تمهيد: مهما حاول الإنسان أن يكتب عن التصوف والصوفية فإنه قد لا يوفي الموضوع حقه ويقول فيه الكلمة الفصل،التي لا يسمح بتخطيها، وذلك لأنه ميدان روحي، قد يوصف بأنه غير قابل للحد أو الاستيعاب ولا يعلم أمره كمال المعرفة، إلا الله سبحانه وتعالى لأن سر الروح من اختصاص علمه سبحانه وتعالى،فلا يعلمها بالكلية إلا هو جل علا. قال تعالى:"ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا". لهذا فلا ينبغي لأي مخلوق كائنا من كان أن يتبجح ويأتي بنتائج مدللا بها ومؤكدا بأنها عين الصواب في هذا الميدان،أو يجزم بأولوية اتباع رأيه،فمثل هذا قد لا يصدر في الحقيقة إلا من طرف مهووس ادعى معرفة ما لا طاقة له بمعرفته ونسب إلى نفسه تفوقا لم يستحقه ولن يستحقه وذلك بحكم الشرع وحكم العقل أيضا. فإذا كان علماء النفس أنفسهم كاختصاصيين ومن خلال تجاربهم وما أضفت عليهم من إنارة في هذا السبيل- أي الدراسات النفسية- قد حاروا في تحليل ظواهر نفسية لإنسان عادي له ملكات محدودة وبسيطة تولدت من وسطه الاجتماعي المحدود وبوسائل بسيطة،غاية ما هنالك حس مشترك وبصريات وسمعيات،وأقيسة عقلية توفيقية،متداولة ومتناهية في قواعدها واستكشافاتها. و إذا كانت هذه الظواهر النفسية الناتجة عن تفاعلنا مع أنفسنا ومع غيرنا من جنسنا وهو شيء محدود ومتناه أيضا ومقاس على أنفسنا قد يعجز العلماء الاختصاصيون والعباقرة المفكرون عن تفسير كثير منها ولا يسعهم إلا أن يطلقوا عليها ألقابا لا تفي بمقصودها ولا تسمن ولا تغني من جوع التطلع إلى معرفة الأسباب الحقيقية وسرها كمسألة العقل الباطن وأفكاره القسرية والتلباثي أو الشعور عن بعد،وغيرها من الأحوال والتي قد لا يجد العلماء لها تعريفا إلا بأن يطلقوا عليها اسم :الأحوال الهستيرية أو الظواهر العصابية... فإذا عجز العلماء عن حل مثل هذه الألغاز،فكيف يمكن لشخص من الأشخاص من غير المختصين أيا كان مستواه أن يجزم في حكمه على ظواهر نفسية صادرة عن أناس يتعاملون مع عالم لا متناه،عالم غيبي،عالم كله أسرار وأنوار، جليسه"ليس كمثله شيء وهو السميع البصير". أو يسوغ لنا القول لهذا الإنسان المعين وهو في حالة غير عادية أنك كافر بسبب ما طرأ عليك أو أنك تقول بوحدة الوجود أو الحلول والإتحاد،وذلك لأنك قد فهت بكلام هو بعينه يجرنا إلى اتهامك بهذه العقيدة المنحرفة ؟. في حين لقد كان هذا الإنسان في جل أحواله العادية متزنا سالم العقيدة يسير على الطريق المستقيم، ولا يحيد عن الشريعة قيد شعرة. ولست أقصد من كلامي هذا أن نقف مكتوفي الأيدي مخرسي الألسن مشلولي العقول أمام كل ما يحدث من ظواهر مخالفة للمألوف،كلا وألف كلا! فإن لنا شريعة حقة هي القول الفصل وهي الحكم العدل والهدي المبين،ينير لنا الحق ويقره، ويزهق الباطل ويدحضه،فبها نحكم وبها نمنع وبها نجيز وعليها نقيس،إنه الإسلام شرع الله سبحانه:القرآن الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.ولنا عقول سليمة وحكيمة تزن الأمور بميزان الدليل وعمق التحليل والتأويل،كما لنا قلوب تستشعر الحق بشفافية الوجدان وصدق الأحوال ممزوجة بالأذواق والمحبة والأشواق... ولقد كان الشغف الكبير بالمسائل الروحية هو الذي دفعني لاختيار هذا الموضوع بالذات،هذا الشغف الذي قد نبع منذ صباي وكان له تأثير على اتجاهي الدراسي،بل دفع بي إلى سلوك التجربة الروحية والقيام بما يقوم به الصوفية من أعمال قدر المستطاع،مما أنار لي الطريق ووضح لي معالم لم أكن سأدركها إن لم أكن قد خضت في هذا الميدان. وإن كانت التجربة جد محدودة ومغلقة على نفسها،نظرا للظروف الواقعية التي نحياها و قساوتها وتشويشها،إلا أنني قد خرجت بنتيجة اقتنعت بها ذاتيا وهي: أن للروح حركات ودرجات تسمو بها وإليها،وتلك الدرجات قد لا تنال بطقطقة اللسان وتخطيط الأقلام وأوهام وتضارب الأفهام وكفى !