لقد وعى الأعلم الشنتمري علوم القرآن، حفظا، واستيعابا وتعمقا، يشهد له بذلك، ثروة ضخمة من الشروح القرآنية التي ضاقت بطون الكتب عن الإحاطة بها، وخبرة طويلة بالقراءات القرآنية بعد أن انقطع جُلَّ عمره يألف وحشيَّها ويأنس الشاذ منها. وقد تكون حقيقة أن الأعلم، أخذ من القرآن الكريم بالحظ الوافر أسهل الحقائق برهانا ؛ ذلك أن ما نُقل عنه بلسانه ولسان غيره، يثبت هذه الحقيقة ويؤيّدها، وينفي أدنى شك من حولها. فما حكي عنه من حفظه القرآن، وما روي عنه من شروح، والتزامه الصارم باستغراق شواهد قرآنية في مؤلفاته، وتلك العناية بالمعاني القرآنية، كل ذلك يقيم الدليل تلو الدليل على تبحره في علم القرآن وتمكنه من ناصية علم القراءات وعلم التفسير(1). وطبيعي لمن تكون لديه هذه المرجعية الدينية الهائلة أن يصنف ضمن أعرف النحاة الأندلسيين بالقرآن ووجوه التأويل في الآيات والروايات، وأن ينعت بالإمام المعول عليه في تفسير كتاب الله تعالى(2). فنحن إذا تصفحنا بعض النماذج من تفسيره للقرآن الكريم وقفنا على اهتمام بالغ بالغريب والمعاني والظواهر النحوية. يقول مثلا في تفسير قوله تعالى : «وَإنّي مُرْسِلَةٌ إليهم بِهدَّيةٍ فناظِرَةٌ بِمَ يَرْجعُ المُرْسَلُون»(3) : «المعنى فَلمَّا جاء المال سليمان، فأضمر الهدية على التذكير، لأنها مال في المعنى، فحمل الإضمار عليه، وحكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء، قال سمعت رجلا من اليمن يقول: جاءته كتابي فاحتقرها، فقلت له : (أتقول جاءته كتابي ؟)، فقال : نعم، أليس بصحيفة ؟»(4). كما يفسر قوله تعالى : «وَمَا يُشعِرُكُم أَنَّها إذا جاءت لا يؤمنون»(5)، بقوله : «فمن كسرها (إنها) فقد تم الكلام بقوله (وما يشعركم)، ثم أخبر الله عنهم لا يؤمنون، ومن فتحها (أنها)، فقد تم الكلام أيضا عند قوله (وما يشعركم) ثم استأنف الكلام، وأبهم أمرهم، ولم يخبرهم بإيمان ولا غير فقال : (أنها) على معنى (لعلها)، وهذا قول النحويين : الخليل والكسائي والفراء وغيرهم ...»(6). ومثال ذلك أيضا، ما فسر به قوله تعالى : «وجَاعِلٌ اللَّيلَ سَكَنَا والشَّمْسَ والقَمَرَ حُسْبَاناً»(7)، حيث أشار الأعلم إلى أن اسم الفاعل (جاعل) بمعنى الفعل (جعل)، وحمل الثاني (الشمس والقمر) على المعنى. وقد قرأ الكوفيون : «وجَعَلَ اللَّيلَ سَكَناً»(8). والأمثلة عديدة على تفسير الأعلم لبعض آي القرآن الكريم، وما أوردناه يكفي لأن نقول إن الرجل أخلص نفسه وفكره وعقله لتحليل كلام الله والغريب من آياته والاستشهاد به، «فالقرآن الكريم يعد من الكثرة بمكان عند الأعلم، إذا ما قيس بغيره من مصادر الاحتجاج في النحو العربي، وذلك إيمانا منه بأنه هو ذلك النص القاطع الذي لا يرقى إليه أدنى ريب، والذي يطالع مصنفا واحدا من مصنفات الأعلم يجده يسوق القاعدة النحوية أو الظاهرة اللغوية، ثم يؤيدها بالشاهد القرآني، ثم بعد ذلك يسوق الشواهد الأخرى ...»