بعد أن ينتج الشاعر قصيدته وينقحها تخرج لتتداولها الجماهير، وتصير بين يدي النقاد ليحكموا عليها إن بالجودة أو الرداءة، ويكون هذا الحكم مبنيا على ما تعارف عليه المبدع والمتلقي من شرائط واعتبارات وسنن، يُلزم المبدع بأخذها بعين الاعتبار عند الإبداع، ويتخذها المتلقي معيارا يحكم به على ما أنتجه الشاعر. وللشعر خصائصه التي تميزه عن صنوف القول الأخرى، وله بعد ذلك شرائط ومعايير تميز الجيد من المتوسط من الرديء، وهذه الشرائط تشمل اللفظ والمعنى والتركيب، كما تشمل الوزن والقافية، زد على ذلك شكل القصيدة وهندستها والتئام أجزائها، وضمن هذا كله نجد ما ينبغي على الشاعر اتباعه من نعوت، وما يجدر به اجتنابه من عيوب، حتى يحصل في نهاية المطاف على شعر يوصف بالجودة وينعت بالحسن، بالغا مرقاة التمام، حائزا على درجات الكمال النوعي. والشعر في حقيقته خليط من أمور كثيرة بالغة التداخل والتواشج والتعقيد، والزلل في شيء منها قد يردي بالشعر في مهاوي الرداءة والغثاثة، لذا ينبغي للشاعر أن يحرص على أن يخرج إبداعه في صورة مكتملة ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولا يكون ذلك إلا باتباع السنن المتعارف عليها والابتعاد عما نُهي عنه من عيوب لفظية وتركيبية معنوية وإيقاعية. والذي يمكن الخلوص إليه أن الشاعر كان يوجد ضمن سياج محكم يدور في فلكه لا يملك الخروج عنه، وإن هو فعل ذلك جر وراءه سخط الجماهير والنقاد، وحكم على إبداعه بالفشل، لهذا نفسر سبب عزوف طائفة غير يسيرة من النقاد عن شعر المحدثين، لما رأوا فيه من تطاول على الأسلاف، وخروج عما تعارفت عليه العرب في نظمها وإبداعها. وعليه يكون الشاعر ملزما بطريقة أو بأخرى أثناء لحظة الإنتاج وتنقيح الإبداع أن يضع في حسبانه السنن المتعارف عليها في إبداع الشعر ،ونفرق هاهنا بين سنن وشروط داخلية ترتبط بداخلية النص وبنيته وشروط خارجية ترتبط بالخارج أي بمتلقي النص جمهورا كان أم نقادا أم بلاغيين،وهاهنا محاولة لرصد وجرد وتتبع هذه الشرائط والسنن التي تضمن للنص شعريته ومن ثم جودته، وتجعله في نهاية المطاف مقبولا لدى من يتلقاه. - المبحث الأول: شروط الجودة الداخلية: وضع نقاد الشعر جملة من الشروط التي إن اتبعها الشاعر كان إبداعه حائزا على مراتب الشرف،وميزوا في ذلك بين الشروط التي تمس جانب اللفظ والمعنى و السنن التي تخص جانب الوزن والبناء والنظم،وفيما يلي حديث مفصل أو مقتضب عن هذه الشروط: 1- عناصر عمود الشعر: يقوم الشعر الجيد في عرف النقاد القدامى على مدى مراعاة عناصر عمود الشعر التي تعتبر أس الشعر الجيد، وبقدر مراعاتها وتمثلها تحصل الجودة، وقد حدد المرزوقي هذه المعايير في مقدمته على شرح الحماسة، وحصرها في سبعة عناصر؛ تشمل ما هو لفظي ومعنوي و ما هو تركيبي وإيقاعي وتخييلي، استقاها من تتبع آراء النقاد وأشعار الشعراء، وهي) ( - شرف المعنى وصحته، - جزالة اللفظ واستقامته، - الإصابة في الوصف، - المقاربة في التشبيه، - التحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، - مناسبة المستعار منه والمستعار له، - مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائها للقافية حتى لا منافرة بينهما. ولكل عنصر من هذه العناصر معيار معين، والشاعر المفلق والحاذق هو من يحتال في أن يضمن شعره أكبر قدر من هذه العناصر، لأنه بذلك يضمن لشعره قدراً من الجودة، فبقدر التزام هذه العناصر يتدرج الشاعر في سلم النجاح والتفوق ويكون نصيبه من الإحسان والتقدم " فمن لزمها بحقها وبنى شعره عليها، فهو عندهم المغلق المعظم، ومن لم يجمعها كلها فبقدر سهمته منها يكون نصيبه من التقدم والإحسان") (. ولأهمية هاته العناصر نقف عندها وقفة نتكئ فيها على ما كتبه شكري المبخوت في كتابه " جمالية الألفة" عن عناصر عمود الشعر ، التي جمعها في أربع سنن هي: أ-سنة اللفظ: ويشترط في اللفظ الجزالة، وتعني أن يكون اللفظ "مما جرى استعماله في العرف الأدبي") ( وأن تكون "هيئة اللفظ وبنيته الصوتية مألوفتين في الأذن لا كراهة فيه عند النطق، وأن يطابق اللفظ الجزل الأغراض التي يعبر عنها") ( هذا بالنسبة لشرط الجزالة، أما فيما يخص شرط الاستقامة فعماده "صحة اللفظ صيغة، وتوخيها القواعد المرسومة والضوابط القياسية القائمة واتباعها للهيئات الدالة على معنى عند التلعب بالحروف، وثانيها دلالي يتطلب إبانة اللفظ للمعنى دون زيغ عن القصد فلا يقصر تقصيرا يعطل الدلالة، ولا