يشكل ديوان "عناقيد الصمت" للشاعر "سعيد حرور" ظاهرة شعرية فنية وأنطولوجية متميزة، وجديرة بالقراءة؛ ذلك لقيامه على جملة من المكونات والسمات والمقولات والرؤى ذات أبعاد فنية وأسلوبية وأنطولوجية مستفزة وغنية ومتباينة في المرجع والدلالة والوظيفة والجهد. حيث تتضافر تضافرا تجديليا بانيا في اتجاه خلق وتوليد «الأدبية» النوعية والإجناسية المميزة لهذا الديوان. إن قارئ هذا الديوان سيلفي – لا شك – أن «أدبيته» لا تتأسس على المكونات والسمات والمقولات الأسلوبية النسقية الشكلية فحسب – كما قد يُفهم وكما قد فُهم من السيرورة السطحية للمفهوم منذ أن نحته جاكبسون - بل تتأسس – كما نرى- على التجديل والتضافر(1) بين هذه المكونات والسمات الأسلوبية الإجناسية النوعية (اللغة الشعرية والإيقاع الشعري والصورة الشعرية والانزياح وشعرية البياض والتوازي، والتناص...إلخ) وبين جملة من المحمولات الأنطولوجية التي تحملها الكينونة الشاعرة/ الحامل(2) بناءً على مقولة دلالية وتأسيسية وسيطة، تتوسط التجديل الحاصل بين مختلف هذه المكونات الأسلوبية والمحمولات الأنطولوجية وتنظمها وتبئرها؛ نقصد مقولة الزمان في أبعاده الأوغستينية الثلاثة: "حاضر الماضي/وعي الذاكرة" و"حاضر الحاضر/لحظة التنبه و"حاضر المستقبل/ لحظة التوقع ، التي تتجمع في مختلف قصائد هذا الديوان في لحظة "الآن"بوصفها لحظة الثبات أو لحظة الخلود كما عبر عنها بارمينيدس، بالنسبة إلى الكينونة الشاعرة في علاقتها بوجودها، و كذا لحظة الوعي الكائن الذي تنطلق منه هذه الكينونة الشاعرة في اتجاه تأسيس الوعي الممكن لمختلف القضايا الاجتماعية والإنسانية والوجودية التي تعالجها وتشكلها بالتجديل بين الثبات والتغير ، بناءً على الحدس النافذ بوصفه – على حد تعبير "هنري برغسون"- أساس الفن ، بعد أن يلحق حدودها بُعد من الأبعاد الثلاثة للزمان، والتي تجسد في النهاية- بناءً على هذا التجديل- رؤياها الشعرية الكلية، وطرق قولها العالم وتخييله وإعادة بنائه وتشكيله بعد فهمه وإدراكه. من هذا المنطلق إذن ما طبيعة الرؤيا الشعرية الكلية التي تبئر وتجسد وعي الكينونة الشاعرة وحدسها بالواقع وبالوجود في هذا الديوان؟ وما مظاهر التجديل الحاصل بين المكونات الفنية الأسلوبية وبين مختلف القضايا والمحمولات الأنطولوجية، المشكلة لأدبية الديوان، بناءً على مقولة الزمان الثلاثي الأبعاد، في صيغته التجديلية؟ 1-الرؤيا الشعرية والتوسط الزماني في ديوان عناقيد الصمت: "الرؤيا الشعرية شيء متمايز عن التجربة أو الرؤية العادية اليومية"- كمال أبو ديب إن المتأمل في ديوان "عناقيد الصمت" سيلفي أن رؤيا الكينونة الشاعرة تقوم على أساس وجودي محايث، وعلى خلفية تأسيسية ذات أبعاد ثورية نضالية إصلاحية ، تناضل فيها من أجل تحقيق القيم الإنسانية النبيلة: العدالة، المساواة، الحرية، التكافل الاجتماعي...