وإنما هي من نتيجة دوام علم وعمل وتركيز وحضور كلي قد تسمع بواسطته الهواتف ويرهف من خلاله الوجدان وتسمو به الأخلاق وتزكو. لو أعطينا هذا العنوان حقه من الدراسة والبحث لما استطعنا وضعه في وريقات قابلة للعد بهذه السهولة،ولما سلمنا من التخلص من البحث حوله إلا بانقضاء العمر ودون استيفائه كاملا،ذلك لأن الأوضاع التي كانت آنذاك قد مثلت الحياة الإسلامية التطبيقية الواقعية،ابتداء من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة حتى عهد التابعين . فلقد اتفق المؤرخون والمحدثون أصحاب الإسناد القوي على أن هذه المرحلة كانت أعظم عصر مرت به البشرية في وجودها كله وفي مسيرتها الطويلة . ففيها قد بدأت بعثة الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ،سيد الكونين والثقلين، حاملا الرسالة ومؤديا للأمانة وسراجا منيرا للسالكين . يقول تعالى :"يأيها النبيء إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا" . فلقد كان هذا الرسول العظيم يدعو إلى الله على بصيرة ووعي تام لا يتخلله شك أو اضطراب"قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني " ،فكانت حالته أنه خير العقلاء وكانت صفته أنه خير المتخلقين " ن والقلم وما يسطرون،ما أنت بنعمة ربك بمجنون،وإن لك لأجرا غير ممنون، وإنك لعلى خلق عظيم" . ولقد سئلت السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن صفته فقالت: "كان خلقه القرآن " . و قال في مدحه الإمام البوصيري رحمه الله تعالى في قصيدته البردة مطلعها: ظلمت سنة من أحيا الظلام إلى أن اشتكت قدماه الضر من ورم حتى قال: دعا إلى الله فالمستمسكون به مستمسكون بحبل غير منفصم فاق النبيين في خلق وفي خلق ولم يدانوه في علم ولا كرم ثم: فإن فضل رسول الله ليس له حد فيعرب عنه ناطق بفم نعم تلك هي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك هو نعته حيث لا يصل ناعته إلى استيفائه حقه، ففضائله أسمى ما تكون الفضائل وأخلاقه أزكى الأخلاق. فلقد كان يحيي الليل صلاة ودعاء وذكرا،حتى اشتكت قدماه من كثرة الوقوف وتورمت مع أنه قد كان مغفورا له ما تقدم وما تأخر من ذنبه .وفي نفس الوقت كان داعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا،وكان رحمة للعالمين بالمؤمنين رءوفا رحيما،فالقرآن خلقه وشريعته وهو "ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" . ولقد كان لهذا الرسول أصحاب،ورجال حوله،وأتباع آمنوا به وأحبوه وأطاعوه،بحيث لم أجد أية أداة أصدق وأنصع وأسمى أصف بها وضعيتهم وحالهم في صحبة هذا الرسول العظيم ، وفي معاملة بعضهم بعضا إلا بما وصفهم به الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم حيث قال:"محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر الجود، ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار. وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما" صدق الله العظيم. فلقد كانت سمة المجتمع آنذاك