في الركن الذي يعده الأخ الأستاذ صديق بوعلام بمناسبة شهر رمضان المعظم ويستعرض فيه أقوالا مختارة لبعض المفكرين والباحثين من غير المسلمين استهل هذا الركن ببعض المقتطفات للمستشرق الفرنسي بلاشير، وحتى يكون القارئ لذلك على علم ببعض المواقف تجاه القرآن الكريم نستعرض من خلال (نظرات في سورة لقمان) جملة من الأفكار والآراء التي تعبر حقيقة عن الموقف الحقيقي لهذا المستشرق حتى لا يغتر القارئ بذلك النوع من الكلام المنمق والذي يخفي تحته الأحقاد القديمة على أمل العودة إلى الموضوع في فرصة أخرى. ( الم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين ) نواصل الكلام عن افتتاح هذه السورة المباركة، وقد وقف المفسرون عند هذا الافتتاح محاولين ببراعة أبراز ما تتضمنه عبارة تلك آيات الكتاب الحكيم « من نكت بلاغية ونحوية شأنهم في مثل هذه المواقف التي يحاولون دائما ان يجعلوا القارئ والمتدبر لكتاب الله يستحضر ما في هذا الكتاب من الإعجاز ومن خصائص تعبيرية تبرز عبقرية اللغة العربية من خلال هذا الكتاب الحكيم هذه العبقرية اللغوية التي التقطها معنى منفردا بهذا الالتفاظ حافظ إبراهيم عندما قال: وسعت كتاب الله لفظا وغاية وما ضقت عن أي به وعظات وإذا كان التعبير في سورة البقرة ب (ذلك الكتاب لا ريب فيه) فان التعبير هنا بالإشارة إلى الآيات في سياق ما أشرنا إليه في الومضة السابقة لربط ما جاء في هذه السورة وما جاء في السورة قبلها من احاطة القران وتحديه للعرب أن يأتوا بمثله فهذه الآيات هي جزء من ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه. ومن هذا الكتاب الحكيم الذي هو في نفس الوقت هدى ورحمة وبشرى للمؤمنين وبشرى للمحسنين. وقد لاحظ أحد الباحثين غير المسلمين وهو بصدد القرءان التعبير ب (ذلك الكتاب لا ريب فيه ) فقال ان كل من كتب كتابا يعتريه الشك فيما كتب ويبدي الأعذار فيما يمكن ان يعتري عمله من نقص على خلاف ما جاء في القرآن من الوثوقية فلو لم يكن الكتاب من عند الله ولو لم يكن واثقا من صدقه وصدق ما تضمنه ما كان الافتتاح بهذه الأسلوب الصريح والصارم في نفس الوقت لمن كان في قلبه مثقال حبة من الشك او التردد. وهو هنا في مقدمة هذه السورة يؤكد أن هذه الآيات من الكتاب الحكيم الذي يتضمن من الحكمة والعلم ومن المعرفة والاحاطة ما يدل ويؤكد أنه من لدن حكيم خبير، ولذلك نجد المفسرين هنا يقدرون تقديرات ويبحثون كما قلنا عن النكت النحوية والبلاغة فالزمخسري رحمه الله في الكشاف يقول في الموضوع:» الكتاب الحكيم « ذي الحكمة، أو وصف بصفة الله تعالى على الاسناد المجازي الحكيم قائله في حين نجد الفخر الرازي يقدر تقديرا آخر فقال ووصف الكتاب بالحكيم على معنى ذي الحكمة في حين يقول القرطبي رحمه الله الحكيم المحكم أي لا حلل فيه ولا تناقض وقيل ذي الحكمة وقيل الحاكم ولا نطيل في استعراض هذه النكت والتقديرات التي لا تخلو من مراعاة بعض المواقف الكلامية للمفسرين والواقع ان القرءان الكريم كما ورد عن علي رضي الله عنه وكرم وجهه حمال أوجه، ومعنى ذلك ان النقاسير والتأويلات ما دامت مقبولة دينا وعقديا ولغويا فلا نتزاحم لان هذا من خصائص ومميزات القرءان الذي يستطيع كل واحد ان يستخلص من المعاني والأفكار والتوجيهات بحسب ما لديه من مدارك وما يتوفر عليه من قدرة في الفهم والاستنباط ولا شك ان القرءان هو بناء متكامل متناسق لاختلاف فيه ولا تناقض ولا تنافر، اذ كما قال سبحانه »ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا« هذا الاختلاف او الخلل او التناقض هو ما يسعى بالفعل أولئك الذين في قلوبهم مرض لإيجاده والوصول إليه