إدريس البوخاري عاش المغاربة منذ ظهور الرسالة المحمدية على الوحدة وصيانة الملة وتنظيم وحماية الدولة من كل عدو أثيم، مستندين إلى الكتاب والسنة والفقه الحكيم وإخلاصهم العظيم. فقد قاموا بالحفاظ على تراثنا الإسلامي الأصيل بالجمع والتأصيل والتمحيص والتحليل والتفسير منتصبين لهداية الخلق تطوعا من تلقاء أنفسم من دون تكليف من الدولة آخذين على عاتقهم أداء الأمانة بتوجيه الأمة والدولة إلى طريق الحق والعدل حماية لمصالح العباد واستقرار البلاد ابتغاء مرضاة الخالق المعبود. قال القاضي عياض رحمه الله في كتابه «ترتيب المدارك»: «جمعوا الأقاويل وحفظوا الفقه وبحثوا عن الاختلاف والاتفاق وحذروا انتشار الأمر وخروج الخلاف عن الضبط، فاجتهدوا في جمع السنن، وبنوا القواعد ومهدوا الأصول وفرعوا عليها النوازل، وسئلوا فأجابوا، ووضعوا للناس في ذلك التصانيف وبوبوها وعمل كل واحد منهم بحسب ما فتح الله عليه ووفقا له. قال ابن عبدالبر رحمه الله: «لا يقبل فيمن اتخذه جمهور المسلمين إماما في الدين قول أحد من الطاعنين». وقال أيضا: «من قرأ فضائل مالك وفضائل الشافعي وفضائل أبي حنيفة.. من فضائل الصحابة والتابعين وعني بها ووقف على كريم يسرهم وهديهم كان ذلك له عملا زاكيا..». إن مما لاشك فيه أن من أشد الناس تركا لشذوذ العلم والتكلف إمامنا مالك لتمام ورعه وكمال تثبته وتحريه الصدق والأمانة وقد ألف الناس في فضائله ومزاياه الكتب والمصنفات حتى سمي بسيد المسلمين. فضله المغاربة وتقيدوا بعلمه وسلكوا مذهبه فاحترموه وتحاشوا تنقيصه وتجريحه أو التعريض به بالتصريح أوالتلويح. فاجتهدوا في هذا المذهب وبرعوا في العمل والممارسة في ضوئه. قال الله تعالى في كتابه المبين: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات..) وقال تعالى: (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) وقال سبحانه: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله، ورفع بعضهم درجات). وقال الله جل جلاله: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) وفي الحديث النبوي الشريف روي عن عبدالله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كنا نفاضل بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقول: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره». والتفضيل بين العلماء قد يكون عملا غير مقبول عندهم لأن العلم إما أن يكون أو لايكون وبالتالي كل من يحمل اسم العالم يعمل به الى أن يموت. فالمفاضلة لا تجوز حسب رأيي المتواضع إلا من حيث التمييز والمقارنة والسبق في الإبداع والشجاعة، في اتخاد المبادرة الناجحة إذا ما تعلقت بقضايا الناس ومصالحهم. إن الأئمة المجتهدين كانوا لايجتهدون إلا في نطاق الشرع وهدف الشارع الحكيم عملا أو تركا، نفيا أو إثباتا ويقدمون من آرائهم واجتهاداتهم ما تسمح به ملكاتهم وأمزجتهم الخاصة حسب اختلاف الأوضاع والطباع. قال الشاطبي رحمه الله في كتابه الموافقات: «وأما إذا وقع الترجيح بذكر الفضائل والخواص والمزايا الظاهرة التي يشهد بها الكافة فلا حرج فيه، بل هو مما لابد منه في هذه المواطن أعني عند الحاجة إليه». وقال رحمه الله: «وإذا كان كذلك فهو القانون اللازم. والحكم الملزم الذي لايتعدى الى سواه وكذلك فعل السلف الصالح». أسباب اختيار المغاربة مذهب الامام مالك رحمه الله. تتعدد هذه