(9) ومن ذلك ما يلي : 1- قال الأعلم في بيت الأخضر بن هبيرة الضبي : دَعِ السَّيدَ إن السيّدَ كَانَتْ قبِيلَةً *** تقاتلُ يومَ الرَّوْعِ دُونَ نِسائِها(10) : «و(كان) هنا واقعة لغير انقطاع، والمعنى : معنى الوجود والحال، أي كانوا قديما على ما هم عليه الآن، كما قال عز وجل : «كنتم خير أمّة أُخرجت للناسِ»(11). أي : أنتم الآن كذلك، وعلى هذا ما أتى في القرآن الكريم من قوله عز وجل : «وكان اللهُ غفوراً رحيما»(12)...»(13). 2- كذلك عند تعرضه لشرح بيت رويشد بن كثير الطائي : يا أيُّها الرَّاكب المزجي مطيته *** سَائل بني أسَد مَا هذهِ الصوت(14) قال الأعلم : «أراد بالصوت : الضجة والصيحة أو القالة ؛ فلذلك أنثها فقال : ما هذه ؟ ومثل هذا جائز في الشعر كثير، وربّما أتى في الكلام، كما قال جل وعزّ «فلمَّا جاء سليمَانَ»(15)، بعد قوله تعالى : «وإني مرسلة إليهم بهدية»(16) ...»(17). 3- ومن ذلك أيضا، ما عرضه عند تعرضه لتعدي الفعل إلى مفعولين، وكان الثاني منهما مجروراً بحرف الجر، ولكنه حذف وأعمل الفعل مباشرة، قال : ومن شواهد ذلك قوله تعالى : «واختارَ مُوسى قومَه سَبْعينَ رَجُلاً»(18)، وعليها : اخترتُ الرجالَ عبد الله، وسميته زيداً، وكنيتُ زيدا أبا عبد الله(19). وقد كان الأعلم لا يتورع عن تفسير بعض ما يستشهد به من آيات قرآنية، وهذا قد يشير إلى اتساع علمه في التفسير. وهناك من الأمثلة في شروحه، ما يدل على ذلك. فإذا وقف مثلا على كلمة (الحمام) في قول الشاعر : قالت ألاَ لَيتما هذا الحمامُ لنا *** إلى حمامتِنا أو نصفِه فقد(20) علق عليه بقوله : «وهذا الرفع لكلمة (الحمامُ) دليل على أن يكون بمنزلة قول من قرأ : «مَثلاً ما بعوضَةً»(21)، كأنه قال : ألا ليت الذي هو هذا الحمام لنا، وكذلك : مثلاً الذي هو بعوضة، أي : إن "ما" في "ليتما"، والآية الكريمة، اسم موصول بمعنى الذي، والوجه الآخر للرفع أن يكون بمنزلة : إنما زيد منطلق»(22). وإذا قال آخر : هُمَا كَنَفا الأرضِ التي لو تَزَعْزَعَا *** تَزَعْزَعَ مَا بَيْنَ الجنوب إلى السُّدِّ(23) شرحه الأعلم بقوله : «التزعزع : الانهداد والتزلزل، يقال زَعْزَعَتْهُ الريحُ إذا زلزلته، وأراد : بالسُّدِّ : سُدُّ يأجوج ومأجوج وهو في الشمال والقُطر الجنوبي يقابله، والألف التي في تزعزعا عائدة على (الكَنفين) وأقامَهَا مَقَامَ العائد على (التي)، من صلتها، لأنها في معنى تزعزع كنفاها، مثله مثل قوله عز وجل : «والذينَ يتوفّوْن منكمْ ويذرونَ أزواجاً يتربَّصنَ بأنفُسِهنَّ»(24). فالنون في يتربَّصنَ عائدة على الأزواج والتقدير : يتربَّصُ أزواجُهنَّ، وهذا الضمير المضاف إليه الأزواج عائد على (الذي) وبه صحَّ خبرُ الذي، كما صحَّ الضميرُ. المضاف إليه (الكنفان) صلة (التي)»(25). ومن ذلك أيضا، ما علق به على لفظة (الشَّفَى)، فقال : «ومنه قوله تعالى : «عَلَى شَفَى جُرُفٍ هارٍ»(26) الشَفى الشيء اليسير، يقال : غَرُبَت الشَّمْسُ فلم يبق منها إلاَّ شَفًى. وأصلُ الشَّفَى حاشية الشيء وطرفُه ... ومنه : أشفيْتُ على الشيء إذا أشرفْتَ عليه فكنت فِي شَفَاه، أي: في طرفه وأعلاه ...»