بمدينة شفشاون، شمال المغرب، حيث مسقط رأسها، نشأت نزيهة مفتاح في قلب تقاليد موسيقية ثرية ومتنوعة، وموسومة بطابع الفن الأندلسي وفن الحضرة. ولأنّ نزيهة مفتاح أجادت في أداء أغاني الشرق العربي والمغاربي، فقد وصفت، في كثير من الأحيان، بنعت "إديث بياف الشرق". ولقد صاحبتها، منذ طفولتها، الأصوات الغنائية العربية المرموقة، مما أثر على مسارها الفني بشكل وازن، وجعلها تتجه باستمرار نحو البحث عن الألوان الموسيقية المختلفة في ما وراء التخوم؛ حافزها في ذلك، حب اطلاع جارف ومؤسس على تفكير حداثي يستلهم أسّه ونسغه من الموسيقى الكلاسيكية. وإذ اعتبرت كأحسن فنانة تؤدي أغاني فيروز، فقد تسنى لها المشاركة في فرقة إيلي أشقر. ومعلوم أن المايسترو إيلي أشقر، وهو الذي يمهر في آلة القانون، صاحب لفترة طويلة الفنانة فيروز فوق خشبات القاعات الكبرى العربية والأروبية. وفي ضوء ذلك، سعى صوت نزيهة مفتاح الشفاف والبلوري إلى إعطاء دفعة جديدة ل"الفيروزيات"، بعد بدايات لنزيهة مفتاح ضمن فرقة "السنابل" بمدينة شفشاون، رحلت الفنانة إلى باريس سنة 1988، حيث تمكنت من مواصلة دراستها الجامعية الأكاديمية، وتطوير أذنها الموسيقية عبر الاطلاع على مختلف أنماط موسيقى العالم. وفي باريس حازت نزيهة مفتاح على اعتراف بكونها "أحسن مؤدية للأغنية العربية"، وهو ما جعلها محلّ طلب من طرف المهرجانات الثقافية والفنية بفرنسا بخاصة وأروبا بعامة، وكذا في البلاد العربية. وفي كل ظهور لها فوق خشبات القاعات الكبرى، تترك نزيهة أثراً بالغاً في دخيلة الحضور. نزيهة مفتاح رفقة المجموعة ثلاثة ألبومات، ثلاث مغامرات سجلت نزيهة مفتاح أول ألبوم لها "اندفاع" سنة 1996 بالقاهرة رفقة أوركيسترا "الفرقة المصرية". وعدا أن هذا الألبوم كرّم الشاعر العربي نزار قباني، فقد تمثلت خصيصته في كون أغانيه مؤداة باللهجة الفلسطينية، وبواسطة موسيقى أحمد داري، وتلحين للتونسي محمد الماجري. وما برحت أن عززت نزيهة ألبومها الأول بألبوم ثانٍ متفرد هو "فرحة"، وسجلته بباريس مع عازف العود الفنان المغربي الكبير سعيد الشرايبي. وقد صيغ الألبوم إيّاه من تركيبة جمعت إلى جانب قصيدة الملحون للقرن 19، تأثيرات أنماط من الأندلسي والغرناطي والفلامينكو، مستوعبة، جميعها، في قالب فني معاصر. وفي وقت لاحق، ستغْني نزيهة رصيدها بألبوم جديد حمل عنوان "القيّان"، وجاء هذا الألبوم للاحتفاء بالنساء العبيد، من أصول البلدان التي شملها الاحتلال (الفرس، والإغريق، والبيزانط، وإفريقيا)، وهن النساء اللواتي كن يقاومن عبوديتهن متوسلاتٍ في ذلك بالفن، من خلال مقاطع محضرة بدقة لأغانٍ كنّ يردّدنها وسط الأسواق وداخل المجالس المسائية الحميمة التي كن ينظمنها إبان تلك الفترة المعروفة بفترة "الجاهلية". وتمثل "القيّان" ثلاثة