الأسباب حسب الظروف والملابسات، فمنها الأسباب الأخلاقية والموضوعية والمصلحية والزمانية والعقدية. أولا: السبب المصلحي: قال الإمام مالك رحمه الله: «اتقوا الله وانشروا هذا العلم وعلموه ولا تكتموه». فإذا منع العلم العامة لأجل الخواص لاتنتفع به الخاصة. ثانيا: حسب الظروف والزمان. إن الزمان كان ولم نكن فيه وهو كائن ونحن فيه وسوف يكون ولن نكون فيه، انطلاقا من رؤية المغاربة إلى إمامهم المفضل رحلوا نحوه لكسب العلم والنهل من معينه ونظموا تشريعاتهم وقضاءهم بناء على فقه الامام مالك رحمه الله. لأنه تميز بالثبات والاستقرار والاستمرار. ومالك هو الذي مكث ستين سنة بالمدينة يفقه الناس في كتاب الله وسنة رسوله ومذهبه. والمدينة هي التي اختارها المغاربة ورحلوا إليها وأحسنوا اختيارها. ومن تأمل صحيح البخاري رحمه الله وجده دائما يبدأ بها أول الباب كلما وجدها، ثم يتبعها بأحاديث أهل الأمصار. ثالثا: السبب الأخلاقي. يعتبر هذا السبب عاملا مهما لاتباع المغاربة مذهب الإمام مالك لسببين هما: الحديث الأول: يروى عن أبي هريرة (ض) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة». وفي رواية: «يلتمسون العلم فلا يجدون عالما أفقه من عالم المدينة» (أخرجه مالك نفسه وحسنه الترمذي وصححه الحاكم). الحديث الثاني: أخرجه الإمام مسلم عن عبدالله بن عمر عن النبي أنه قال: «لايزال أهل الغرب ظاهرين على الحق لايضرهم من خالفهم» وفي رواية من خذلهم حتى تقوم الساعة. قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «لايزال أهل المغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة» أي أن لهم الحق وهو بين أيديهم لا يضرهم من خالفهم. رابعا: السبب الموضوعي: بنى الإمام مالك مدرسته على الروايات المرفوعة الى النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الروايات الموصولة والمرسلة، على قضايا عمر وفتاوى ابن عمر وأقوال الفقهاء في المدينةالمنورة. فضلا عن أقوال الصحابة وضبط أقضيتهم. وهو الأمر الذي يبين أن المذهب المالكي أقيم في المغرب على أساس متين فمالك أدرك جل التابعين وعاينهم وراقب أعمالهم واعتمد العمل في المدينة على عهدهم. وظهرت عبقريته في تأليف نحو مائة وخمسين مجلدا في الأحكام الشرعية وحاز بها ميزة الاجتهاد والسبق في الابتكار وجعلها ميسرة للطلبة والسائلين والوافدين من جميع أرجاء العالم، وكان يجيب رحمه الله بما ينفع الناس مراعيا المصلحة وروح العلم والتحري في السؤال والتثبت في الفتوى والاحتياط وهذه هي الروح الواقعية التي لاءمت العقلية المغربية. خامسا: السبب العقدي. عاش إمامنا مالك رحمه الله رجلا شامخا مرفوع الهمة والرأس لايخشى في الحقيقة لومة لائم لايهادن في الجهر بالحق ضد الشبه والبدع الضالة فأحبه المغاربة والعالم أجمع. حيث وجد المغاربة فيه عامل وحدة لا تفرقة. وساد مذهبه بالمغرب كما في الأندلس تسع سنين على وفاته حتى سكن القلوب واستمر قويا في الوقت الذي كانت فيه العقيدة تهتز بين الفرق المذهبية كالجهمية والرافضة والخوارج والمرجئة والشيعة. أمام هذه المعطيات والأسباب التي حببت للمغاربة مذهب الإمام مالك بقلوب كبيرة وحسن اختيار اتخذه أجدادنا الأبرار إماماً على بصيرة وهدى من الله لتقوية نظام الدولة بشكل ملائم متوازن ومتكامل ضامن للحقوق ومطبق للعدل والإحسان، معين على حفظ الأمن والاستقرار.