ولكنهم يعجزون دائما ويصطدمون بما في هذا الكتاب الحكيم من البلاغة والفصاحة والإعجاز حيث يرتدون خاسئين وهناك من الباحثين المستشرقين وغيرهم ممن يتبنون منهجهم على شيء من الخلل ليقول ها نحن قد وجدنا خللا هنا وتناقضا هناك. وقد برزت في السنوات الأخيرة محاولات لدى البعض الذين لجأوا إلى كتب علوم القرءان وحاولوا من خلال ما طرحه أولئك العلماء الأقدمون بنزاهة واستقامة في الفكر من الروايات حول تاريخ نزول الآيات والسور ومن حيث ورد بعض الآيات وما قيل حولها من نسخ المعنى أو اللفظ ليقولوا وليروجوا للزيادة والنقص في القرءان الكريم واعتبروا أنفسهم اكتشفوا شيئا جديدا أو مجهولا حيث طرحوا مسألة ترتيب السور حسب النزول وهو أمر باشره المؤلفون القدامى من باب الرواية للتاريخ وحاول المستشرقون منذ القدم أن يركبوا عليه للنيل من القرآن ولم يفلحوا، كما لم يستطيعوا أن يأتوا بشيء جديد غير ما هو مدون في كتب علوم القرءان وفي كتب المصاحف التي ألفها العلماء قديما. ونحاول أن نستعرض من خلال هذه الومضة موقف بلاشير من مصحف عثمان، وقد حاول هذا المستشرق الذي عرف بالدس والتلاعب بالكلمات والزيادة والنقص فيها فيما كتبه في ترجمته او في الحديث عن القرآن والفرية التي يطرحها في هذا الموقف هو ان مصحف عثمان مصحف طبقي، ويفند هذه الفرية الواضحة الدكتور عبد الصبور شاهين في كتابه المهم تاريخ القرآن حيث يقول: في حديث المستشرق الفرنسي رجيس بلاشير، تعرض المؤلف لمناقشة الهدف من وراء تكوين عثمان رضي الله عنه للرهط الذين تولوا كتابة المصاحف، على الوجه الذي كان به، وحاول ان يستشف الأخبار علها تخرج له مكنوناتها، وندعه يتحدث، قال: » الشيء الوحيد المؤكد في هذه المسألة هو أن اللجنة قد عملت باشراف عثمان على إثبات الدستور القرآني، أما بقية الأشياء فتظل غامضة فبأي روح تم هذا العمل؟ .. هنا نعالج مسألة على جانب كبير من الدقة، فلو أننا أخذنا بالخبر الشائع ( والمشتبه مع ذلك في تفصيله) فإن نية الخليفة كانت طيبة، لأن احتضان فكرة مصحف إمام هي وحدها كفيلة بأن تقطع الطريق على الخلافات التي اثيرت في نص القرآن، وفي تلاوته، ومشروع كهذا يجب أن يظفر برضا الأمة كلها. بيد اننا نلمح من أول وهلة، خلال المعلومات المروية، إما سوء تصرف لدى الخليفة، واما بعض النوايا المستترة، والواقع أنه مهما تكن قيمة مصحف ابي بكر فإن هذا النص لا يمتاز مطلقا على سائر المجاميع الأخرى. فماذا كان الدافع الذي ساق عثمان الى اختياره بخاصة اساسا للمصحف الإمام..؟ نحسب اننا نحدس هذا الدافع اذا تأملنا تأليف لجنة المصحف، على ما سجله الخبر المتلقآ، فالخليفة الذي كان روح المشروع رجل تقى ورع شديد الاستسلام لتأثيرات من حوله، ولما كان هو يعيد الممثل الحقيقي للارستقراطية المكية، فقد كانت لديه جماعة متحالفة مع هذه الارستقراطية، وتعمل غالبا باسمها، فلم يكن في اللجنة سوى أناس مخلصين لمصالح المدينة المقدسة، والثلاثة المكيون الذين اشتركوا فيها هم أيضا من الارستقراطيين، أصهار الخليفة، تربطهم فيما بينهم النساء، وقد جمعت بينهم مصالح مشتركة، فسعيد، وعبد الرحمن، وابن الزبير، لم يكونوا مطلقا يستطيعون أن يتصوروا دستورا من القرآن غير هذا الذي ولد في مدينتهم، وزيد نفسه، وهو مدني، لم يكن دون شك يسلم لهم في شيء من هذه الناحية، فلأسباب كثيرة كانت فكرة البدء بمصحف آخر تبدو لهم هازئة غير جادة: فمصحف أبي كان من عمل مدني ظل وفيا لمسقط رأسه، ومصحف ابي موسى الأشعري كان قبل كل شيء لرجل من جنوب الجزيرة العربية، ومصحف ابن مسعود كان جهد راع متواضع، ومصحف علي، من أهل ادعاءات معارض صدّره