يتزيد تزيدا يؤدي إلى الحشو، ولا يلبس تلبيسا يفضي إلى الإحالة") (، وللفظ بعد هذا نعوت وشروطه بتحققها يؤدى المعنى تأدية جيدة، منها " أن يكون سمحا، سهل مخارج الحروف من مواضعها، عليه رونق الفصاحة، مع الخلو من البشاعة") (، وجملة الأمر ينبغي للفظة بعد أن تتوفر فيها سائر هذه النعوت أو بعضها، أن تقع موقعها من النظم بمحاذاة جاراتها، وألا تكون نابية حتى تستفرغ كل طاقاتها الدلالية، ذلك أن اللفظة لا تدل بنفسها بل بمعية ألفاظ في سياق أو تركيب معين. ب- سنة النظم: وفيها يشترط الالتحام والالتئام والمشاكلة، ويتم التركيز على مستويين اثنين هما: مستوى اللفظ ومستوى الوزن، وفيما يخص اللفظ على المبدع أن يختار المعجم الذي يناسب الغرض الذي يقول فيه، ذلك أن للمدح معجمه وللفخر معجمه وللهجاء معجمه وهكذا دواليك، وينبغي انتهاء أن يؤدي اللفظ والمعنى إلى القافية، فتكون تتويجا لمسار البيت المعنوي والإيقاعي معا، فتقع في موقعها متمكنة غير قلقة ولا نافرة. أما على مستوى الوزن فالشرط أن يختار الشاعر من لذيذه الذي "يطرب الطبع لإيقاعه، ويمازجه بصفائه") (، ويحصل هذا الشرط بتجنب الإفراط "في الجوازات التي سمح بها العلماء في باب التزحيف") (، وزيادة على ما سبق نجد أن الوزن الذي هو أعظم أركان الشعر يرتبط ارتباطا وثيقا بالغرض الذي يعبر عنه، كما يرتبط بنفسية الشاعر وتقلبها بين السرور والحزن؛ فغرض المدح والرثاء يتطلبان النظم على بحور ذات نفس طويل ومساحة أوسع وتفاعيل كثيرة، بخلاف أغراض كالنسيب أو الوصف أو أغراض مما تتطلب بحورا خفيفة سريعة تتماشى وروح الخفة والمرح التي تطبع وتميز هذه الأغراض. ج- سنة المعنى: وتضم خاصيتي الشرف والصحة، وتتحدد شروط الشرف في: الابتكار، ومطابقة المعنى للغرض، والسبك الجيد على نحو يؤثر في السامع وينفذ إلى وهمه) (، ومما ينبغي الإشارة إليه والتنبيه عليه أن الشرف "لاينحصر في ذكر الخصال ' الممدوحة' دون 'المذمومة' أو 'الفضائل' دون 'الرذائل' ، فالشرف رهين وضع المعنى في المحل المناسب والحال الملائمة") ( والصحة ترتبط بالمعنى الشريف ارتباطا وثيقا، وهي "مقابلة للإحالة") (، ذلك أن الشاعر في تأدية معانيه ينبغي أن يتجنب الإحالة والإغراق المفضيين إلى التشويش على المتلقي وعدم تمكن المعنى من ذهنه، لأنه كلما أغرب الشاعر في معانيه وابتعد عن الواقع بمسافات بعيدة إلا ووقع في الإحالة وابتعد عن الصحة. د- سنة الصورة الشعرية: وتجمع هذه السنة ثلاثة أبواب هي : الوصف والتشبيه والاستعارة، وشرط كل باب على التوالي: الإصابة والمقاربة والمناسبة، ولا شك أن جمع هذه الأبواب في سنة واحدة يعود لما بينها من قرابات وأواصر وفوارق دقيقة "فالاستعارة عندهم مشتقة من التشبيه وكلاهما عمدة الوصف والتصوير") (زد على ذلك ما بين شروطها من تقارب؛ فالإصابة والمقاربة والمناسبة تصب كلها في عدم الإغراق والإحالة والغلو المفرط الذي يمكن أن ينتج ضبابية في الفهم والتقبل. ومما سبق يتبين أن عمود الشعر يتجه للمبدع والمتلقي معا فهو "يحدد للكتابة سننها الواجبة الاتباع، وللقراءة وسائل إدراكها لجودة النص أو إساءته") (، وبقدر استجابة المبدع لشروط الكتابة وسننها يكون نصيبه من الحسن أو الإساءة "فطالما استجاب الشاعر لشروط الكتابة المتفق عليها كان نصيبه من الجودة كبيرا، وكلما اخترق الحدود وأوغل في التعدي على الرسوم انحط درجة") (. 2- التلاحم والترابط: من شروط الشعر الجيد أن يكون متلاحما مترابطا متناسقا، وهذه الشروط تأتيه من تضافر ما هو لفظي بما هو معنوي، و ما هو تركيبي بما هو إيقاعي، بحيث تكون أجزاء القصيدة آخذا بعضها برقاب بعض، منتظمة في خيط ناظم لا تنفرط حباته، لا تحس وأنت تقرؤها بانقطاع او خلل أو طفرة أو بتر، بل سلاسة وانسيابية، وهذا من علائم الشعر الحائز على درجة الجودة،ف "أجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه أفرغ إفراغا واحدا، وسبك سبكا واحدا؛ فهو يجري على اللسان كما تجري الدهان") (، وإذا كان الشعر على هذه الشاكلة "لذ سماعه، وخف محتمله، وقرب فهمه، وعذب النطق به، وحلي في ضم سامعه") (، والحقيقة أن شعرا كهذا ينبغي أن تراعى فيه ضوابط عدة؛ من جزالة لفظ، ودقة معان، وحسن خروج، ولطف تخلص، واستواء نظم، واجتناب ضرورات،فيأتي الكلام منطلقا منسابا في يسر وإسماح لا يحبسه حابس، لهذا نصح النقاد الشاعر بأن يجتنب" ارتكاب الضرورات، وإن جاءت فيها رخصة من أهل العربية، فإنها قبيحة