تطبعها الوحدة في القول والعمل،في الحب والبغض،في الخوف والرجاء،والكل يخضع لسلطان الله وشريعته المبلغة بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم. فكان المجتمع يسمى بالمجتمع المسلم،والبلاد بالبلاد الإسلامية والتشريع بدين الإسلام،فلا مذاهب ولانحل ولا طوائف،فالكل معتصم بحبل الله لا يبغي به بديلا "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا،واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها". إذن،فلا عملة تتداول في وسط هذه صفته إلا العملة الإسلامية،ولا ألفاظ تنطق إلا ما نص عليها الكتاب والحديث، وهكذا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين،استمرت الحالة على ما كانت عليه:طهر وعفاف وتقوى وصلاح،لم يقع التغير إلا في اختفاء شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهريا وانقطاع الوحي تشريعيا:"من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات،ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت " هكذا قال أبو بكر رضي الله عنه حينما تأكد من وفاة الرسول صلى الله `عليه وسلم واستيقن من ذلك "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شينا وسيجزي الله الشاكرين" . نعم،لم تنقلب هذه الأمة على عقبيها،بل استمرت في زحفها وأتمت فتوحاتها على كل الأصعدة،روحية كانت،أو فكرية أو اجتماعية أو علمية... فكان الخليفة له منصب عام يتولى من خلاله الأمور الدينية والدنيوية،ويقيم شرع الله كما أمر به سبحانه وتعالى،فلا يحيد عنه قيد شعرة،ولا يزيغ عن محجته البيضاء ويحمي بيضته من كل دخيل أو متعنت بتحريف أو تأويل وتضليل.. من نموذج هذا ما وقع في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في رواية الدارمي من طريق سليمان بن يسار قال:قدم المدينة رجل يقال له صبيغ،فجعل يسأل عن متشابه القرآن،فأرسل إليه عمر رضي الله عنه فأعد له عراجين النخل فقال من أنت؟قال أنا عبد الله صبيغ!قال:وأنا عبد الله عمر،فضربه حتى دمى رأسه ،فقال:حسبك يا أمير المؤمنين قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي!!!. وأخرجه من طريق نافع أتم منه قال:ثم نفاه إلى البصرة وأخرجه الخطيب وابن عساكر من طريق أنس والسائب بن يزيد وأبي عثمان النهدي مطولا ومختصرا: وكتب إلينا عمر لا تجالسوه! قال :فلو جاء ونحن مائة لتفرقنا..." . بحيث قد كان هذا الإجراء ليس قمعا لحرية الرأي كما قد يتوهمه بعض العبثيين وإنما كان عملا وقائيا وعلاجا نفسيا واجتماعيا بوسائل فعالة،غايتها حماية الأمن الباطني للأمة وضمان انضباط المجتمع على عقيدة سليمة وموحدة حتى لا تتشتت المفاهيم وتتسرب الزندقة و التشكيك والميوعة،وبالتالي تتوالى الجراءة على المقدسات الدينية ومرتكزات الأمة وهيبتها قصد الاستهانة بها واختراق حدودها،مما سيؤدي إلى الفساد والانحراف حتما ونتيجة. وعلى هذا المنهج والاحتياط سيتوالى الخلفاء الأربعة تطبيقا وتحقيقا،والدين لم يمسه شيء من البدع والمجتمع لم يفلس بعد،لأن أفراد الأمة التي مدحها الله سبحانه وتعالى مازالوا أحياء "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ،فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر،وما بدلوا تبديلا" ،يمثلون خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله. ولئن كانت قد وقعت أحداث واختلافات في عهد الخليفتين عثمان وعلى رضي