وغيرها - وإن على مستوى الشعور والطموح والحدس- داخل أمة مغلوبة على أمرها، ومصابة بداء الهوان وعقدة الإحساس بنقص"الأنا"الضعيفة والمنكسرة والراضخة لقوة وعظمة وجبروت"الآخر الرمزي؛ أي محاولة تغيير العالم وإعادة صياغته من منطلق تخييلي مخصوص عن طريق عقيدة الرفض، هذا فضلا عن قيامها على عمق الإحساس بالضياع وبالمأساة الجمعية والإثنية للأمة من جراء التغيرات والاختلالات والتناقضات التي تتحكم في الوجود الأصيل والمحدود لهذه الأمة وتهدده بل وتحققه من خلال شبح المستقبل ما دام الإنسان عند مارتن هيدجر لا يتحقق وجوده الأصيل(3) إلا من خلال إدراكه الخالص أنه مشروع يتجه نحو الفناء /المستقبل؛ أي إدراكه لمحدودية وجوده، وهذا ما يتضح بجلاء من خلال هذا القول الشعري من قصيدة "هلم ياصديقي"(4): هلم يا صديقي نرتوي من سكون القمر نسبح في دوائر الصمت نتمدد على الشط قبل أن يأكل أجسادنا الدهر نصير لفظا بلا معنى وعلى رؤيا متنقلة ومرتحلة في الزمان بأبعاده التجديلية الثلاثة لتصوير التحول والتنافر والتناثر الذي أصاب جسد الأمة وسلب منها مركزيتها الحضارية والثقافية وسلطتها الرمزية، ومن ثم محاولة الجمع بين هذه المتنافرات والمتناثرات من خلال هذه الرؤيا التأسيسية المتنقلة لصياغة معالم فلسفية خاصة بهذه الكينونة الشاعرة: الماضي/ وعي الذاكرة كما هو الشأن من خلال هذا القول الشعري من قصيدة عروة(5): كان عروة لا ينكر جميلا ولا يرد ضعيفا كان نبيلا سامقا كالنخيل والحاضر/ لحظة التنبه: عروة أصبح له خدم وحشم يلبس عباءة الحرير ما عاد يسكن البراري ولا يشاطر الذئاب عروة دجنوا شيطان شعره ألبسوه كالنسوة الحرير فالمستقبل /لحظة التوقع: قالوا له كن كما شئنا واختر بين أن تكون دمية أو صبيا لا كما شئت وقد قامت هذه الرؤيا المأساوية المتنقلة في الزمان على عمق الإحساس بالتفوق الحضاري: هلم يا صديقي(6) نحن سر وجود الأرض والسماء تعالى نشم عبق اللغات يحكيها الرواة سير المجد والبطولات وكذا عمق الإحساس بالانتساب المكاني: هلم ياصديقي(7) من عدن كنت من بغداد...من حيفا من أي بلاد. وتتحكم في هذه الرؤيا الشعرية التأسيسية والثورية الإصلاحية والمرتحلة ثلاثة أنواع من التعابير- كما هو باد على مستوى البنية الشكلية للديوان-: تعبير ثوري صامت، أو بالأحرى مُصمَّت، وتعكسه جملة من قصائد العنقود الأول (الصمت) من الديوان، كقصيدة " باب سبتة" (8): بباب سبتة نمر عبر قضبان حديد كأسرى حرب أو زمر عبيد بباب سبتة جمركي يزبد يرغي يا أبناء الكلاب والبغاء تأدبوا ...تهذبوا وليكن في يدكم لون صفاء. وقصيدة"مواويل مع الريح" وقصيدة "بغداد"...وغيرها من القصائد الأخرى التي عكست بجلاء الرؤيا التأسيسية المحايثة المتنقلة للكينونة الشاعرة، الرافضة لكل مظاهر الظلم والاستبداد والاستغلال والانتهازية...