله بين يديّ. يخامرني الاشتياق إلى أذان الصلاة الرخيم الذي يملأ جو القاهرة خمس مرات يومياً». وتبلغ الكاتبة قمة التعبير عن حقيقة رسالتها في الحياة، فتقول في عبارة جميلة ندية : «الحق أني تمكنت من تجاوز هذا الأسى (تقصد اغتيال زوجها الرئيس السادات) بإحساس جديد متنام بوجود هدف في حياتي هو ممارية شعائر الإسلام والعمل من أجل السلام». أرى أن هذا الكتاب يستحق القراءة، لأهمية الأفكار والآراء والتحليلات الواردة في فصوله، وللقيمة الأدبية والثقافية والسياسية والإنسانية لمؤلفته التي دخلت بكتابها هذا نادي المؤلفين المفكرين الأحرار، ذوي الرؤية الإنسانية إلى قضايا العصر وإلى مستقبل العالم من منطلق الإيمان بالخصوصيات الروحية والثقافية والحضارية التي تعتز بها.