الله عنهما وذلك عقب المؤامرة الدولية-إن صح التعبير- بين اليهود والنصارى الروم والفرس المجوس إضافة إلى المنافقين بالمدينة،بحيث قد "شاع عقب ضرب عمر أن قتله لم يكن عمل أبي لؤلؤة بل هناك أشخاص شركوا في دمه،فقد قال عبد الرحمن بن أبي بكر غداة طعن عمر:"مررت على أبي لؤلؤة أمس ومعه جفينة والهرمزان وهم نجي فلما رهقتهم ثاروا وسقط منهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه فانظروا بأي شيء قتل،فجاءوا بالخنجر الذي ضرب به أبو لؤلؤة فإذا هو على الصفة التي وصفها عبد الرحمن" ناهيك عن تلميحات كعب الأحبار وإنذاره لعمر بن الخطاب بقرب أجله من زعم أنه قرأه في التوراة مما أدخل الشكوك حول كونه له ضلع في القضية حتى نظم على إثرها شعر على لسان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: فواعدني كعب ثلاثا أعدها ولا شك أن القول ما قال لي كعب وما بي حذار الموت إني لميت ولكن حذار الذنب يتبعه الذئب فكل هذه الأحداث لم تكن لتمس جواهر المسلمين ودينهم،وإنما قد كان ذلك الاختلاف ناتجا عن اجتهادات واعتبارات،تلبست بصبغة سياسية كان لليهود والمنافقين يد طولى فيها،لا أطيل الكلام عنها في هذا المختصر،لكن الكل قد بقي يعبد الله ويوحده وينزهه عن كل أنواع الشرك والشبهات،والكل بقي يقوم الليل ويصوم النهار وينفق في سبيل الله ويجاهد ويذكر ويذكر،فرضا ونافلة ووجوبا وندبا وتطوعا،على تفاوت وتنافس محمود في باب الطاعة،والكل يحترم الشرع في أصوله وفروعه.وذلك ثابت بنص شرعي حيث أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله:"خير القرون قرني ثم الذي يليه ثم الذي يليه". وحتى إن ظهرت أثناء ما حصل من تلك الفتن وبعدها بقليل مذاهب وطوائف إلا أنها كانت في جل أقوالها تتعلق بإبداء الرأي في الإمام المنصب والمقتول وما حكم قاتله وما منزلته من حيث الإيمان،فكانت في الحقيقة ليست إلا مذاهب فقهية أو سياسية أو ذات نزعات شخصية وإن تسمت بأسماء دينية عقائدية . هكذا،وبعد وفاة معاوية، تولى يزيد ابنه الخلافة سطوا وعنفا وغدرا بالعهود-كما قد يصفه البعض- فلقد كثر في عهده المجون والشرود، وأريقت الدماء،وكان من أبشع ما وقع أن سقطت دماء سيد الشهداء وحفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيدنا الحسين بن علي في كارثة كربلاء سنة61هجرية وحوصرت الكعبة المشرفة ورميت بالحجارة،وكذلك غزيت المدينةالمنورة في وقعة الحرة،واستبيحت فيها محارم الناس،وأخذ من بقي من أهل المدينة بالبيعة،لا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولكن على أنهم موالون ليزيد وخول له. يقول محمد بك الخضري:"لم تقف مصائب المسلمين عند قتل الحسين ومن معه بل حدثت حادثة هي في نظرنا أدهى وأشنع وهي انتهاك حرمة مدينة الرسل صلى الله عليه وسلم ومهبط الوحي الإلهي وهي التي حرمها عليه السلام كما حرم إبراهيم مكة فصارت هاتان المدينتان مقدستين لا يحل فيهما القتال،فانتهاك إحداهما من الشرور العظيمة والمصائب الكبرى فكيف انتهاك حرمتهما معا في سنة واحدة؟" . وبهذا فقد انتهك أصل من أصول التشريع في الحكم،ألا وهو مبدأ الشورى،وقضي على سنة الخلافة الراشدة و تفرق المسلمون شيعا وأحزابا، وكانت السلطة آنذاك قائمة على ملك عنيف لا يقوم على الدين وإنما يقوم على الأهداف السياسية والمنفعة الذاتية ،كما يصفها بعض المؤرخين والأدباء. ولم تنقض الفتنة بموت يزيد وإنما قطعت