إلخ المستفحلة في واقعها الاجتماعي وذلك في ثورة ساكنة صامتة. ثم تعبير ثوري آخر يحاول راغبا في الخروج من قمقم صمته، وقد عكسته ثلة من قصائد العنقود الثاني (الخروج من الصمت)، التي حاولت من خلالها الكينونة الشاعرة الإفصاح عن رفضها المطلق لمختلف المظاهر المرضية التي أصابت جسد الأمة وذلك في ثورة مبحوحة الصوت، مصابة بمختلف أمراض الكلام كما يتضح ذلك بجلاء في قصيدة"تحت الصفر" التي تعكس فيها الكينونة الشاعرة رغبتها العارمة في الخروج من غياهب صمتها المتمرد على صمته: جرد قلمك (9) ارفع علمك اجعل الحرف مغنمك والكلمات خنجرا إن الذل آلمك اكتب في السطر الأول لا...يرتعش الزبانية يكتئب السجان يسقط القيد مهان اكتب في السطر التالي حرية. . ثم تعبير ثالث خرج من صمته بانفجار عارم وغاضب وثائر على هذا الصمت، وعلى الواقع الاجتماعي للأمة كما هو باد في جملة من قصائد العنقود الثالث(انفجار الصمت)، من مثل قصيدة" عيون لا تنام" وقصيدة"صرخة" التي ثارت فيها الكينونة الشاعرة على صمتها وعلى صمت الأمة، ووصفت ثورة هذا الصمت وقوته العارمة الجارفة لكل مظاهر الظلم والاضطهاد والفساد: صرختك الدفينة في الصمت(10) دمك الدافق في شوارع المدينة ينبت الزهر ..الرياحين يشعل ثورة السكون يمزق الزيف يقتلع الأنصاب يحطم كراسي الجمود . وما هذه المراحل الثلاث من مراحل طبولوجيا التعبير إلا تجسيد للحضور التأسيسي والتجديلي لمقولة الزمان في أبعاده الثلاثة: " حاضر الماضي/وعي الذاكرة" الذي جسده نوع التعبير الأول، والذي حاولت فيه الكينونة الشاعرة تحيين وعيها السالف وإدراكها الخالص للقضايا الاجتماعية التي واجهتها بواقعها الخارجي في لحظة"الآن"، وذلك عن طريق الذاكرة التي تنطلق – على حد تعبير "القديس أوغستين"- من الماضي إلى الحاضر لتقيسه. ثم "حاضر الحاضر" الذي مثله النوع الثاني من التعبير، والذي يمثل بالنسبة إلى الكينونة الشاعرة لحظة التنبه أو الوعي الكائن،المؤسَّس على إدراكها الخالص لمختلف المظاهر الاجتماعية والوجودية، وعلى وعيها التام وحدسها الخالص بالصيغة التجديلية المشكلة لبعديه الزماني والمكاني؛ وذلك ما دام الإدراك الخالص – على حد تعبير إمانويل كانط- لا يتحين في الوجود إلا من خلال حدس خالص بالزمان والمكان/الفضاء. ثم "حاضر المستقبل"، الذي مثله النمط الأخير من التعبير والذي عكس التوقع أو الوعي الممكن، الذي تطمح الكينونة الشاعرة إلى تحقيقه في مشروعها التأسيسي الإصلاحي. الأمر الذي يعني أن الكينونة الشاعرة في هذا الديوان كانت-في رؤياها الشعرية الواقعية والثورية المرتحلة، والإصلاحية التأسيسية- تنطلق من لحظة "الماضي/وعي الذاكرة"(لحظة الخطيئة بالمعنى الديني) لمحاولة تعديلها وترميمها وتحيينها في لحظة "الآن")لحظة الجهد والعمل(، في اتجاه لحظة "المستقبل" (لحظة البعث والانبعاث والحياة الجديدة)، التي تشكل لحظة الوعي الممكن، ولحظة الإرادة و الرغبة في إعادة بعث الوجود العربي وبعث مركزيته الثقافية وهويته الحضارية وسلطته الرمزية، عن طريق تزمين كينونته الجمعية كي يحس بشبح المستقبل/ التوقع الذي يهدد وجوده الأصيل. 