(27). وإن هذه العناية بتفسير الشواهد القرآنية وشرحها، كانت تملي على الأعلم أن يتلبث عند الألفاظ التي يفسرها، كاشفا عن مضامينها ذاكرا الأوجه المختلفة لقراءتها، مثبتا ما يتعلق بها من قراءات مشهورة أو شاذة. ومن أمثلة ذلك حديث الأعلم عن لفظة (الهُجْر) في بيت سالم بن وابصة المُري : وَسَلِيمٌ دَوَاعِي الصَّدْرِ لاَ باسطٌ أَذًى *** وَلاَ مَانِعٌ خَيْراً ولا قائِلٌ هُجْراَ(28) فقال : «وَالهُجْرُ : الإفحاش في القول. والهَجْرُ بفتح الهاء : الهذيان، ويقال في الأول : أَهَجَر الرجلُ، وفي الثاني : هَجرَ. وقرئ : «سَامراً تهجُرون»(29)، وتُهْجِرون ...»(30). ومن ذلك أيضا شرحه للفظة (أمِرُوا) في بيت فاطمة بنت الأحجم : كلُّ ما حيِّ وإن أَمِروا *** وَاردُو الحوضِ الذي وَرَدُوا(31) قال الأعلم : «أي كل حي صائر إلى ما صاروا إليه من الموت، ويحتمل أن يريد بالحي : نقيض الميت، أو القبيلة، ويكون ضد الميت أحسن وأعم، ومعنى أمروا : كثر عددهم، ويقال : أمر الشيء وأمره وفي التنزيل : «أَمَرْنَا مُتْرَفِيهاَ»(32)، وقرئ (آمرنا) بالمد»(33). ويلاحظ هنا أن الأعلم، «احتج بالقراءة القرآنية لإقرار دلالة لفظ بعينه، ومعنى ذلك أن القراءة لا تقف عنده عند حدود إقرار القواعد والقوانين اللغوية، بل يستعين بها لإقرار الدلالات اللفظية»(34). ومن هذا الضرب في الاحتجاج بالقراءة القرآنية، ما قاله في بيت مساور بن هند العبسي : وَسَائلْ تَميماً هلْ وَفَيْتُ فإنَّنِي *** أَعْدَدْتُ مَكْرُمَتِي لِيَوْمِ سِبَابِ(35) «يقال «وَفَى» وأوْفَى بمعنىً واحدٍ، وفي التنزيل : «وإبراهيمَ الذي وَفَى»(36) بالتخفيف ...»(37). ومن ذلك أيضا احتجاجه بالقراءة، في قول الشاعر : فَهَلاَّ مَنَعْتُمْ إِذْ مَنَعْتُمْ حَدِيثَها *** خَيالاً يُوافِيني مع اللَّيل هاديا(38) قال الأعلم : «وقوله هاديا : أي مهتديا في ظلام الليل، يقال هدى فهو هاد، بمعنى: اهتدى، وفي التنزيل : «أَمَنْ لاَ يهْدِي إلاَّ أَنْ يُهْدَى»(39) على قراءة بعضهم(40) أي : لا يهتدي»(41). ولا يكتفي الأعلم بأمثال هذه القراءات، وإنما قد يستشهد أيضا ببعض القراءات التي يشتبه فيها اللحن أو الوهم، إن صحت لأصحابها. ومن ذلك ما قاله عند تعرضه لوقوع (كان) تامة، في رواية لقول عمرو بن شأس : بني أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بلاءَناَ *** إذا كان يوماً ذا كواكب أَشْنَعا(42) قال : «(كان) تامة فيما سمعه سيبويه، برفع كلمة وتكون (أشنعا) حالا مؤكدة، كما في قوله تعالى : «وأرسلناك للناسِ رَسُولاً»(43)، فقوله (رسولا) حال مؤكدة كالمصدر