مرحلة من مراحلها ثم استأنفت عنفها وشدتها بعد موته فعرضت المسلمين ودولتهم لخطوب ليست أقل جسامة ولا نكرا من الخطوب التي وقعت في عهد –الطاغية- يزيد بن معاوية . هكذا، وبعد هذه الخطوب وما بولغ فيها من توصيف سواء ن طرف المؤرخين الموالين أو المعادين لهذا الفريق أو ذاك أو المتربصين بالجميع،استمر حال المسلمين في انحلال دائب بين مد وجزر يزداد به المجتمع سوء وتضعف فيه همم الرجال،حتى صار الدين غريبا في بعض الأحياء،وأصبحت الفئة التقية والمحافظة على عقيدتها وشعائرها موسومة بالخصوصية.ولم يعد ذلك العموم في التقوى يوصف به المجتمع وإنما دخل الناس وخاصة من ذوي الثراء والسلطة في طور اللهو واللغو، والطرب والغناء... فكان تطورا وتغيرا سلبيا خطيرا كأنه حدث في الأمة،وكان لابد من رد فعل قوي ضد هذه الظاهرة الغريبة والدخيلة على الحياة العامة،وكان لابد من العمل بكل جهد للمحافظة على الأصالة والعمل على ضمان استمرار نسخ منها في الوجود المرئي والحضور السلوكي والاجتماعي،وهو ما سنراه في الفصل التالي. ثانيا: التفاعل الصوفي مع تطور الأوضاع رغم اللهو والمجون الذي تسرب بصورة طارئة وشاذة إلى حياة الناس في عهد بني أمية وعلى وتفاوت وتقلب بين الإيجابي والسلبي في توجه الخلفاء آنذاك،هذا مع الأخذ بعين الاعتبار مبالغات المؤرخين وأعداء دولة الأمويين في إسقاط هذه الأوصاف،وباستثناء المرحلة الذهبية والصفاء الروحي والسلوكي والسياسي الذي تمثل في فترة حكم الخليفة التقي والعادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فإن تلك المظاهر الشاذة من التغيرات قد كانت محدودة وضيقة و أقل تأثيرا وحضورا مما سيكون الحال عليه في عهد العباسيين،الموالي له. وذلك لأن بني أمية قد حافظوا على جملة من العادات العربية الأصيلة ولم يتفننوا في تلوين أنواع البذخ والترف،نظرا لقوة عصبيتهم القومية العربية،وعدم السماح لأي عنصر من العناصر الأجنبية بنيل درجة التأثير بالكامل على أحوال المجتمع آنذاك،وإن أخذوا عن بعضها قسطا من المظاهر محدودة فإنهم قد أضفوا على تلك الاقتباسات صفات قد تليق بالذوق العربي وما تعودوا على استساغه وتقبله بسجيتهم وسليقتهم . لكنه عند قيام الدولة العباسية وسيادة العنصر الفارسي آنذاك بفعل المؤازرة والمناصرة الأولى لقيام الدولة الجديدة،ستدخل العوائد الخارجية على المجتمع العربي المسلم،وسيكثر الغناء والموسيقى ويشرب النبيذ،وسيقتبس الخلفاء نظام مجالسهم من الفرس،وسيرتب الندماء وتكثر العطايا والمنح ،بل حتى الأعياد المجوسية قد أوتي بعوائدها واحتفل بمناسباتها في دار الإسلام كعيد النيروز الذي كان عند الفرس قديما . من خلال هذه المقتضبات التي تصور لنا مرحلة اللهو التي كانت سائدة في القرن الثاني وما تلاه بعد ذلك وتطورها مع الزمن، كان لابد لنا من البحث في جانب آخر،معاصر ومجاور لجانب اللهو والمجون،ومضاد له في نفس الوقت من غير انفعال أو عنف وتشنج. وهكذا سنرى أنه قد كان يوجد في نفس في الوقت تيار آخر مجانس ومتحدى له سلوكيا وعمليا لتحقيق التوازن وسنة التدافع الإيجابي،سيكون أيضا في تطور مستمر،حسب حال المجتمع في كل ما يحدث فيه من مد أو جزر،ألا وهو تيار التقوى والورع والتشبث بالقيم والأخلاق الإسلامية الأصيلة في ثوبها الروحي المتسامي. فلقد تطور الورع عند جماعات إلى زهد عادي فردي،وانتقل بعد ذلك إلى زهد منظم-حسب رأي علي سامي النشار- له امتيازاته