أقرباؤه. فنية عثمان ولجنته إذن واضحة تمام الوضوح، أن يتيحوا لعصبة مكة فضل تقديم مصحف إمام إلى الأمة، وقد مضى هذا الحزب بأن أبعد عن المشروع شخصيات ذات شأن مثل علي وأبي وغيرها، وليس لدينا بعد هذا ثر يدل على أن تلك الشخصيات قد أنكرت على اللجنة أنها حرفت عن علم نص القرآن، ولكنها سنرى فيما بعد حزبا بأكمله، وهو الذي سيسترد سلطة علي الدينية، يتهم العصبة العثمانية علنا بأنها محت من القرآن إشارات لا توافق اهواءها، وتضيق عليها . ومع ذلك فلنتحفظ في الحكم بقساوة على الدوافع الواقعية التي أوحت إلى عثمان ووجهت أعماله، فالواقع أننا بالرجوع مع الزمن ننتهي إلى التسليم بأن هذا الخليفة حين اختار مصحف ابي بكر اساسا للمصحف الإمام، قد انجز عملا من أعظم الاعمال السياسية، لقد كان الاختيار ضربة لازب حين بلغ الأمر ما بلغ، ولو أنه اخذ مثلا نص ابن مسعود لأهاج حفيظة أهل الشام وجمهور البصرة، المرتبطين بمصحف أبي، وأبي موسى الأشعري، وهو فضلا عن ذلك يعد إساءة الى ذكرى ابي بكر وخليفته عمر، ولابد ان عثمان قد أحس أن الأمة ما كانت لتنقسم انقساما عميقا، او لزمن طويل، حين توازن بين هذين الرجلين اللذين يدين لهما العرب بعظمتهم، وبين مؤمنين متواضعين لا يدبن لهما الإسلام بغير قدر من الاحترام. ويقدم بلاشير بعد ذلك مناقشات فرعية، ثم يختم قائلا: » فإذا كان قرار عثمان من الناحية السياسية جديرا بالمدح آخر الأمر، فإنه ليس كذلك من أجل الطريقة التي نفذ بها«. والنقاط الأساسية التي ارتكز عليها بلاشير في النصف الأول من تحليله هي: أولا: اعتبار جمع ابي بكر للمصحف عملا فرديا لإرضاء طموح الخليفة، لا عملا جماعيا قصد به صالح الأمة، والحفاظ على دستورها المنزل. ثانيا: اعتبار عمل عثمان مشروعا لا سابقة له، فهو عمل رائد، تضافرت على إنجازه جهود. ثالثا: فكرة تقسيم المجتمع الإسلامي إلى طبقات، مضت كل منها تدافع عن كيانها على أساس من القرآن، الذي جمعه أحد ممثليها بما يوافق مصالحها، وبذا يكون عمل عثمان أيضا عاكسا لمصالح طبقته. ومثل هذا التأليف الغريب لعناصر غريبة عن المجتمع الإسلامي وروحه، ولا يعقل وجودها إلا في نظام الحياة الأوربية نفسها يعد في رأينا خير مثال على تراكب الأخطاء، ابتداء من خطأ واحد، متعمد أو غير متعمد. ولقد سبق لنا أن نقضنا أول هذه الأخطاء، حين نظرنا إلى عمل أبي بكر على أنه الأساس المتين الذي قام عليه بناء النص القرآني، في حياة هذه الأمة، منذ كان عمل عثمان إلى آخر محاولات الإصلاح. وما كان لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن يقوما بهذا العمل في هاتيك الظروف القاسية، لمجرد الرغبة في تملك نسخة من القرآن، وإلا ففيم كان توقف أبي بكر في الإقدام على عمل لم يفعله رسول الله، لو كان عمله مماثلا لما كان فعله، ويفعله بعض الصحابة، من تقييد محفوظهم من القرآن؟ وهل كان ظرف المأساة، المتمثل في موت جمهرة غفيرة من الحفاظ ، إلى جانب الأزمة السياسية الطاحنة، مناسبا لظهور تلك النزعة لدى أبي بكر وعمر، وهما ممن جمعوا القرآن حفظا على عهد رسول الله ؟ ... أغلب الظن أن بلاشير يتحدث عنهما كما لوكانا من مخلوقات عصرنا هذا، البغي الأناني ، وهو معذور على أية حال، لأنه لا يطيق أن يحلق، ولو بخياله، إلى تلكم القمم الشواهق في تاريخ أخلاقيات الإنسان. وعليه، فعمل عثمان كان مرحلة ثانية في سعي الأمة من أجل الحفاظ على القرآن، لا عملا رائدا واجه فيه عثمان، كما زعم بلاشير، احتمالات اختيار متعددة، تغلب في نهايتها اختياره لمصحف أبي بكر، لسبب أو آخر. ونكتفي كما قلت بهذا القدر في حديث اليوم على أمل العودة للموضوع في مناسبة أخرى.