2- تمنع الكينونة الجمعية عن التزمين، واشتغال القلق الوجودي: إن المتأمل في هذا الديوان سيلفي أن هذه الرغبة في بعث الوجود الحضاري والثقافي والرمزي للأمة قد ظلت مقيدة ومحبوسة على مستوى حدس وطموح الكينونة الشاعرة فحسب ولم تتحقق فعليا، خاصة بعد فشلها عن طريق رؤياها الشعرية التأسيسية التنبؤية المتنقلة في تمكين الأمة الجامدة من الإحساس بحقيقة التهديد الذي يحوم حول وجودها الأصيل ويؤشر على محدوديته، وذلك من خلال تزمين كينونتها الجمعية، بل إن مظاهر الفساد الظلم والإقصاء...وغيرها قد ازدادت استفحالا وانتشارا في جسد هذه الأمة؛ الأمر الذي أحدث خلخلة في أفق انتظار هذه الكينونة الشاعرة ، وفي منطق أسئلتها وأجوبتها،بعدما غدت أكثر وعيا بوجودها الأصيل - بعد أن لحقها شبح الإخفاق الذي يحمل في بنيته حاضر المستقبل -، وولد لديها خيبة أمل من هذا الواقع المريض وقلقا أنطولوجيا من المستقبل/ المجهول، خيبة وقلقا أحست معهما بالغربة والاغتراب تطالها في كل شيء؛ في الوطن المصاب بداء الشبق والتائه -كما جاء في قصيدة" عيون لا تنام"-(11): في الدروب الطويلة والباحث عن ورود الخميلة في ليالي الأنس الجميلة وفي "المدينة"- بوصفها الوجه الحضاري والسياسي للأمة- التي رمتها التحولات الحضارية والسياسية وثقافة الآخر الرمزي بشتى أنواع الشر والتسلط والصخب والاستبداد الفساد...وغيرها، ومن ثم فقدت أصالتها وهويتها الحضارية، فلا هي تنتمي إلى الهوية الحضارية لل"الأنا" ولا إلى الهوية الحضارية لل"الآخر" بل غدت خليطا هجين البنية بشع التركيب بين هذا وذاك، وقد تجسد هذا الضرب من الغربة بشكل جلي في قصيدة"يوميات مرتيل"؛ وذلك كما هو باد من خلال هذا القول الشعري(12): لا تفتحي فخديك فهذا الساحل الممتد على الجراح قد يعاديك... يعاديني وفي قصيدة"مدينة الأشباح" المزدانة بمظاهر الشر والسراب والخراب والدمار والفناء؛ وذلك كما هو باد من خلال هذا القول الشعري(13): من مدينة الأشباح وواحات السراب عصْف الرياح وقصْف الرعود تصاعد الدخان مصرع الأسود. وغيرها من القصائد الأخرى التي تعكس بجلاء وبطريقة فنية ومكر تخييلي الإحساس بالغربة والقلق الأنطولوجي لدى الكينونة الشاعرة تجاه هذا الضرب من مدن السبات والعدم- على حد قولها في قصيدة "عيون لا تنام"-. ولم يتوقف الإحساس بالغربة عند حدود الوطن والمدينة ، بل تجاوزهما إلى الغربة في "الزمان"؛ زمان الحاضر/ لحظة التنبه وما تفشى فيه من الرذائل وانتهاك الحقوق والحرمات كما تنعته الكينونة الشاعرة في قصيدة " الزمن الأغبر"، وذلك بعد إدراكها على مستوى الوعي للتناقض والمفارقات التي يقوم عليها نظام الزمن من خلال أبعاده الثلاثة: الماضي لحظة الصفاء والنقاء / اللحظة النموذج، والحاضر:لحظة الفساد والظلم والاستبداد والديكتاتورية والرقابة والقمع...