ومقاييسه،وآراء تدور حوله. بعد ذلك وفي أواخر القرن الثاني أخذ هذا التوجه يضرب إلى التصوف ويرمي إليه بصفته علما ومنهاجا يسعى إلى تهذيب النفس وتحليتها بكل الفضائل الهادفة إلى تكوين الإنسان المتخلق والفاضل . غير أن القول بالتطور قد لا يبدو ضروريا أو نتيجة منطقية حتمية،وذلك لأن أصول كل من الزهد أو الورع وكذلك مضمون التصوف سواء كان فرديا أو جماعيا قد كانت موجودة في كل العصور الأولى للأمة وأنشطتها،لكن كما يقال:في الليلة الظلماء يفتقد البدر،كما أن النقطة البيضاء قد تبدو أكثر بروزا حينما يكون الغالب على السبورة لون السواد!. هذا المعنى سيلخصه لنا أبو القاسم القشيري بأسلوب موضوعي ومتزامن مع مظاهر التغير الاجتماعي الذي قد تتغير معه حتى الألقاب والمصطلحات العامة من صياغة متداولة إلى حلة جديدة بحسب زمانها وأهله. يقول عن مرحلة ظهور التصوف كمصطلح في التسلسل التاريخي:"اعلموا رحمكم الله تعالى أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسمَّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم،إذ لا فضيلة فوقها،فقيل لهم الصحابة.ولما أدركهم أهل العصر الثاني سمي من صحب الصحابة التابعين ورأوا ذلك أشرف سمة،ثم قيل لمن بعدهم أتباع التابعين،ثم اختلف الناس وتباينت المراتب فقيل لخواص الناس ممن لم شدة عناية بأمر الدين:الزهاد والعباد،ثم ظهرت البدع وحصل التداعي بين الفرق فكل فريق ادعوا أن فيهم زهادا،فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفاسهم مع الله تعالى الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة" . ولقد استند عبد الرحمن بن خلدون كمؤرخ جهبذ في تحديد مرحلة ظهور التصوف ومواكبته للظروف الاجتماعية وتطوراتها مع تبيين أصالة هذا العلم مضمونا وتاريخا على ما ذهب إليه القشيري في الرسالة حيث يقول في "المقدمة":"هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة،وأصله أن طريقة هؤلاء القوم،لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق و الهداية،وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى،والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها،والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه،والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة،وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف،فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة..." . هذا من الناحية التاريخية،أما من جانب فقه اللغة وتحديد أصل المصطلح فقد يبدو اسم التصوف وكأنه لقب وليس مشتقا من صفة من الصفات والنعوت أو المصادر اللغوية المطابقة للفعل الصوفي وإجراءاته الخاصة!لهذا نرى القشيري أيضا يشير إلى أنه لم يعرف لهذا الاسم أي قياس أو اشتقاق في اللغة العربية،وحتى لو نسب إلى الصوف،الذي يكاد يوافق تصريف هذا الاسم،فإنه يخالف ما اختص به أصحاب هذا المذهب كما يذهب إليه في"الرسالة"بقوله: "هذه التسمية غلبت على هذه الطائفة فيقال رجل صوفي وجماعة صوفية،ومن يتوصل إلى ذلك يقال له متصوف وللجماعة المتصوفة،وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس أو اشتقاق،والأظهر فيه أنه كاللقب،فأما قول من قال إنه من الصوف وتصوف إذا لبس الصوف كما يقال تقمص إذا لبس القميص فذلك وجه،ولكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف ومن قال إنهم منسوبون