تشين الكلام وتذهب بمائه") ( وأن يضع الكلمات في موضعها المناسب حيث "تقتضي كل كلمة ما بعدها، ويكون ما بعدها متعلقا بها مفتقرا إليها") ( وهنا تتحقق الوحدة العضوية بين أجزاء القصيدة كلها فتصير القصيدة كلمة واحدة. وخلاف الشعر المتلاحم الأجزاء الشعر المتنافر المتباين، الذي إذا كان على هذا الشاكلة" عسُر حفظه وثقل على اللسان النطق به، ومجته المسامع، فلم يستقر فيها منه شيء") (، ويكون في تفرقه وعدم انتظامه كبعر الكبش أو أبناء العلة، وهكذا ينطبق عليه قول الشاعر : وبعض قريض القوم أبناء علة يكد لسان الناطق المتحفظ كما يسري قول أبي البيداء الرياحي: وشعر كبعر الكبش فرق بينه لسان دعي في القريض دخيل) ( والملاحظ في البيتين الدقة في تمثيل تنافر الشعر وتباينه وعدم انسجام مكوناته، تنافر وتباين يشبه تنافر أبناء العلة الذين هم من أب واحد وأمهات متفرقات، ويشبه تفرق بعر الكبش. ومن التمثيلات الجميلة لتلاحم أجزاء القصيدة بعضها ببعض، تشبيههم القصيدة في تلاحم أجزائها بالإنسان في دقة اتصال أعضائه ف" من حكم النسيب الذي يفتتح به الشاعر كلامه أن يكون ممزوجا بما بعده من مدح أو ذم، متصلا به، غير منفصل عنه، فإن القصيدة مثلها مثل خلق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر وباينه في صحة التركيب غادر بالجسم عاهة تتخون محاسنة وتعفي معالم جماله") (. ومن معالم التلاحم والتمازج والالتئام أن تكون الكلمة واقعة في موقعها، وأن يكون الكلام كله على نسق واحد في القوة أو الدماثة وفي الرقة أو الجزالة فإذا أسس الشاعر " شعره على أن يأتي فيه باللام البدوي الفصيح لم يخلط به الحضري المولد، وإذا أتى بلفظة غريبة أتبعها أخواتها، وكذلك إذا سهل ألفاظه لم يخلط بها الألفاظ الوحشية النافرة الصعبة القيادة") (، ومن شروط الكلام أيضا أن يكون "مشتبها أوله بآخره، ومطابقا هاديه لعجزه، ولا تتخالف أطرافه، ولا تتنافر أطراره، وتكون الكلمة منه وموضوعة مع أختها، ومقرونة بلفقها، فإن تنافر الألفاظ من أكبر عيوب الكلام") (، والشاعر الحاذق الخبير بمضايق الكلام هو من يحرص على أن يكون شعره لحمة واحدة، فيحتاط في إبداعه، ويقول البيت وأخاه، ويضع كل كلمة في موضعها المناسب، وهو إن فعل ذلك كان شاعرا، فمن معايير الشاعرية الحقة المتعارف عليها أن توضع الكلمة مع لفقها في النظم، لهذا السبب كان أحد المعلمين محقا عندما وجه متعلميه قائلا" إذا وضعته الكلمة مع لفقها كنتم شعراء ") (، وهو أمر صعب التحقق، يحتاج إلى تمرس ودربه وطول ممارسة، كما يتطلب زمنا غير يسر من التدبر والنظر والمعالجة والتصحيح للأثر الشعري. 3- التعديل بين الأقسام: إن التعديل بين أقسام القصيدة مدخل حقيقي لتحقيق الجودة ونجاح القصيدة، والتعديل في حقيقته لا يعني المساواة العددية بين الأبيات في غرض معين، بقدر ما يعني عدم طغيان قسم على آخر بحيث يكون شكل القصيدة ومحتواها بادي الخلل منعدم التناسق، والشاعر المجيد في عرف النقاد هومن "عدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحدا منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمل السامعين، ولم يقطع وبالنفوس ظمآء إلى المزيد") (،فالإجادة إذن تتطلب تعاملا خاصا وذكيا مع قضية التعديل بين أقسام القصيدة، ومن هذا ألا يفرغ الشاعر كل طاقته منذ الوهلة الأولى، ويذهب كل مادته في النسيب وهو بصدد المدح، كما حصل لبعض الرجاز عندما مدح نصر بن سيار والي خرسان لبني أمية " بقصيدة تشبيبها مائة بيت، ومديحها عشرة أبيات، فقال نصر: والله مابقيت كلمة عذبة، ولا معنى لطيفا إلا وقد شغلته عن مديحي تشبيبك، فإن أردت مديحي فاقتصد في النسيب، فأتاه فأنشده: هل تعرف الدار لأم الغمر دع ذا و حبر مدحة في نصر فقال له نصر: لا ذلك ولا هذا، ولكن بين الأمرين") (، فما وقع لهذا الراجز هو أنه نسي أنه بصدد المدح فأطال في النسيب، الذي هو في عرف الشعراء والنقاد مدخل يؤثث به الشاعر عادة قصيدته للدخول إلى الغرض الرئيسي، وقد تنبه الممدوح إلى الخطأ الذي وقع فيه الراجز الذي استنفد كل الكلمات العذبة والمعاني اللطيفة في نسيبه ولم يبق شيئا للمديح، وهو ما يدل على الوعي النقدي الذي كان حاضرا عند بعض الأمراء والخلفاء. وشبيه بهذه الحادثة ما وقع لعمر بن العلاء عندما مدحه أبو العتاهية فأعطاه العطاء الجزل وخلع عليه ما خلع، مما أثار حفيظة وغيره من الشعراء فرد عليهم قائلا "عجبا لكم معشر الشعراء، ما أشد حسد