تعددت في الآداب العالمية النصوصُ الروائية التي تناولت ظاهرةَ الحرب ، ملتقطة ما يتمظهر فيها من نقائض الوضع البشري بما يحمله من آلام وآمال، وشر وخير، وخسة وبطولة، ووهدة وسموق... أجل للحرب قدرة كبيرة على استدعاء السرد، واستجاشة الشعور والخيال. فلا يمكن للحرب ، ولو كانت محدودةً في توقيتها الزمني ، أن تمر كلحظة عابرة ؛ لأنها تختزل أكثر اللحظات والمشاهد إيلاما . والألم مختبر فعلي للنفس البشرية، إذ فيه تتجلى حقيقتها سافرة بلا رتوش.لذا تبقى الحرب ماثلة في الذاكرة ، حاضرة في الحكي باستمرار. وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للحروب الخاطفة الوجيزة في حجمها الزمني وامتدادها المكاني، فإن الأمر يصدق أكثر على الحروب الكبرى ؛ لأنها لحظات مفصليةٌ في الصيرورة التاريخية للإنسانية، يجاوز تأثيرُها ساحَ العراك إلى ساح التاريخ بكل امتداده؛ حيث تحول مجراه ، وتغير من أوضاع المجتمعات والدول، بل تصل أحيانا إلى أن تبدل من إطاراتها الجغرافية على نحو جذري؛ ولذا فمثل هذه الحروب الكبرى يكون لها وقع خاص على الأدب بمختلف أشكاله وأجناسه، وخاصة في الجنس القصصي. حيث يستجيب لها السرد متوسلا مختلف طرائقه وأساليبه (تسجيلا ووصفا، أو تخييلا وإبداعا ). وأشهر نموذج تناول هذا الموضوع المغري للمخيال السردي هو رواية "الحرب والسلام " لتولوستوي، الذي اتخذ نموذج الحرب النابليونية مادة بلور من خلالها مشهدا بالغ التنوع والتركيب والتعقيد، إلى حد اقتداره على اختزال واقع المجتمع الروسي بكل فئاته وأذواقه ومواقفه وهواجسه... كما كانت الحربان العالميتان الأولى والثانية مادة استفزت المخيال السردي ، فنتجت عن ذلك عشرات بل مئات من النصوص الروائية في مختلف اللغات ( الروسية والفرنسية والانجليزية والألمانية واليابانية والعربية...). وإذا كان الأدب في أجناسه السردية قد تناول ظاهرة الحرب بنمط الحكي ، فإن الأبحاث الفلسفية والسيكولوجية قد تناولتها بطرائقها الخاصة ، فحللت المفهوم وانشغلت ببحث الدوافع والأسباب ، كما نَظَّرَ بعضها - أحيل هنا على سبيل المثال على كانط في دراسته المعنونة ب"السلام الدائم"- لمستقبل تنتفي منه الحروب ويزول الصراع العنفي المادي بين الدول. وكشأن كل المفاهيم والألفاظ المفتاحية التي تركب بنية الثقافة والوعي ، اختلف الفلاسفة ومفكرو الاستراتيجيا العسكرية في تعريف مفهوم الحرب وتحديد ماهيتها ؛ لكن مثل هذا الجدل اللفظي يبدو لدى من خَبِرَ الحربَ مراء لا قيمة له؛ لأن من عايشها يعرفها ويدرك مآسيها، بحيث يبدو من النافل الإيغال في مقاربة هذا الاختلاف الدلالي . إذ الحرب من نمط تلك الألفاظ التي نحس مدلولها ونستشعره وإن صعب نقله إلى تعابير تبينه وتوضحه. غير أن أشهر تعريف لماهيتها ما كتبه الإستراتيجي كلاوزفيتش، حيث عرفها بقوله :"الحرب هي استخدام القوة لإلزام الخصم بالخضوع لإرادتنا.. غير أن الحروب لا تبدو مجرد استعمال للقوة ، بل إيغال في توحش القوة ؛ ولذا نتيجة لفظاعة فعلها وساديته ووحشيته ، اتجه بعض الفلاسفة إلى النظر إلى الحرب بوصفها مخالفة للماهية الإنسانية ، بما هي ماهية عاقلة تتمايز عن الحيوانية . لكن المفارقة هي أن الحرب التي يُزعم أنها مضادة للعقل ، ما خدمها سلاحٌ أمضى من سلاح العقل ذاته. والنظر اليوم في تقنية صناعة الحرب سيلاحظ ولابد، أن مختلف العلوم البشرية ، من رياضيات وكيمياء وفيزياء وبيولوجيا وغيرها ، صارت تخدم هذا الجانب الوحشي في الإنسان على نحو يكشف تسخيرا مطلقا للعقل من قِبَلِ غريزة التوحش ! ترى لم يلجأ الكائن الإنساني إلى الحرب ؟ هنا أيضا تختلف الأجوبة وتتباين ، ومن أطرفها جواب من يختزل الغاية من الحروب والدافع إليها على حد سواء في الحاجة النفسية التي تتمثل في مجرد الإحساس بنشوة الانتصار . وقريب من هذا المعنى ما ذهب إليه هيجل في تحليله لما سماه بجدلية السيد والعبد، حيث اختصر الدافع إلى الحرب في حاجة الأنا إلى انتزاع اعتراف الآخر به. وفي سياق التحليل النفسي يذهب سيجموند فرويد – انسجاما مع نهجه "الفلسفي" القائم على تحليل السلوك الفردي والجمعي بإرجاعه إلى عقدة أوديب – إلى تعليل الحرب بالدافع الغريزي ، منطلقا في تحليله من غريزتي الحب والكراهية، فيتخيل بداية صراع الإنسان مع شبيهه بوصفه صراعا جنسيا ، ناقدا بذلك التخيلات الفلسفية الأنثروبولوجية التي جعلت بداية الصراع البشري مرهونة ببداية نظام الملكية الخاصة.