وغيرها، ولحظة المستقبل: لحظة المجهول المنتظر والغياب غير المنمط. وإلى الغربة في "الحب" الذي يحمل في بنيته مختلف أبعاد الحقائق الغائبة وينمطها، والذي يمثل بالنسبة إلى الكينونة الشاعرة - خاصة في قصيدة "أخاف"- تجربة ملغومة بالمخاطر والإخفاقات والزيف والمجهول والمتاهات...وغيرها، وذلك بعد فشلها في تشكيل علاقة حميمة مع المرأة بأبعادها الرمزية، فالحب تحول إلى مرارة مميتة، فلا وجود لامرأة تحقق لهذه الكينونة الشاعرة ذاتها، وتعيد لها توازنها العاطفي والفكري. وكذا الغربة في "الكلمة"، التي ترى الكينونة الشاعرة أنها لم تعد لها سلطة التغيير مثلما كانت لها مع الشاعر العربي القديم ، وذلك بسبب التغيير الذي طرأ على بنية الوعي لدى الإنسان العربي، وعلى طريقة تفاعله مع سلطة القول الشعري، وكذا بسبب تصلب أجهزة القمع والرقابة العربيين وتحجرها، وتسلطها على أفكار الناس، وتوسيعها لحيز " المستحيل التفكير فيه" كما جسدتها مجموعة من القصائد؛ من قبيل قصيدة"اكتمال المشاهد"، حيث تصرح الكينونة الشاعرة ثائرة وساخرة: قبة مجلس الانفتاح(14) تروضنا على الانبطاح تشرع أبوابنا للغرباء وتبيع أرضنا تلقننا صنوف المدح وجميل الثناء وتزجرنا إن زل اللسان بالهجاء. 3- قلق الهوية واحتماء الذاكرة بالمقدس: " كل شعر ذو منشأ ديني"- فردريك نيشه إن القلق الأنطولوجي في صورته السالفة سيدفع الكينونة الشاعرة إلى البحث عن الخلاص من هذه الغربة وذاك القلق خارج دائرة وجودها الاجتماعي المتصلب والمتحجر والمنهزم والمغلوب على أمره، خلاصا ستجده –كما هو باد في الديوان- في الذاكرة الجمعية وفي اللاشعور الجمعي للأمة؛ فأما الخلاص المتعلق بالذاكرة الجمعية فقد جسدته الكينونة الشاعرة في لحظة زمنية ماضية تمثل بالنسبة إليها وإلى ذاكرة الأمة لحظة الصفاء والنقاء والعدل والتكافؤ والتفوق والهيمنة الحضارية الثقافية والإيديولوجية والرمزية...وغيرها أو "اللحظة النموذج"، وهي لحظة النبوة التي ترى الكينونة الشاعرة في عودتها لحظة الخلاص القادرة على بعث الأمة المهزومة والمنهارة، وبعث قيمها الحضارية والسياسية والثقافية والدينية النبيلة من جديد، وعلى إعادة تشكيل مركزيتها الرمزية إيديولوجيا وحضاريا وثقافيا، وذلك كما هو باد من خلال هذا القول الشعري من قصيدة "عودة"(15): أعائد يا محمد ؟ لم لا تعود؟ الظلم ساد الكفر يسود وأما الخلاص المتعلق باللاشعور الجمعي؛ فتمثل أساسا في محاولة الكينونة الشاعرة إحياء ظاهرة متواترة عبر اللاشعور الجمعي للمجتمع العربي ولغيره من المجتمعات الإنسانية الأخرى؛ وهي "الظاهرة الطوطمية" التي كانت تقوم على تقديس الأشياء التي تعتقد فيها هذه المجتمعات أنها تستطيع أن تحفظها من المجهول، فتقوم بتعليقها على الأعناق، أو تعتقد أنها تحفظ لها تاريخها وآثارها، ومن ثم تقوم بتعليقها بالأماكن المقدسة؛ ذلك مثلما هو الشأن بالنسبة إلى المعلقات الشعرية العربية التي عُلقت على جدار الكعبة، وإلى ملحمة جلجامش التي وُضعت في معابد آشور بأمر من ملكها " آشور بن بعل"، وكذا إلى قصيدة" الأولمبية السابعة" للشاعر الإغريقي "بندار" التي عُلقت بمعبد الآلهة بأثينا، بعد أن كُتبت بماء الذهب. بيد أن الطوطم الذي رأت فيه الكينونة الشاعرة في هذا المقام خلاصا ينسيها- ولو لحين- في المجهول والغياب غير المنمط/ مستقبل الأمة، ويقلص من مساحة مركب نقصها من جراء الخيبات المتتالية التي مست وعيها الخالص المحين في واقع الأمة وحاضرها، فقدسه وأمرت أبناء الأمة بتعليقه والتبرك به لم يحفظ تاريخ الأمة فحسب، بل إنه كتب لها تاريخا جديدا أيضا واستطاع أن يفعل ما لم يستطع ساسة الأمة من "عروة"، و"عباس" "ونسور الكارتون" و"والي مدينة الأنوار" وغيرهم...فعله؛ لقد استطاع هذا الطوطم المقدس أن يرد الاعتبار إلى الأمة المنهارة ويكسر جبروت بائعي الوطن والقضية. إن هذا الطوطم المقصود هو ذاك الحداء العربي المقدس الذي كتب تاريخا جديدا للأمة منذ ذاك اليوم الذي استطاع فيه أن يكسر ويحطم كبرياء وجبروت "بوش" الابن ومن معه من ال"نحن" المتزلفين والمتملقين ولصوص كعكة الوطن والأمة، وذلك كما هو باد من خلال هذا القول الشعري من قصيدة "قُدس الحذاء"(16): قسما..قسما الجد في محياك ارتسم انضاف إلى المعلقات علو القدم كان الدليل يغرب منسيا فأحيا فيه الحذاء جدوة الندم الحذاء يكتب التاريخ قدس الحذاء سقط الصنم الحذاء سيف وفم وكروش الحوامل من خوفها أصدرت نغم علقوا الأحذية ومن هنا يتضح الحضور القوي للماضي أو بالأحرى لمستقبل الماضي على مستوى الوعي، وهيمنته على الحاضر وتعويضه، بل وامتداده إلى المستقبل واحتوائه، وذلك تعويضا عن الحاضر المرفوض وتأكيدا للذات وردا للاعتبار إليها.ومن هذا المنطلق صارت الوسيلة غاية والغاية وسيلة؛ أي تحول الماضي من وسيلة يتم الاتكاء عليها قصد النهوض من غياهب الذل والهوان والتخلف، إلى غاية أصبح فيها هذا الماضي المشروع الحقيقي لهذه النهضة التي تتصورها الكينونة الشاعرة، وإن على مستوى الحدس، ومن ثم غدا استشراف مستقبل الوجود الجمعي والإثني والإيديولوجي للأمة بالنسبة إليها يقاس على هذه الرؤية الماضوية بوصفها رؤية تأسيسية للمشروع النهضوي القومي؛ أي محاولة الكينونة الشاعرة إقامة وصل إبيستيمولوجي بين مستقبل الماضي كما عاشه أجدادنا، ومستقبل الحاضر كما يجب أن نعيشه نحن. إن هذه الرغبة في الاحتماء بالمقدس من القلق الأنطولوجي، ومن المجهول والغياب غير المنمط التي عكستها الكينونة الشاعرة في هذا الديوان، هي عبارة عن تجسيد حقيقي للوعي الخالص لها بنقص وجودها، ما دامت