بعضكم لبعض، إن احدكم يأتينا ليمدحنا فينسب في قصيدته بصديقته بخمسين بيتافما يبلغنا حتى تذهب لذاذة مدحه ورونق شعره، وقد أتى أبو العتاهية فنسب في أبيات يسيرة، ثم قال: الأبيات") (. والمستفاد من هذه النصوص أن الشاعر ينبغي أن يحسن بناء قصيدته، وذلك بأن يعدل بين أقسامها تعديلا متقنا، وألا يطيل قي قسم أكثر من اللازم، لأن ذلك يمكن أن يدخل الملال على السامع ويصرفه عن الانتباه فلا يتحقق المقصود، زد على ذلك ما يمكن أن يحدثه أمر مثل هذا من نفاد للمعاني والكلمات فتذهب اللذاذة والرونق والعذوبة، ومن حرص النقاد على تعديل أقسام القصيدة وجدناهم يشبهون القصيدة في حسن اعتدالها وتناسق أجزائها بالإنسان في استواء خلقته. 4- المبدأ والخروج والنهاية:) ( أ- المبدأ: إن الشاعر المبرز هو من يحسن افتتاح قصائده لأن "حسن الافتتاح داعية الانشراح ومطية النجاح") (، وكلما كان الافتتاح متقنا حسنا ملك به الشاعر أزمة الآذان وصرف نحوه الأسماع وثنى ناحيته الأعناق وحقق المراد، فكان ذلك مطية لنجاح شعره، ويعود سبب الدعوة إلى تجويد الابتداء إلى كونه " أول ما يقرع السمع، وبه وبه يستدل على ما عنده من أول وهلة") (، لذلك نصحوا الشاعر بتجنب الابتداء ب "ألا" و "خليلي" و "قد" والرغبة عن التعقيد) (،كما ينبغي للشاعر أن "يحترز في أشعاره ومفتتح أقواله مما يتطير به أو يستجفى من الكلام والمخاطبات كذكر البكاء ووصف إقفار الديار، وتشتيت الألاف، ونعي الشباب، وذم الزمان، لاسيما في القصائد التي تتضمن المدائح والتهاني") (، وأن يحرص كل الحرص على أن يكون ابتداؤه "حلوا سهلا، وفخما جزلا") (، ويختلف الشعراء في طريقة الافتتاح، فمنهم من يجعل من النسيب غايته و وكده في كل ابتداء، ومنهم "من يجعل لكلامه بسطا من النسيب، بل يهجم على ما يريد مكافحة، و يتناوله مصافحة") (، ولا شك أن قضية الابتداء بالنسيب أو عدمه تفرضها طبيعة الغرض العام للقصيدة، ذلك أن هناك أغراضا يقبح الابتداء فيها بنسيب كالرثاء مثلا، وإذا كانت مذاهب الشعراء تختلف في الابتداء والافتتاح، فإنهم كذلك يختلفون في الإجادة، فقد كان أبو تمام "فخم الابتداء، له روعة وعليه أبهة") (، وعرف عن أبي الطيب أنه "ربما عقد أوائل الأشعار ثقة بنفسه وإغرابا على نفسه") (، وكان من أحسن الشعراء ابتداء، والشعراء الذين برعوا في الابتداء كثيرون لا يحصيهم العد منهم امرؤ القيس والنابغة، وبشار، والبحتري ( على خلاف بين النقاد)، وأبو نواس وغيرهم. ب- الخروج: الخروج في عرف النقاد"أن تخرج من نسيب إلى مدح أو غيره بلطف تحيل، ثم تتمادى فيما خرجت إليه") (، وقد كان أبو الطيب أكثر الشعراء استعمالا لهذه الفن و أولهم ضربا فيه بسهم، ومن الناس من يسميه تخلصا، وعلى الشاعر في الخروج أن يراعي الاتصال بما سبق من الكلام حتى لا يقع في الطفر والانقطاع فيكون انتقاله من السابق إلى اللاحق في يسر وإسماح يتطلبه المقام ويستدعيه. ج- الانتهاء: يعد الانتهاء "قاعدة القصيدة، وآخر ما يبقى منها في الأسماع، وسبيله أن يكون محكما") (، وذلك بأن يأتي الشاعر على ذكر كل ما يتعلق بغرضه وما بدأه، دون أن تبقى النفس متعلقة بمعنى، ولهذا السبب وغيره حذر النقاد من مغبة ختم القصيدة " والنفس بها متعلقة، وفيها راغبة مشتهية، ويبقى الكلام مبتورا كأنه لأم يعتمد جعله خاتمة") (، لأنه إن فعل ذلك هدم كل ما بناه في ابتدائه وخروجه وسائر أبواب قصيدته، لذلك فالإجادة تنسحب على كل الأبواب دون استثناء. انطلاقا مما سبق يعد التجويد في هذه الفصول الثلاثة دلالة على تمكن الشاعر من صنعته وإحكامه لها ومدخلا حقيقيا لتحقيق الجودة في أداء المعاني، ونشدان غاية الإحسان "فالشاعر الحاذق يجتهد في تحسين الاستهلال والتخلص وبعدها الخاتمة، فإنها المواقف التي تستعطف أسماع الحضور وتستميلهم إلى الإصغاء") (. 