المؤكد للفعل، وقد يجوز أن يكون (أشنعا) خبراً»(44). وقال في حديثه عن مسألة (العطف على إسم إن) في قولهم : (إنَّ زيداً منطلق وعمراً ظريف) : «إن (عمراً) منصوب بالعطف على إسم (إن)، كما في قوله تعالى : «وَلوْ أن ما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحرُ يمدُّهُ من بعدهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ»(45). (فالبحر) نصب بالعطف على (ما) وقد قرئ برفع البحر لذلك فالواو واو الحال، وليست عاطفة كما في (لو ضربت عبد الله وزيد قائم ما ضرك)، أي : لو ضربت عبد الله وزيد في هذه الحال، ويقول عن الرفع في الآية الكريمة، كأنه قال : (لوْ أنَّ ما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحرُ هذا أمره، ما نفذت كلماتُ اللهِ)»(46). وقد بلغ من اعتداد الأعلم بالقراءات القرآنية، أن ينسب القراءة أحيانا إلى أصحابها، كأن يقول : «وقد قرأ الكوفيون»(47) أو «قرأ الأعرج»(48)، أو «قراءة أهل المدينة»(49). وقد لا ينسبها، كأن يقول : «في قراءة بعضهم»(50) أو يقول : «في قراءة من قرأ»(51) أو يقول : «وقرئ»(52). كما كان الأعلم، مع اشتغاله بتفسير القرآن ما يزال به حنين ينازعه إلى علوم الحديث. قال الدكتور علي المفضل حمودان : «لقد جلس الأعلم إلى أبي مروان عبد الملك بن سراج (ت: 489ه)، وأخذ عنه كتاب غريب الحديث المصنف للخطابي، ونال قسطا وافرا من العلوم الدينية بسمت أهل السنة، فكان له صدى طيب في أعماله العلمية التي أنجزها»(53)، وفي اجتهاداته الفقهية. ولتجرد الأعلم في حرية رأيه وأحكامه، وعدم تعلقه بالأخبار الضعيفة، ولكثرة استدلاله بالأدلة الدينية المتفقة مع السنة المتواترة، نسبه بعض المترجمين له إلى المالكية(54). قال عنه ابن بشكوال في (الصلة) : «وهو (يعني الأعلم)، أديب أندلسي، مالكي المذهب»(55). ويبدو علم الأعلم بالحديث وتمكنه من العلوم الدينية من خلال بعض الشروح المتواترة في كتبه، وكذا من خلال طريقة تفسيره للحديث واستشهاده به في سائر مصنفاته النحوية واللغوية. هكذا أكثر الأعلم من الاستشهاد بالحديث الشريف في مسائل اللغة والنحو، متقفيا النحاة الأندلسيين الأوائل الذين اعتمدوا على الأحاديث من حيث هي حجة في أمور اللغة(56). ومن الأمثلة التي تدلل على ذلك ما يأتي : في قول عبد الشارق بن عبد العُزّى الجُهَنيّ(57) : فَنَادَوْا يا لَبُهثَةَ يَوْمُ صَبْرٍ *** فقلنا أَحْسِنِي مَلأً جُهَيْنَا(58) قال الأعلم : «والملأ هنا : الخُلُقُ، وهو اسم واحد في معنى الجمع، أي : أحسنوا أخلاقهم، ومن هذا قول النبي صلى اللهُ عليه وسلم لأصحابه حين همّوا بضرب الأعرابي، الذي بال في المسجد : «أحْسِنوا ملأكُمْ»(59)، أي أخلاقكم ...»(60). ومن ذلك أيضا، ما قاله في بيت رجل من نبهان من طئ : أَلاَ أبلِغَا خُلَّتِي رَاشِداً *** وَصِنْوِي قَديماً إذا ما اتَّصَلْ(61) قال : «ومعنى اتصل : انتمى وانتسب. يقال : اتصل فلان في الحرب، إذا استنصر قومه فنادى : يا لبني فلان، وهو من دعوى الجاهلية. وفي الحديث : «إذا اتصل الرَّجُل فَأَعِضوه»(62) ...»