منذ أسابيع نظمت جمعية المحافظة على القرءان الكريم حفلا قرءانيا بمناسبة إصلاح دار القرءان مقر الجمعية لتستأنف الجمعية ودار القرءان نشاطهما في الاعتناء بكتاب الله حفظا وتجويدا وتعليما وقد كان هذا الحفل فرصة مواتية لثلة من العلماء والأساتذة والمثقفين للحضور في هذا الحفل وإلقاء بعض الكلمات كما ساهمت مجموعة من المقرئين في تلاوة آيات بينات من كتاب الله العزيز وقد سبق لجريدة «العلم» الغراء نشر مراسلة مختصرة في الموضوع أشارت فيها إلى مساهمة متواضعة من صاحب ركن حديث الجمعة وقد تفضل مشكور أحد الأساتذة الذين حضروا هذا الحفل باستخراج هذه الكلمة من الشريط، وإشراكا لقراء ركن حديث الجمعة في تلك الأمسية القرءانية ننشر جزءا مما جاء في تلك الكلمة المرتجلة. ************* يقول الله سبحانه وتعالى: « إن هذا القرآن يهدي إلى التي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعلمون الصالحات ان لهم أجرا كبيرا» (سورة الإسراء) وقال « ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين « نجتمع اليوم في هذه الأمسية المباركة لنستمع إلى تلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم بمناسبة افتتاح هذه الدار من جديد دارا للقرآن دارا للتربية دارا للتأهيل دارا للتوجيه دارا للإرشاد، نفتتحها بعد أن تم ترميمها وإصلاحها بفضل أحد المحسنين الذين رأوا في ذلك تقربا إلى الله سبحانه وتعالى باعتبار هذا من قبيل الصدقة الجارية وعند الله حسن الجزاء. الهدف من افتتاح الدار وهي دار كان الهدف من شرائها من طرف العالم المجاهد سيدي علال الفاسي رحمه الله ووضعها رهن إشارة جمعية المحافظة على القرآن الكريم هو أن تواصل هذه الجمعية دورها ومسيرتها ورسالتها التاريخية والدينية التي أضطلعت بها منذ ما يزيد عن 70 سنة هذه الجمعية التي أسست منذ اليوم الأول لتكون عونا ومساعدا لحفظة كتاب الله ومدعمة لدورهم ورسالتهم، ومدعمة للمهمة المنوطة بهم في تلاوة القرآن وحفظه وتدبر معانيه وتوجيه الأمة التوجيه الصالح قصد المواظبة على حفظ القرآن وتلاوته وتدبر معانيه. وإذا رجعنا بالذاكرة إلى تلك الحقبة التي تأسست فيها هذه الجمعية وهي بداية الثلاثينيات من القرن الماضي (19301931) نجد أن الأوضاع السياسية كانت صعبة سواء بالنسبة للمواطنين أو الوطنيين الشباب الذين بدؤوا يتلمسون طريقهم ويبحثون عن الاتجاه الذي يأخذونه من أجل الدفاع عن وطنهم وعن عقيدتهم وعن شريعتهم. إذ كانت المرحلة دقيقة وصعبة ولكن هؤلاء العلماء الشباب ومن يدعمهم من الوطنيين الذين تفتقت عبقريتهم وإرادتهم عن كثير من المبادرات والأفكار النيرة والتي كان تأسيس هذه الجمعية من بينها. في البداية كان العمل ضمن المجموعة الموجودة بالمساجد شرطا لما قررت الجمعية أن تقوم به، ان هذا العمل الذي يمكن وصفه بالاستباقي كانت له أبعاد دينية وأخلاقية وسياسية واجتماعية. فالجمعية تأتي ضمن سياق المشروع الوطني النهضوي الذي وضعت أسسه النخبة الوطنية العاملة. كانت البداية بسيطة لأنه لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أننا عندما ندخل المسجد اليوم