إلى صفة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فالنسبة إلى الصفة لا تجيء على نحو الصوفي،ومن قال إنه من الصفاء فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد في مقتضى اللغة وقول من قال إنه مشتق من الصف فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم من حيث المحاضرة من الله تعالى،فالمعنى صحيح ولكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف،ثم إن هذه الطائفة أشهر من أن يحتاج في تعيينهم إلى قياس لفظ و استحقاق اشتقاق ..." . وفي عبارته الأخيرة إشارة إلى قوة وصحة المسلك الصوفي وعدم وقوفهم مع الألقاب والمصطلحات مما قد يبين لنا أن ظهور التصوف كحركة عملية علمية عرفانية قد كانت ذات منهج خاص وليس أنها مجموعة أناس لابسين للصوف،أو أنهم يمثلون أهل الصفة أو غيرها من الإحالات التي يحيل الباحثون إليها أصل الكلمة. لكن المستنتج مما رأينا من آراء المؤرخين القدماء،أن التصوف قد نشأ أو برز بشكل متميز كعامل طبيعي ضد كل حركة تمرد و انحراف يحدث طارئا في وسط اجتماعي،قد كانت له أصالة وقسطاس مستقيم يزن به تصرفاته.فكلما ابتعد وانحاز عن محجته البيضاء إلا و كان هناك من يراقب هذا الزلل ويقيم السدود،حتى لا يطغى التيار ويهدم كل شيء. ولئن كان المجتمع الإسلامي الأول قد مر بمرحلة النقاء التام ثم دخلت عليه الشوائب وانتابته النوائب،حتى كدرت عليه صفوه،لولا أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض،فإن نفس السنة قد جرت على التصوف حيث ابتدأ بالصفاء والطهر و اتباع النص في كل تصرفاته،حتى سمي بالتصوف السني،ثم دخلت عليه المصائب وانتشرت في أوساطه الألاعيب،وكثر الغلط فيه كما اللغط حوله،حتى سمي جانب منه بالتصوف المتطرف . وهكذا فقد أصبح التصوف يتجاذبه تيار الاعتدال كما يتجاذبه تيار التطرف والمغالات،مما دعا الباحثين إلى استنباط ما هو سني فيه وإثباته واستخراج ما هو متطرف منه والتنبيه عليه. فقد يمكن أن يسلم المتصوف السني جملة من التطرف،كما يمكن أن ينحرف المتطرف عن السنة كلية،وقد يحدث اجتماع جوانب سنية في شخص من جهة وتلبسه بجوانب متطرفة من جهة أخرى. لهذا فلا يمكن الحكم على أشخاص ونسميهم بالسنيين جملة،وكذلك لا نحكم على آخرين ونسميهم متطرفين بالكلية،بل ندرس المنهاج السائد وكثرة وروده عن أفراد متألقين في مجال السنة،ونحكم عليه بأنه هذا هو التصوف السني،وكذلك نفعل مع الجانب المتطرف ونحكم عليه بأنه هذا هو التصوف المتطرف . [email protected] أهم المصادر والمراجع: -القرآن الكريم -الحديث النبوي الشريف -حسن إبراهيم حسن :تاريخ الإسلام السياسي والاقتصادي والاجتماعي مكتبة النهضة المصرية ط7 ج1ص151 -الغزالي:إلجام العوام عن علم الكلام ،دار الكتاب العربي بيروت ط1ص63 -محمد بك الخضري:الدولة الأموية ،المكتبة العصرية بيروت ط1423-2003ص233 -أحمد أمين :ضحى الإسلام مكتبة النهضة المصريةط6 ج3 ص5 -محمد بك الخضري:الدولة الأموية،المكتبة العصرية صيدا بيرو ط1423-2003ص322 -طه حسين :إسلاميات منشورات دار الآداب بيروت ط1 ص1030 -نفس ص1032 -علي سامي النشار:نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ط7ج3ص17 -القشيري:الرسالة ،دار الكتاب العربي بيروت ص7 -ابن خلدون:المقدمة،المكتبة العصرية صيدا بيروت ط 5 ص142 -2004 -الدكتور محمد بنيعيش:التصوف الإسلامي بين السنية والتطرف، دار غراب للطباعة والنشر