إن حاجة الإنسان لقضاء عادل تتوفر فيه كافة الضمانات القانونية، أصبح في عصرنا الحاضر مبدأ أساسيا تنادي جميع الشعوب بالالتزام به وتطبيقه، خصوصا وأن القانون الدولي مافتئ يتطور في اتجاه تطبيق عقوبات صارمة في حق كل من ينتهك حقوق الإنسان وحرياته الأساسية. فالاعتماد على القوانين وعلى المؤسسات الدستورية وعلى احترام مبادئ حقوق الإنسان أضحت في هذا العصر من المعايير الدولية التي تقاس بها درجة تحضر الأمم وتقدمها، ومن المعايير الهامة التي ترتكز عليها العلاقات الدولية، إلا أن النظام القضائي بالمغرب مازال يعرف عدة ثغرات حالت دون مسايرته لتحقيق عدالة مستقلة استقلالا كاملا تؤهله لمواكبة مجتمع العلم والمعرفة والاتصال، وتحديات العولمة التي اكتسحت العالم بأسره في جميع المجالات. ومن أهم هذه المؤاخذات التي طبعت النظام القضائي المغربي عدم مسايرته للتطورات الاقتصادية والاجتماعية التي عرفها المغرب في ظل هذه التطورات، حيث بينت دراسة قام بها، (البنك الدولي) وجود عدة شكاوى لرجال الأعمال والمستثمرين الأجانب من الآلة القضائية المغربية، يشككون في فعاليته لتحقيق الإنصاف، وفقدان الثقة في العاملين بأجهزته المختلفة كونهم لايحظون بتكوين كاف ومتطور خاصة في المجالات البحرية والبنكية والتجارية... إن وجود قضاء عادل يقتضي وضع قوانين لتنظيمه وتحديد سلطاته، ومن أهم هذه القواعد: مبدأ استقلال القضاء. واستقلال القضاء يبدأ وينتهي عند تحديد الدور الذي يقوم به، إن ضمان استقلال القضاء وبلورة المبدأ على أرض الواقع كفيل بضمان أمن الأشخاص وصيانة حقوقهم وحرياتهم الأساسية، لأن القضاء المستقل العادل هو (هيبة الدولة) وضمان استقرارها واستمراريتها، فقطاع العدل يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى المزيد من الاهتمام ليرقى إلى مصاف الأجهزة القضائية المتطورة في العالم، لأنه لايمكن تحقيق الاستقرار الأمني، ولا التأهيل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للوطن، ولا التنمية المستدامة التي تراهن بلادنا على توفير المناخ الملائم لبلوغها دون النهوض بقطاع العدل والإصلاح الشامل لأوضاع العاملين به بمختلف أسلاكهم بما يلائم هيئة العدل وحرمة العدالة. وفي هذا الصدد دعا جلالة الملك محمد السادس نصره اللّه في خطاب العرش الأخير الحكومة إلى وضع مخطط مضبوط للإصلاح حيث يقول جلالته: «إن النهج القويم للإصلاح يرتكز على ترسيخ ثقة المواطن في سيادة القانون والأمن القضائي.. ومن هنا نحرص على مواصلة تحديث جهاز القضاء وصيانة استقلاله وتخليقه، ليس فقط لإحقاق الحقوق ورفع المظالم، وإنما أيضا لتوفير مناخ الثقة والأمن القضائي كمحفزين على التنمية والاستثمار، لذا نجدد التأكيد على جعل الإصلاح الشامل للقضاء في صدارة أوراشنا الإصلاحية..» انتهى كلام جلالة الملك. ولن يتأتى هذا الإصلاح الذي أصبح مطلبا ملحا لجميع القوى الوطنية إلا إذا توفرت عدة شروط من أهمها: رفع كل هيمنة مهما كان مصدرها عن الجهاز القضائي، وصيانة القاضي من أي تأثير أو تحريض أو تهديد أو تدخل بشكل مباشر أو غير مباشر... إصلاح وضعية العاملين بالجهاز القضائي والرفع من مستوى كفاءة الفاعلين في القطاع، والعمل على تفعيل النظام الأساسي الخاص بهم لضمان المردودية اللازمة والنوعية الجيدة في الخدمات التي يطمح إليها المتقاضون.. (من برنامج حزب الاستقلال لإصلاح القضاء). وحينما تفتح الحكومة هذا الورش المهم فإنها تكون فعلا قد وضعت يدها على أحد أهم الملفات انشغالا لدى الرأي العام الوطني، ومن الطبيعي التذكير بأن هذا المسلسل الذي أعلن عن تدشينه رسميا سيحظى بمتابعة ليس من طرف الفاعلين ولكن أيضا من طرف جميع المغاربة بالنظر إلى أهمية وجدية الاشتغال هذه المرة.