ونجد المؤمنين جالسين في صفوف متراصة وبين أيديهم مصاحف يتلون كتاب الله ترتيلا جماعية بصفة خاصة أيام الجمع وبصفة أخص عند قراءة الحزب الراتب صباحا ومساءا. ان هذا الأمر مما قامت الجمعية بانجازه إذ كان الناس قبل ذلك يقرؤون كل واحد منهم بمفرده يتلو ما شاء الله من القرآن فمنهم من يرفع صوته ومنهم من يقرأ في السر. وكل يقرأ بالطريقة التي تناسبه وبالكيفية التي يريد أو نشأ عليها في مدينته أو قريته فكان المستمع و المتأمل والمتدبر لا يستطيع أن يفهم ولا أن يتابع ما يقرؤه المقرءون، وبصفة خاصة أولئك الذين حرموا نعمة القراءة والكتابة ومن نعمة حفظ كتاب الله فكان الهدف في البداية هو أن يجتمع الناس جميعا ليقرءوا قراءة موحدة، وأن تكون القراءة في المصاحف، ولم تكن المصاحف ميسرة في المساجد على النحو الذي نراه اليوم، حيث المصاحف متوفرة والحمد لله والمحسنون كثر. في تلك المرحلة كان المصحف في أيدي الناس من المسائل الصعبة التي كان من الضروري بذل مجهود جبار لتوفيرها بالشكل المناسب والمطلوب وهكذا كانت القراءة الموحدة رمزا للوحدة الوطنية والدينية والسياسية، إذا هذه الجمعية سواء في فاس أو سلا أو الرباط أو الدارالبيضاء أو مكناس أو ومراكش أو غير ذلك من المدن والقرى أنجزت هذا التوحيد والوحدة. وعندما نستحضر أن هذه السنوات (1930) وما بعدها كانت هي سنوات قراءة اللطيف لمواجهة فكرة التشتيت و التمزيق وإبعاد الشريعة الإسلامية عن الواقع المغربي ندرك مغزى هذا العمل لأنه يجب أن نفهم ونعلم أن الإدارة الفرنسية و الاستعمار الفرنسي لم يقصدا عندما سنا ظهير 16 مايو 1930، لم يكن يقصد فقط فصل الأمازيغ عن الشريعة وعن اللغة العربية، ولكن عمله كان يتماشى مع الرسالة التي يسلكها لإبعاد المغاربة عن شريعتهم وعن الفقه الإسلامي المستمد من القرءان. فهذا العمل هو الذي كان عمل الوطنيين رد فعل ضده سواء بتأسيس هذه الجمعية المعنية بتلاوة القرآن والمحافظة على كتاب الله ولا يفوتني هنا أن أشير إلى أن جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه استحسن مبادرة تأسيس الجمعية واعتنى بها اعتناء كبيرا. العناية بالكتاتيب القرآنية وتحويلها إلى مدارس حرة لكن المحافظة تتطلب الكثير من العناية بالكتاتيب القرءانية و بالمعلمين فيها وما يقدم إليها من اجر وكذلك بأجرة الحزابة والفئات التي كانت تجتمع حول تلاوة القرآن ومدارسته. إذن الجمعية في البداية كان هدفها وغايتها إيقاظ الوعي بضرورة المحافظة على كتاب الله. والوحدة حوله والشعب المغربي يحفظ القران الكريم ويهتم بقراءته وتحفيظه فالمغرب معروف ومشهور بأنه يهتم ويعتني شبانه ومواطنوه بالقرآن، يحفظونه ويراعونه ويعملون جهدهم لكي تبقى شعلته متقدة، وذلك تسخيرا من الله تعالى « إنا نحن أنزلنا الذكر وإنا له لحافظون» والله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئا هيأ له الأسباب. فمن الأسباب التي هيئت للمحافظة على القرءان الكريم ولتدبره في هذه البلاد هذه الجمعية التي استمر عملها في مدينة فاس على غرار باقي المدن الأخرى. وإذا كان عمل الجمعية أصابه فتورا أو