كلّما ذُكرَت غزّةُ جالتْ ببالي أرجوحةُ العيدِ، تُهدهدُ وتُؤرجحُ براءةَ أطفالٍ تُردّدُ أغنيةً فولكلوريّةً: "طيري وهَدّي.. يا وزّة/ عَ بلاد غزّة.. يا وزّة/ قصّوا جناحك... يا وزّة/ عَ عِرق التّينة... يا وزّة/ وخلّوكِ حزينة... يا وزّة!" وخلّوكِ سكّين... يا غزّة! خلوكِ سكّين... يا غزّة؟! لكن سكّين على رقابِ مَن؟ على رقابِ الإوزِّ؟ على رقابِ أطفالِكِ، نسائِكَ وآهليكِ؟ لا.. لا، إنّما المقصودُ سكّين جراحيّ من أجلِ إجراءِ عمليّاتٍ ضروريّةٍ عندَ الحاجةِ لتُسلِّمَها مِن الفقرِ والفاقةِ؟ ومَن يجرؤُ أن يتحدّثَ عن الفاقةِ، و"الفاقةُ أُمُّ الاختراعِ"؟ لا أحد، طالما أنّ أمثالَنا الفصيحةَ والشّعبيّةَ لم تتركْ موضوعًا دونَ التّطرّقِ إلى وجعِهِ، أو حكمةً دونَ تبليغِنا ببلاغتِها؟ نعم، ف "قلة الأشغال تُعلّمُ التّطريز"! التّطريز!!!!! وهل أمامَ شبابٍ جائعٍ محاصَرٍ إلاّ تطريزُ ممرّاتٍ أرضيّةٍ، وأنفاقٍ في جبالِ الهروبِ، وخنادقَ التّهريبِ إلى الحياة؟! أمِنْ عبثٍ قيلتْ أغنيةُ الوزّة بهذهِ الصيغةِ، أم هي حقًّا تحملُ مضمونًا رمزيًّا وتاريخيًّا، يتجدّدُ وجعُ إوزِّهاعلى مرِّ الأجيالِ؟ ما هذا يا زياد؟ "أنا مُش كافر! بَسّ.. الجوع كافر.. أنا مُش كافر! بَسّ.. الظّلم كافر"!! لا ترفعْ صوتَكَ، فاجعَلِ الجوّ أرحبَ مِن معبَرٍ ومِنْ نفقٍ نَفَقَ فيهِ مَنْ جُرِّمَ بِعِشقِ الحياة! ربّما يجدرُ بكَ يا زياد أن تُغنّي ل "رفح" تُفرفحُ بها نفوسٌ خَلُصَتْ مِن مشوارِ عذابِها، وربّما عليكَ أن تُعدِّدَ لنُفوسِ مَن ردَمَتْهم انهياراتٌ رمليّةٌ مفاجئةٌ، أو مَن لم يجتازوا رحلةَ الموتِ، مِن لحظةِ إنزالِهِم برافعةٍ مُغمضةِ العينينِ، إلى فوّهةِ لَحْدٍ بعُمقِ 30 متر، ليطولَ في باطنِ الأرضِ ما لا يقلُّ عن 500 متر! أرايتَ يا زياد أشباحَ موتى تتقزّمُ وتتقلّصُ وتُهرولُ، تُسارعُ خطى خَلاصِها، لتسابقَ غثيانَ الاختناقِ في قبورِ الأنفاقِ، ولتَخرجَ لأحضانِ الجوعِ، أو لتُربّتَ على أكتافِها المُثقَلةِ بالذّلِّ والمهانةِ أكفُّ الموتِ؟ "أنا مُش كافر! بَسّ.. الجوع كافر.. أنا مُش كافر! بَسّ.. الظّلم كافر" صوتُكَ يا "زياد لبنان" يُعانقُهُ في آخرِ النّفقِ صدى صوتٍ آتٍ، مِنْ عُمقِ عِقدٍ يتهادى على سُحُبِ الحياةِ: أناديكم.. وأشدُّ على أياديكم.. وأبوسُ الأرضَ.. وأقولُ أفديكُم! رحمَ اللهُ أيّامَ التّوافقِ يا توفيق! فماذا هناكَ مِن زيادةٍ عن الّذي يحدثُ يا زياد؟ ربّما ينبغي الآنَ أن تهتفَ: أناديكُم.. وأمدُّ يدًا مبتورةً لأياديكم؟ لكن.. لمَن تمُدُّها زياد؟ ألأصحابِ المخابزِ أم للجياعِ بالجسدِ؟ منذُ شهرِ حزيران 2007 وهلَّ الحصارُ بجلبابِهِ الفضفاضِ، يمتطي جوادَ الشُحِّ ويكرُّ ويفرُّ، والسّبايا والغنائمُ في يدِهِ تَدرُّ، ووجهُ الرّغيفِ المتقمّرِ يتمرمرُ، وقد باشرَ أصحابُ المخابزِ إضراباتِهم من تاريخ 25-3-2008، بعدما بدأتْ مسيرةُ رغيفِ الخبزِ تحبو على بِساطِ غلاءِ الطّحينِ والغازِ، وبعدما انسحبَ البساطُ مِن تحتِهِ، فتأزّمَتِ الجراحُ، وأخذَ الرّغيفُ في زحفِهِ الموجَعِ والمستميتِ، خوفًا مِن سقوطِهِ وارتطامِهِ بهاويةِ الجوعِ! إضرابٌ أتى بعدَ عشرينَ عامًا من الحصار، ومضى في خيبتِهِ يتقهقرُ مع أولى محاولاتِهِ، دونَ دعمٍ وإسنادٍ لرغيفِ خبزٍ يُسندُ قلبَ الإنسانِ، كي لا يبتزَّ الجياعِ! لماذا لم يستطعْ أصحابُ المخابزِ مِن الصّمودِ أمامَ الخسائرِ والانهيارِ والتّدهورِ، وما استطاعوا تلافي الآتي مِن تجويعِ المواطنين؟ نقص في الطاقة؟ وما أدراكُم ما الطاّقةُ وأيُّ طاقةٍ يقصدون! لا تبتعد كثيرا بخيالك، لتحملك الظنون على أناملِ النميمةِ! إنّهم فقط يقصدونَ الطّاقةَ المتولّدةَ مِن كهرباءٍ ووقودٍ وغازٍ، وما الحديثُ إلاّ عن جوعِ ماكناتٍ وأدواتٍ وجمادٍ للوقودِ، وليسَ المقصودُ جوعَ الكتلةِ البشريّةِ لخبزِ الحياةِ، أو تزويدِ طاقةِ الاحتمالِ للجوعِ والذّلِّ والقهرِ والمعاناةِ للإنسانِ! إنسان؟! وهل أنتَ تدخلُ في مصنّفاتِ الإنسان؟!
ربّما ليسَ بالخبزِ وحْدَهُ يحيا الإنسانُ؟ كيفَ إذن يحيا الإنسانُ وقَدْ غابَ الخُبزُ، واندثرتْ كلماتُ الرّسائلِ السّماويّةِ، وغاصَ الإنسانُ والإنسانيّةُ في وحولِ وحوشِها؟ ما الّذي يُمكنُ أن يتيسّرَ بَعدَ أن تعذّرَ حضورُ رغيفِ الخبزِ؟ ألا زالوا يتحدّثونَ ويتداولونَ موضوعَ صهاريج ناقلةٍ للغازِ والوقودِ، وغزّةُ رابضةٌ على صهريجِ جوعٍ يكادُ ينفجرُ ويَكفرُ! ماذا تبقّى بعدَ أن أُعدِمَتْ آلافُ الطّيورِ الدّاجنةِ والإوزِّ لعدمِ توفّرِ العلفِ لها؟ قد سمعْنا عن ثورةِ الخبز والجياعِ في مصرعام 1977، كذلكَ في المغرب عام 1981، على أثرِ ارتفاعِ أسعارِ الخبزِ! هل مِن أحدٍ يتحدّثُ عن استنزافٍ لإنسانيّةِ البشريّة؟ أبدًا، لكنّها ذكريات ومَضَتْ في عينِ التّاريخِ فجأةً، لتُحذِّرَ وتُندِّدَ: ما أتتِ المظاهراتُ آنئذ إلاّ بمئاتِ الضّحايا مِن المُتظاهرينَ، ولا زالَ الحالُ على حالِهِ، لهْثٌ خلفَ كسرةِ خبز!! عذرًا أيّتُها المبجّلةُ الأميرةُ الفرنسيّةُ ماري أنطوانيت فصَوْتُكِ القائلَ للجياعِ المتظاهرينَ أمامَ قصْرِكِ "كلوا بسكويت"، قد وصَلَنا خافتًا أصمًّا بينَ أصواتِ أطفالٍ يبكونَ مِعدَهم الخاويةِ، ولا تنسَيْ أنّ البسكويتَ أيضًا يحتاجُ إلى دقيقٍ وغازٍ، وليسَ إلى تدقيقِ المعدةِ وشَدِّ الأحزمةِ!
أربّما ينبغي أن نشكرَ القائمينَ على استفحالِ هذهِ الأزمةِ؟ لا بدَّ مِن الاعتذارِ، فهذا اللّسانُ يتهوّرُ حينَ يحنُّ لطعمِ الخبزِ، فلا ينبغي لهُ أن يدّعي بوجودِ أزمةٍ أو أثَمَةٍ، بل ينبغي أنْ يشكُرَ جميعَ الكوادرِ المتآلفةِ، إذ لاحقًا، تُوفّرُ على الجياعِ مصاريفَ عمليّاتِ تقليصِ المعدةِ، وتكاليفَ التّجميلِ وشدِّ عضلاتِ البطنِ!