(63). وقال في قول دُرَيْد بن الصَّمَّة الجُشَمِيّ(64) : وَهَوَّنَ وَجْدِي أَنَّ مَا هُوَ فَارِطٌ *** أمَامِي وَأَنّي هَامَةُ اليوم أَوْغَدِ(65) : «... الفارطُ : المتقدمُ، وفي الحديث : «أنَا فرطُكُمْ على الحوضِ»(66) أي : أولكم ...»(67). ومن ذلك أيضا، استشهاده بقوله صَلّى الله عليه وسلم : «الناسُ غانمٌ وسالمٌ وشَاجبٌ. فالغانمُ مَنْ قالَ خيراً فغنِم والسَّالِمُ من سكتَ فَسلِم، والشاجِبُ من قالَ شراً فهلك»(68)، وذلك في قول عنترة بن شداد : فَمنْ يَكُ في قَتْلِهِ يَمْتَرِي *** فإنَّ أَبَا نوفَلٍ قَدْ شَجِبْ(69) ...»(70). والأمثلة على ما استشهد به الأعلم من حديث كثيرة ومتعددة في شروحه اللغوية، مما يقيم الدليل على أن السنة النبوية الشريفة كانت مصدرا هاما من مصادر احتجاج الأعلم. ولم تكن هذه الحقيقة لتخفى على معاصريه، إذ حفظت الأخبارُ «أن الأعلم قد وقف مدافعا عن الاستشهاد بالحديث الشريف في اللغة والنحو، في الوقت الذي كان علماء الأندلس وهو منهم في مواقف شتى إزاء الاستشهاد بالحديث»(71). وقد بلغ من اعتداد الأعلم بالحديث الشريف، أن جعله يأنس بتفسير ما يشْتمُّ منه رائحة الإغراب. فلا يكون شاهد الحديث يجره إلى ذكر الغريب، حتى يسترسل فيه، ويخوض في تبسيطه وتوضيحه. يقول مثلا في شرح البيت التالي : صَلِيَتْ مِنّي هُذَيْلٌ بِخرْقٍ *** لاَ يَمَلُّ الشرَّ حَتَّى يَمَلُّوا(72) : «الخِرْقُ : المنْخَرِقُ في الجرأة والسماحة، المتسع فيهما. وقوله (حتّى يَمَلُّوا). المعنى لا يَمَلُّ الشرَّ وإن مَلّوه، و(حتى) هنا بمعنى إذا، وعلى هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خُذُوا من البرِّ ما تُطِيقُون فإنَّ اللهَ لاَ يَسْأَمُ حتَّى تسْأَمُوا»(73)، أي : إذا تَسْأَمُون، ويقال المعنى إنَّ الله لا يسأم الثوابَ حتى تسأموا العَمَلَ»(74). ومثال ذلك ما فسر به حديث الرسول (ص) : «اغْتَرِبُوا لاَ تَضْوُوا»(75)، قال الأعلم : «لا يَنْكِحِ الرَّجلُ المرأةَ القريبة فَيَخْرُج الوَلَدُ ضَاوِياً، وهو الدّقيقُ العظام الضَعِيفُ الخَلْقِ»(76). ومن ذلك أيضا، استشهاده بالحديث الشريف : «كُنَّا إذا اشْتَدَّ البأسُ اتَّقيْنَا برسول الله»(77) فكتب في شرحه : «أي : جَعلناه بيننا وبين العدوّ يَذُبُّ عَنَّا»(78). ومما تقدم، تتضح ثقافة الأعلم في هذا الباب من العلوم الدينية، ويتبين مقدار ما حصل منه، وما كانت تحفل به شروحه الشعرية والنحوية من شواهد دينية، حتى لقد كانت شواهده هذه، من الأسس الأولى في الاستشهاد والاستدلال، فهو يبحث في تثبيت اللغة والقواعد النحوية واللغوية عن شواهد من القرآن الكريم والحديث الشريف ويضعها جنبا إلى جنب مع الشواهد الأخرى.