توقف عدة سنوات وذلك نظرا لما أصاب هذه الدار من إهمال ومن تلاشي إلى أن قيض الله لها كما قلت سابقا الأخ الكريم عبد الرازق بنكيران الذي اعتنى بها وقام بإصلاحها لتقوم بدورها ولتعود سيرتها الأولى. يجب أن تكون هذه الدار متعاونة ومتميزة والآن ونحن بصدد أن نعيد هذه الدار سيرتها لتتعاون ما أخواتها دور القران التي تقوم بنفس الدور إلا أنه ينبغي أن تكون هذه الدار متميزة بحكم تاريخها وأسلوبها وبطريقها المندمج في نسق ما نشأ عليه المغاربة من البعد عن الغلو وعن التطرف وعن الأشياء التي من شأنها أن تبعد الناس عن حقيقة الدين المبنية على اليسر. فالله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم ميسرا لا معسرا « وما جعل عليكم في الدين من حرج « فالدين ليس فيه من حرج فالله سبحانه أنزل في القران الكريم وقال فيه: «فاتقوا الله ما استطعتم» فالإنسان لا يغالي في إلزام نفسه بما لا يقدر عليه وبما يشق عليه، طبعا الفرائض واجبة. وهذا ليس موضوع نقاش ولا موضوع جدال ولا موضوع أخذ ورد. ولكن مع ذلك فالمطلوب من الإنسان هو ألا يشق على نفسه، وألا يحرجها، وألا يلتزم بما لا تطيق. لأنه كما ورد في الحديث: ألا أن الدين متين، فأوغل فيه برفق فان المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا ابقى ومن يسر فقد أطع « وكما ورد ما شاد الدين احد إلا غلبه» ومن مميزات الإسلام ما عبر عنه البوصيري رحمه الله في بيته المشهور: لم يكلفنا بما تعيا العقول به حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم هذا ما يتعلق بالفرائض والسنن وما فرضه الله عن الإنسان. أما ما يتعلق بمسائل أخرى التي يشتغل بها الناس اليوم والتي أصبحت شائعة في مجتمعنا فينبغي أن نؤكد أن القران جاء لكي تكون شريعته وتعاليمه وتوجيهاته في سياق بلوغ الرسالة النبوية مستوى من النضوج العقلي فالله سبحانه وتعالى ختم الرسالات برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومعناه أن الرسالة جاءت في مستوى العقل وفي مستوى النضوج الإنساني وفي مستوى ما جاء به القران الكريم الذي هو الكتاب الوحيد الذي وصل إلينا والى الناس بطريقة التواتر وشريعته هي المهيمنة على الشرائع السابقة وهذا يعني أن المسلم وان الذاكر لكتاب الله سبحانه وتعالى، والمحافظ على تلاوته ينبغي يكون سهلا، لينا، هاشا، باشا، معاملا للناس بلطف وبرفق ونحن اليوم في مجتمع تتلاطم فيه الأمواج، مجتمع استطاع أعداء الإسلام أن ينفثوا في مجتمعنا وكافة المجتمعات الإسلامية من الوساوس والأوهام وأشياء يدسونها على المسلمين ما جعلوا به المسلمين يشتغلون ببعضهم البعض، ويتركون خصومهم وأعداءهم يفعلون ما يشاءون في أوطان ومجتمعات المسلمين. الإسلام دين توحيد لا دين تكفير إن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن الكريم لكي نتوحد حوله، ونعمل بمقتضى ما جاء فيه ولكن بعض الناس أصبحوا يستعملون القرآن الكريم، و الحديث النبوي والأحكام، لغاية وأهداف ليست هي الأهداف التي وجه إليها القرآن، فالمسلمون إخوة ولا يكفر بعضهم بعضا لان القاعدة عندنا نحن أهل السنة والأشاعرة