الرغبة في الفكر الأفلاطوني تعكس نقص الإنسان الذي يعكس بدوره نقص العالم المتشظي والمشتت والمتناقض التركيب والهجين البنية، الذي حاولت الكينونة الشاعرة هنا جمع شتاته وتناقضاته، ثم إعادة صياغته وإعطائه شكلا جديدا وفق قول تخييلي مخصوص، يؤشر على رؤياها الخاصة والكلية إلى العالم، وذلك بناء على جملة من التوسطات الرمزية التي تتوسط الذات/ الكينونة الشاعرة وموضوعها/الوجود العربي وقضاياه الداخلية والقومية، ما دام العمل الأدبي- على حد تعبير مارتن هيدجر- لا ينتمي إلى العالم، وإنما العالم ماثل فيه، ذلك إذا ما أدركنا أن موضوع الأدب – على حد قول عبد الرحيم جيران- هو قول نقص العالم وفق طرائق تخييلية مخصوصة. تلك إذن بعض الجوانب الأنطولوجية المتباينة في المرجع والدلالة والجهد، وفي طرق تمثل العالم وإدراكه والكشف عن تناقضاته المؤشرة على نقصه، التي تضافرت تضافرا تجديليا لإعادة جمع شاتات هذا العالم وإعادة بنائه وصياغته وفق طرائق تخييلية خاصة، والتي نزعم أنها شكلت "أدبية" ديوان عناقيد الصمت بناء على مقولة الزمان الثلاثي الأبعاد في صيغته التجديلية، ذلك على نحو ما عكسته الرؤيا الشعرية الكلية والعميقة للشاعر "سعيد حرور"، مثلما عكسته في الديوان السالف"نبضات تحت الرماد". بيد أن نظرتنا هذه – لا شك- تبقى قاصرة، مادام النص الأدبي عبارة عن ظاهرة مركبة من مختلف الأبنية والأنساق المتشظية والمتناقضة، المشكلة للعالم الماثل فيها على نحو مخصوص. الهوامش: (1)- لقد استعرنا هذا المفهوم من المشروع النقدي المحكم، الذي طرحه الناقد والمفكر عبد الرحيم جيران بديلا منهجيا في نظرية الأدب المعاصرة.كما سنستعير منه جملة من المفاهيم الأخرى المجسدة لتصوره الخاص بالأدب والفن، سواء المثبتة في كتاب: "في النظرية السردية. أو المثبتة في كتاب" إدانة الأدب". (2)-لا نقصد بمفهوم الكينونة الشاعرة الشاعر في بعده البيولوجي الفيزيقي، بل نقصد به ذاك البعد الثابت/ الجوهر الذي تتأسس عليه الرؤيا الشعرية الكلية والعميقة للشاعر والذي يحمل في بنيته التأسيسية مجمل المحمولات/ العرض المتباينة في مرجعها ودلالتها، والمشكلة لهذه الرؤيا الكلية؛ أي إنه يطابق ما يعرف في المنطق بالحامل. (3)- يرى هيدغر أن الوجود الأصيل لا يتحقق إلا من خلال توقع الإنسان لمحدودية وجوده من دون أي غموض عبر إمكاناته الذاتية الصحيحة، ومن دون الخيارات السهلة والقريبة منه كرغد العيش وتجنب المواجهات واللامبالاة ...وغيرها. (4)- حرور، سعيد، عناقيد الصمت، مطبعة إمبريما مادري، تطوان، الطبعة الأولى، 2010، ص، 52. (5)- نفسه، ص، 30. (6)- نفسه، ص، 52. (7)- نفسه، ص، 53. (8)- نفسه، ص، 22. (9)- نفسه، ص، 98. (10)- نفسه، ص، 127. (11)- نفسه، ص، 125. (12)- نفسه، ص، 114. (13)- نفسه، ص، 55. (14)- نفسه، ص، 81. (15)- نفسه، ص، 48. (16)- نفسه، ص، 153.