5 - الأغراض الشعرية : الضوابط والشروط لكل غرض شعري ضوابط تحكمه وتميزه عن الأغراض الأخرى، كما أن لكل غرض معجمه الخاص الذي يمتح منه ويغرف ، وأوزانه التي يسلس النظم عليها، لذا فالشاعر الحاذق المجود هو الذي يراعي الاختلافات بين سائرالأغراض، ويتمثل الضوابط الحاكمة لكل غرض لحظة الانتاج. أ- المديح: يكاد يدور أغلب الشعر العربي القديم حول غرض المديح، فلا غرو بعد ذلك أن نجد اهتماما بهذا الغرض من لدن النقاد، الذين سعوا إلى توجيه الشاعر إلى الطريقة المثلى لتحقيق المدح الجيد، فبينوا له طرقه وأساليبه، وحذروه من مغبة الخلط بين مدح السوقة والخاصة. يوصي النقاد بضرورة أن يسلك الشاعر -إن مدح ملكا- "طريقة الإيضاح والإشادة بذكر الممدوح، وأن يجعل معانيه جزلة، وألفاظه نقية، غير مبتذلة سوقية، ويجتنب مع ذلك التقصير والتجاوز والتطويل؛ لأن للملك سآمة وضجرا") (، ولعل التأكيد على سلوك طريقة الإيضاح مرده بلأساس إلى الملك ليس له الوقت الكافي لتقليب المعاني والتدبر فيها لأنه كثير المشاغل،وكان البحتري الذي برع في المدح أيما براعة ممن يتبعون هذه الطريقة إذا مدح الخليفة، حيث "يقل الأبيات، ويبرز وجوه المعاني"') (، وقد كان جرير مدركا وواعيا بمسألة عدم الإطالة في الممادحة عندما أوصى بنيه قائلا "يابني، إذا مدحتم فلا تطيلو الممادحة، فإنه ينسي أولها، ولا يحفظ آخرها") (، ويمكن تلخيص شروط المدح الجيد فيما يلي: - سلوك طريقة الإيضاح، وذلك بإبراز وجوه المعاني. - الإشادة بذكر الممدوح، وإشهار مناقبه وتشريف مقامه. - عدم الإطالة في الأبيات حتى لا ينسى أولها ويحفظ آخرها. - اجتناب التقصير والتجاوز والتطويل. - استخدام المعاني الجزلة والألفاظ النقية والابتعاد عن المبتذلة السوقية. وتتلخص هذه الضوابط والقواعد فيما وقع للفرزدق مع عبد الرحمان بن أم الحكم عندما طلب منه أن يقولفيه بيتين يعلقان بالرواة، مع ترك الإطالة جانبا) (. وتختلف طرق المدح ومذاهبه، فما يمدح به الملك ليس هو ما يمدح به واحد من العامة، كما أن ما يصلح لمدح قاض لا يفيد عند مدح قائد أو خليفة، وإذا لم يراع الشاعر هذه الاختلافات الدقيقة وقع في الخطأ، وهو ما قد يجر عليه غضب الممدوح وسخط النقاد، وقد تعارف الشعراء على الأمور التي ينبغي طرقها عند المدح، من إشهار للمناقب وتبيان للفضائل، وحددت في أربع فضائل نفسية هي: العقل، والشجاعة، والعدل، والعفة، ولكل فضيلة من هذه الفضائل أقسام كثيرة، تتركب فيما بينها لحظة المدح) (. ب- الهجاء: للشعراء مذاهب معينة في الهجاء، فإذا كان الغالب الأعم يرى أن "قصر الهجاء أجود") (، فإن جريرا كان يرى خلاف ذلك، فقد أوصى بنيه بإطالة الهجاء قائلا"إذا مدحتم فلا تطيلوا الممادحة، وإذا هجوتم فخالفوا") (، وكان ابن الرومي الشاعر الهجاء ممن يذهب هذا المذهب، إذ كان "يطيل ويفحش") (، وكان جرير زيادة على ما سبق يوصي بأن يكون الهجاء مضحكا وأدعى للسخرية والهزء بالمهجو "إذا هجوت فأضحك") (، وهو الشيء الذي كان يحرص عليه في أهاجيه للأخطل والفرزدق، فطالما أضحك جماهير المربد بمثل قوله: ضعوا كحلا ومجمرة وعطرا فلستم يا فرزدق بالرجال أو قوله: لقد ولدت أم الفرزدق فاجرا وأتت بوزواز قصير القوائم وكان ابن الرومي يتقيل طريقة جرير هاته ويسير على خطاها، فقد برع إلى حد كبير في رسم مهجويه رسما كاريكاتوريا فيه الكثير من السخرية المثيرة للضحك: وجهك يا عمرو فيه طول وفي وجوه الكلاب طول مقابح الكلب فيك طرا يزول عنها ولا تزول والذي ينبغي أن نشير إليه أن مسألة قصر الهجاء أو إطالته مرتبطة إلى حد كبير بالهدف الذي يضعه الشاعر نصب عينيه، فالذي يحبذ القصر يجمع المعاني ذات الدلالات العميقة ويكثفها في لفظ جامع ومركز، أما من يحبذ طريقة الإطالة فيسعى بالضرورة إلى إبراز معايب المهجو والوقوف عند كل الجزئيات والدقائق لتفصيل القول فيها حتى يبلغ الغاية، ويجرنا الحديث عن الإطالة والقصر إلى مسألة التعريض والتصريح وأيهما أقدر على إيصال الهجاء اللاذع، فمن الشعراء من يرى أن "التعريض أهجى من التصريح،لاتساع الظن في التعريض، وشدة تعلق النفس به، والبحث عن معرفته، وطلب حقيقته، فإذا كان الهجاء تصريحا أحاطت به النفس علما، وقبلته يقينا في أول وهلة") (، ورب إشارة أبلغ من عبارة، وإذا كان أجود المدح أن يتناول الشاعر الفضائل النفسية، فإن أجود الهجاء "أن يسلب الإنسان الفضائل النفسية، وما تركب من بعضها مع بعض، فإما ما كان في الخلقة الجسيمة من المعايب فالهجاء به دون ما تقدم، وقدامة لا يراه هجو البتة") (. ج- الرثاء: من ضوابط الرثاء أن "يكون ظاهر التفجع، بين الحسرة، مخلوطا بالتلهف والأسف والاستعظام، وإن كان الميت ملكا أو رئيسا كبيرا") (، وجرت العادة عند الشعراء ألا "يقدموا قبل الرثاء نسيبا كما يصنعون ذلك في المدح والهجاء"،) ( إلا ما وقع نادرا ولا يعتد به، والرثاء منه الصعب ومنه السهل؛ فمن أشد الرثاء صعوبة على الشاعر "أن يرثي طفلا إو امرأة؛ لضيق الكلام عليه فيهما، وقلة الصفات") (، وأن يجمع "تعزية وتهنئة في موضع") (، وهو أمر يحتاج لفرط ذكاء ،وحضور بديهة، ولطف تحيل، وقدرة على التصرف والتخلص من أمر إلى أمر،وممن برع في الرثاء نجد أبا ذؤيب الهذلي و ابن الرومي وجريرا وأبا تمام و ديك الجن. د- النسيب: من خصائص النسيب أن يكون "حلو الألفاظ رسلها، قريب المعاني سهلها، غير كز ولا غامض، وأن يختار له من الكلام ما كان ظاهر المعنى، لين الإيثار، رطب المكسر، شفاف الجوهر، يطرب الحزين، ويسخف الرصين) ("، ولتحقيق هذين المطلبين على الشاعر أن يجعل " اللفظ رقيقا، والمعنى رشيقا، ويكثر فيه من بيان الصبابة، وتوجع الكأبة، ةقلق الأشواق، ولوعة الفراق") (، وقد برع شعراء كثر في مجال الغزل والنسيب نذكر منهم على سبيل المثال جريرا وجميلا والأحوص وأبا صخر الهذلي... 6- ما ينبغي اجتنابه من العيوب: تحفل كتب النقد بالإشارة إلى النعوت التي ينبغي أن تتوفر في الشعر، وفي المقابل لا تخلو هذه الكتب من إشارات إلى مختلف العيوب التي تقلل من جودة الشعر، وتشمل هذه العيوب كل مكونات الشعر بلا استثناء؛ فمن عيوب اللفظ "أن يكون ملحونا، وجاريا على غير سبيل الإعراب واللغة، وأن يكون حوشيا لا يستعمل و يتكلم به إلا شاذا") (، ومن عيوب الوزن أن يخرج عن العروض، إضافة إلى التخلع؛ وهو أن يكون قبيح الوزن كثير الزحافات) (، وشعر كهذا يكون "ناقص الطلاوة،قليل الحلاوة") (، ومن عيوب القافية نجد التجميع، والإقواء والإيطاء والسناد والإكفاء والتضمين) (، ونجد في أشعار كثير من الشعراء حديثا عن هذه العيوب، وكيف أن أشعارهم تخلو منها، فهذا ذو الرمة يقول: ) ( وشعر أرقت له طريف أجنبه المساند والمحالا وهذا جرير -وهو ما هو- يقول: فلا إقواء إذا رمس القوافي بأفواه الرواة ولا سنادا والسيد الحميري يردد وراءه: وإن لساني مقول لا يخونني وإني لما آتي من الأمر متقن أحوك ولا أقوي ولست بلاحن وكم قائل للشعر يقوي ويلحن وينفي أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني عن شعره الإقواء والسناد والإيطاء والإكفاء: خذها إليك هدية من شاعر لا يستثيب ثوابها إهداؤه نظم ابن آداب تخل شعره لم يمح رونق شعره إكفاؤه لم يقو فيه ولم يساند ولم يوطئ فيهوي نظمه إيطاؤه والملاحظ في هذه الأشعار التركيز على عيوب دون غيرها كالإقواء والسناد والإيطاء، دون أن نجد حديثا عن التضمين، لذلك نرفض عده ضمن عيوب القافية ، لأنه مدخل لطيف لتحقيق الوحدة العضوية للقصيدة. وخلاصة القول؛ ينبغي للشاعر أن يقصد النعوت ويجتنب العيوبإن هو أراد تحقيق الجودة، وامتلاك أزمة الآذان، والنفاذ إلى قلب السامع وعقله، وإصابة مقاتل الأغراض، واستمالة القلوب، وثني الأعناق، ذلك أن المبدع إنما يقصد بإبداعه المتلقي، أي نعم هو يسعى إلى أن يبلغ درجات الكمال النوعي ويشبع نهمه الإبداعي ويروي غلته منه، لكنه يبقى تواقا لمعرفة ردود فعل المتلقي سامعا كان أم قارئا، ساعيا إلى إمتاعه والتأثير فيه. - المبحث الثاني: شروط الجودة الخارجية 1- مراعاة المقامات وأحوال المخاطبين: إن تحقق الجودة لا يمر عبر الالتزام بضوابط الكتابة وقواعدها التي استنها الأسلاف فقط، بقدر ما تمر ضرورة عبر استحضار دائم للمتلقي في سائر مراحل العملية الإبداعية، فالشاعر الحاذق هو من يجعل المتقبل لإبداعه نصب عينيه ويسعى على الدوام لإرضائه وطلب وده، وذلك عبر الالتزام بجملة من الضوابط والشروط والحدود التي تشكل حوله طوقا وسياجا وحصارا، وبهذا تكون حرية المبدع محدودة غير مطلقة، فأينما ولى وجهه وجد الجنس الشعري الذي يرفض عليه إكراهات، والقارئ أو المتلقي -بشكل عام - الذي يذكره دائما باحترام العقد التخاطبي، لكن على الرغم من هذا أو ذاك يبقى المبدع مالكا لأسلحة فتاكة قوامها الاحتيال والتمويه والاستلطاف وإخراج المعاني في معارض حسنة. والشاعر مدعو على الدوام إلى أن يتجنب ما يمكن أن يصرف عنه الأسماع، ومن هذا القبيل " الإشارات البعيدة، والحكايات الغلقة، والإيماء المشكل") (، وبناء على هذا ينصح النقاد الشاعر بتجنب الإغراب والتعقيد حتى لا يخلق صدمة التلقي، التي أحدثها أبو تمام فسئل " لم لا تقول ما يفهم؟ فأجابه : وأنت لم لاتفهم من يقال؟") (. ومن الأمور التي ينبغي للشاعر أن يحترز منها اجتنابه في مفتتح أقواله مما يتطير به كذكر البكاء، ووصف إقفار الديار، ونعي الشباب، وذم الزمان، خاصة، في القصائد التي تبنى على المدائح والتهاني، فمن غير المنطقي أن يبتدئ الشاعر كلامه في مدح أو تهنئة بذم الزمان، ونعي الشباب، وذكر الفراق، ووصف إقفار الديار، ذلك أنلكل مقام مقالا. وإلى جانب ما سبق على الشاعر أن يقصد محاب المتلقي ويجتنب كل ما يعكر صفوه، وأن يراعي على الدوام أحواله النفسية وأن يعرف من أين تؤكل الكتف، فما يقبله الممدوح في يوم من الأيام، قد لا يقبله في يوم آخر ، لأن النفسية دائمة التقلب من حال إلى حال، وهنا تحضرنا بعض الطرائف التي كانت تحصل مع عبد الملك بن مروان على وجه التحديد، ومع شاعرين هما جرير والأخطل، فالأول خاطب عبد الملك ذات مرة بقوله: أتصحو أم فؤادك غير صاح عشية هم صحبك بالرواح ومرة خاطبه قائلا: وهذا ابن عمي في دمشق خليفة لو شئت ساقكم إلي قطينا وفي المرتين أنكر عليه قوله ورده، ففي الأول ظن عبد الملك أنه يخاطبه، وفي الثاني أنكر عليه أن جعله مجرد شرطي، أما الأخطل فأنكر عليه عبد الملك قوله : خف القطين فراحوا منك أو بكروا ظانا أنه قصده بكلامه، وما وقع لذي الرمة مع هشام بن عبد الملك أطرف عندما قال: ما بال عينيك منها الماء ينسكب وكانت في عين هشام ريشة تدمع أبدا، فظن أنه قصده فما كان إلا أن قال له: وما سؤالك عن هذا يا جاهل؟". والذي يمكن الخروج به من هذه الحوادث أن الممدوح قد يوجد في حالة نفسية غير سوية فلا يقبل كلاما حتى ولو كان جيدا، هنا يستخدم الشاعر حسه وذكاءه في معرفة أحوال المخاطب قبل أن يقدم على القول في غرض ما. والشاعر الحاذق بعد كل هذا هو الذي يتحرى أحوال مخاطبيه فيقصد محابهم، ويتجنب ما يكرهون، لأنه إن فعل ذلك دخل من الباب ووضع رجله في الركاب، وحقق المراد وبلغ الغاية، وخلاصة القول تتعدد أصناف المخاطبين وتتفاوت درجات فهمهم ومستويات وعيهم، والشاعر الفطن هو من يخاطب كل صنف بما يفهمه، فيخاطب الخاصة بما تفهمه، والعامة بما تستوعبه. 2- بعض نتائج عدم الانضباط لمعايير الجودة: إن الانضباط الكلي أو الجزئي لمقومات الإبداع التي حددها النقاد ينتج لنا إبداعات متفاوتة، بعضها يصل إلى الذروة العليا من الجودة، وبعضها يقف في الوسط، والأخرى تهوي في مستنقع الرداءة، وقد تنبه النقاد إلى هذه الأمور ، وكانوا في كل مرة يصدرون أحكامهم على أشعار الشعراء، فيسمونها تارة بالجودة والقوة، وتارة بالرداءة والغثاثة، وكانت أحكامهم هاته على شكل تمثيلات أو تشبيهات تستقى من واقع البيئة السائدة. ويرتبط الحكم بالجودة أو الرداءة في عمومه بالمتلقي، ذلك أن المتلقي على اختلاف مشاربه هو الحكم والفيصل في قبول الشعر أو رفضه، وغالبا ما يكون رفضه أو قبوله خاضعا لأسباب وتبريرات. أ- سرعة الزوال: نلفي في النصوص المبثوثة في كتب النقد إشارات كثيرة لطريقة الشعراء في نظم الشعر وملاحظات وأحكاما، ومن هذه الملاحظات والإشارات بعض الأحكام التي تمس الأشعار التي يستجيدها السمع لأول وهلة، ولكنها سرعان ما تذوي ويذهب بهرجها الخادع، ويخفت توهجها اللامع، ومن هذا القبيل أشعار ذي الرمة التي اتفق النقاد والشعراء على أنها سريعة الزوال، قال جرير مبديا رأيه في شعر ذي الرمة " نقط عروس وأبعار ظباء") (، وهو نفس ما أدلى به أبو عمرو بن العلاء عندما قال " إنما شعر ذي الرمة نقط عروس تضمحل عن قليل، وأبعار ظباء لها مشم في أول شمها، ثم تعود إلى أرواح البعر") (، وقد فسر المبرد كلا الرأيين بقوله "معنى قوله 'نقط عروس' أنها تبقى أول يوم ثم تذهب، ' وبعر الظباء' إذا شممته من ساعته وجدت منه كرائحة المسك، فإذا غب ذهب ذلك") (، والملاحظ في هذه الآراء أنها تتخذ من البيئة مرجعا في حكمها على الأشعار، وهي آراء قائمة على تمثيل الشعر بشيء يوجد في الواقع يتشابه معه في خاصية معينة، فنقط العروس سريعة الزوال على الرغم من الحسن الذي تضفيه على العروس، وأبعار الظباء سرعان ما تزول رائحة المسك التي تبعثها في ساعتها وتعود إلى أرواح البعر، وهو ما ينطبق على أشعار ذي الرمة التي يجد لها المتلقي روعة وحلاوة في أول سماعها وتلقيها، ثم تذهب الحلاوة والروعة إلى حال سبيلها شيئا فشيئا، ما يعني أن شعره كان سريع الذهاب لا يثبت للزمن والتجربة،ولغل ذلك له ارتباط بما أسلفنا نشره من شروط الإبداع الجيد. ب- اختلاف الشعر: وهو من عيوب الشعر القبيحة القادحة فيه، التي تجعله مضطربا يعاني الخلل في تركيبه، ويتميز شعر النابغة الجعدي بهذه الخاصية، إذ نجده كثير التفاوت، يخلط فيه الشذرة والبعرة، والذهب والحطب، والعرر والغرر، ولعل من أدق التمثيلات لشعره قولهم "صاحب خلقان، عنده مطرق بألف وخلق بدرهم") (، وهو نفس ما ذهب إليه الفرزدق بعبارة مختلفة " مثله مثل