بصفة خاصة أننا لا نكفر أحدا من أهل القبلة فالله سبحانه وتعالى هو الذي يتولى السرائر ومن قال لا اله إلا الله محمد رسول الله فقد عصم دمه وعرضه وماله إلا بحق من حقوق الله. ذلك هو ما نطق به رسول الله وما عمل به المسلمون منذ أمد بعيد وحددوا أن الحد ليس لأحد من الناس أمر إقامته وإنما هو لولي الأمر وللحكومة ولقضاة الأمة الذين يقيمون الحدود بين الناس، ولذلك فإن ما يروجه بعض الناس وما يشيعونه في مجتمعنا وما يدعون إليه ويعملون من اجله من نصب بعض الناس لأنفسهم للحكم على نوايا الناس بعيد كل البعد عن المنهج الإسلامي الصحيح لذلك، نرفض نحن هذا الأسلوب في مجتمعنا المسلم وفي جمعية المحافظة على القرآن الكريم وليس من منهج أولئك العلماء الأفاضل والأساتذة الذين تعاقبوا على تسيير هذه الجمعية والذين أسسوها. الأمة الوسط العادلة ان هؤلاء كان الهدف لديهم هو أن نكون أمة وسطا أي امة عادلة امة تلتزم الحق وتدافع عنه، وتؤمن به وترشد الناس إليه بدون تعسف ولا شطط والشعار الذي وضعه الراحل علال الفاسي رحمه الله هو لا جمود ولا جحود هو ميزان العمل في الجمعية وأنشطتها فنحن لسنا مع الجمود ولا مع الجحود ولا مع التطرف ولا مع الميوعة ولا مع تجاوز الحدود والشرائع ولكننا مع القائمين على القسط، القائمين على الحق مدافعين على «أدعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة» فالحكمة والموعظة الحسنة هما الأسلوب الخير والنظيف الأسلوب الهادئ وهو ما يتعلمه الإنسان من تلاوة القرآن وحفظه وتدبر معانيه لذلك فهذه الدار التي ستنطلق في عملها وستواصل رسالتها إلى جانب أخواتها سنسير على نفس النهج نهج السلف الصالح في الإيمان والعقيدة ونهج السلف الصالح في التمسك بوحدة الأمة، ونهج السلف الصالح في الدعوة إلى الخير والى العمل الصالح. لكننا لا نريد من القائمين عليها إلا أن يلتزموا العمل بالأسس التي التزمت بها الأمة المغربية وبقيت عليها منذ أجيال وقرون كما أسسها ابن عاشر. فنحن سنيون في الفقه سنيون في الشريعة سنيون في العقيدة سنيون في التصوف فنحن لا نغلي العقل ولا نبالغ ولكننا كما كال السلف الصالح نعمل العقل في مجاله. ونقتصر على النص فيما لا مجال فيه للعقل ونحن نؤمن بأن القرءان جاء كذلك من أجل توفير الكرامة للإنسان وتحقيق العدل بين الناس، فلا مجال في مجتمع يستظل بالقرءان للظلم والجبروت ولا مجال في مجتمع يومن بالقرءان للاستغلال والاحتكار وفرض سيطرة فئة أو طبقة أو دولة، ولكن الناس ينسجم بعضهم مع البعض في سياق العدل والإحسان، اللذين أمر بهما الله سبحانه وتعالى وهكذا كانت الأمة الإسلامية منذ البداية، وبهذه الروح سادت الحضارة الإسلامية في جميع أنحاء العالم وازدهر العلم بجانب الاقتصاد بجانب العقيدة، فالكل منسجم ومتناسق بعضه مع البعض ونريد من الجمعية ومن الدار ومن أساتذة ومعلميها وطلبتها والقائمين عليها ان يكونوا رسل خير ومحبة وتعاون وتضامن لأن في ذلك وفاء لرسالة القرءان ووفاء للجمعية ورسالتها ولمؤسسيها. مرة أخرى شكرا لكم وشكرا جزيلا لمن قام بإصلاح الدار وشكرا لمن أعاد إليها الحيوية والنشاط.