أصوات نسائية تستدعي أسطورة زمن ولّى؛ الزّمن الذي كان فيه الغناء والرقص وحفز رجال شبه الجزيرة العربية على الحلم يعد فناً موسيقياً قائم الذات. وبمشاركة من المغربيتين ليلى أمزيان وأنيسة رواس، وكصوت رئيس في المجموعة هو صوت نزيهة مفتاح، تمّ غناء "السناد" و"الحجازي". الأول بوصفه يتغنّى بمواضيع الكرامة والتمجيد والكبرياء، والثاني باعتباره يجنح نحو مواضيع التسلية والترويح على السامع. وعلى اعتبار أنّه لم يبق هناك من أثر موسيقي يدعم أغاني "القيّان"، فقد كان لزاماً على المجموعة أن تشغّل خيالها لاستحضار أجواء هذا الأثر المنقرض وخصيصاته. لذا، تمّ الاستعانة بموسيقيين ثلاثة، مغربيان من بلجيكا، هما: عبيد بحري، وهو عازف عود ومؤلف موسيقى، وعدي يحيى، وهو مدير فني، بالإضافة إلى فنان ثالث من الجزائر وهو الموسيقار سمير بندمرد. والثلاثة مولعون بالتاريخ والتراث الموسيقي، فضلاً عن أنهم يحملون مشروعاً فنياً ضمن مجموعة إحدى عشر موسيقياً عربياً وبلجيكياً. أما في الوقت الحاضر، فقد انخرطت نزيهة مفتاح في مغامرة فنية جديدة من خلال أدائها لأغانٍ تعتمد أشعار خالد رومو وعلامات مؤلفة الموسيقى وعازفة البيانو الفنانة غيث جاسر. وشكل الأخيران، وهما من سوريا، إلى جانب نزيهة مفتاح من المغرب مجموعة أطلقوا عليها اسم"وجد"؛ وهي المجموعة التي باتت تشق بخطى حثيثة سبيلها نحو التألق. ويعلم المتعاطون للتراث الصوفي الإسلامي أنّ لفظة "وجد" تحيل على حال من الافتتان الصوفي الذي يحصل أثناء "السماع"، سماع كلام الله وسماع الغناء الصوفي. ويشير "وجد" بالنسبة لنزيهة مفتاح إلى حالة عجز الروح على مقاومة اندفاعات الرغبة حينما تستحضر ذكرى المحبوب. ويعد ألبوم "المجاز"traversée الذي أصدره الثلاثي "وجد" بمثابة تاريخ لهذه المجموعة الثقافية والفنية التي يعيش أفرادها بباريس. وما بين الشعر والموسيقى، فإن صوت السوبرانو لنزيهة يفتننا من خلال ذبذباته، ويمضي بنا إلى اعتناق الأحلام الشفيفة والطموح إلى السمو الصوفي. ومن الحنين إلى الكآبة، تغني نزيهة الإنسان والألوهة في مقاربة فلسفية وعرفانية في الآن عينه. إنّ المسار الفني لنزيهة مفتاح متعددٌ، وواضح في التزامه، ومنفتحٌ ومتنوعٌ. تشارك الفنانة في محتلف مهرجانات وحفلات الموسيقى صحبة موسيقيين مرموقين من بلدان عدّة (بلجيكا، والمغرب، ولبنان، وتونس، وسوريا، وتركيا، والعراق..) ومن مسارات فنية مختلفة (الجاز، الكلاسيكي، الشرقي، الأندلسي). وخلال السنة االفارطة، شاركت نزيهة مفتاح في إطار مهرجان الموسيقى الروحية بفاس، مثلما شاركت في مهرجان أليغريا بشفشاون رفقة مارسيل خليفة. وينتظر أن تزور المغرب في غضون السنة الجارية للمشاركة في مهرجانات موسيقية أخرى، ولا سيما منها مهرجان "موازين" بعاصمة المملكة، الرباط(1).