صاحب الخلقان، يرى عنده ثوب خز وثوب عصب، وإلى جنبه سمل كساء") (، وتكاد تتكرر هذه الآراء بصيغ وعبارات مختلفة، لكنها تصب في بوتقة واحدة وتتفق في كون الجعدي كان يخلط الجيد السمين بالرديء الغث، وهو ما أدخل على شعره الاضطراب والاختلاف. ج- افتقاد الحلاوة: وضع الشعر في أصله ليطرب ويهز النفوس بإيقاعه ونغمه وجماليته الفنية، وصحة سبكه ونظمه، وقد يحدث أن يفقد الشعر كل هذه الخصال المنتجة للحلاوة والجالبة للذة النفسية لسبب من الأسباب كفرط صنعة أو تكلف قول، أو احتفاظ بما يلزم التخلي عنه، أوالتخلي عما ينبغي الاحتفاظ به، ولعل أكبر هذه الأسباب هو الإفراط في الصنعة والإكثار منها، وكان هذا ديدن لبيد الذي وصف الأصمعي شعره بقوله "شعر لبيد كأنه طيلسان طبري، يعني أنه جيد الصنعة وليس له حلاوة") (، وعادة ما لا تجتمع الحلاوة مع كثرة الصنعة و إتقانها، والأشعار التي يتوفر فيها شرط الحلاوة هي الأشعار المطبوعة التي لم تطلها يد الصنعة. تبين النصوص السابقة في عمقها أن تحقيق الجودة الشعرية يمر عبر الالتزام بسنن متداخلة فيما بينها تفضي في النهاية إلى كلام جميل يؤثر في النفس ويحوز على إعجاب المتلقي،ومعلوم أن تحقيق الجودة والشعرية يمر أساسا عبر مراعاة التناسب بين مكونات القصيدة اللفظية والمعنوية والصوتية والإيقاعية والتخييلية فتكون لحمةواحدة، ونستشف مما سبق نشره أن المتلقي كان واعيا بقضية الجودة الشعرية، لا بل إنه كان طرفا رئيسيا في تحديد معاييرها، ذلك أن الأشعار التي لم تكن تحترم هذه المعايير والشروط لم تكن تروق له وتؤثر فيه، أو أنها تؤثر فيه تأثيرا مرحليا سطحيا سرعان ما يذهب ويزول، ويخفت لهيبه، وتنطفئ ناره ويخبو أواره. المصادر والمراجع المعتمدة في البحث: 1-جمالية الألفة :النص ومتقبله في التراث النقدي،بيت الحكمة،تونس،1993 2-شرح ديوان الحماسة للمرزوقي، تحقيق : أحمد أمين وعبد السلام هارون . دار النشر : دار الجيل. سنة الطبع : (1411ه / 1991م 3-الشعر والشعراء،ابن قتيبة،تح :أحمد شاكر،دار الحديث القاهرة،2003 4-العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده،تح:محمد محيي الدين عبد الحميد،دار الجيل،بيروت لبنان،ط4،1972 5-عيار الشعر،تأليف محمد بن احمد بن طباطباالعلوي،شرح وتحقيق عباس عبد الساتر،مراجعة:نعيم زرزور،دار الكتب العلمية،بيروت لبنات، الطبعة الثانية،1426ه-2005م 6-كتاب الصناعتين الكتابة والشعر،تصنيف أبي هلال العسكري،تح علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم،المكتبة العصرية ،صيدا بيروت 1987م-1406 ه 7-الموشح مآخذ العلماء على الشعراء في عدة أنواع من صناعة الشعر،تح علي محمد البجاوي،نهضة مصر للطباعة والنشر واتوزيع،بدون تاريخ 8-الوساطة بين المتنبي وخصومه،القاضي عبد العزيز الجرجاني،تحمحمد أبو الفضل إبراهيم ومحمد علي البجاوي،منشورات المكتبة العصرية صيدا بيروت 9-نقد الشعر ،قدامة بن جعفر،تح:محمد عبد المنعم خفاجي،دار الكتب العلمية بيروت لبنان ،بدون تاريخ. (1)-شرح ديوان الحماسة للمرزوقي،ج1،ص (2) -نفسه،ج1،ص11 (3) -ينظر جمالية الألفة،شكري المبخوت،ص85 (4)-نفسه (5)-جمالية الألفة ،ص86, (6)- نقد الشعر ،ص73، تح محمد عبد المنعم خفاجي ،ينظر بعض القصائد التي توفرت فيها هذه النعوت (7) -شرح ديوان الحماسة،ج1،ص10 (8) -جمالية الألفة،ص 87 (9)-نفسه ص88 (10)-ينظر المرجع نفسه والصفحة نفسها (11) -جمالية الألفة ،ص 88 (12) -نفسه،ص89 (13)-العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده لابن رشيق،تح محمد محيي الدين عبد الحميد،ج1،ص 257 (14) -نفسه (15) -كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري،ص 150 (16)-عيار الشعر لابن طباطبا العلوي،ص 131 (17) -العمدة،ج1،ص257 (18) -نفسه، وينظر البيان والتبيين ج2،ص68 (19) -العمدة،ج2،ص 117 (20) -عيار الشعر،ص 12 (21) -نفسه (22) -نفسه (23)-الصناعتين،ص141-142 (24) -نفسه ص 142 (25) -الشعر والشعراء،ج1،ص 76 (26) -الشعر والشعراء ج1،ص 76-77،والعمدة ج2 ص123 (27)-العمدة ج 2 ص 133 (28)-ينظر العمدة ج1ص 217 وما بعدها (29)-نفسه-ص 217 (30)-العمدة ج1 ص 218 (31) -ينظر المصدر نفسه ج 1 ص 218-219 (32) -عيار الشعر 126،ينظر بعض المآخذ على الشعراء في العمدة ج1 ص 222 (33)-العمدة ج1،ص 218 (34) -المصدر نفسه،ج1 ص 231 (35) -العمدة ج 1 ص 239 (36) -نفسه ج1 ص 240 (37) -الوساطة بين المتنبي وخصومه ،القاضي عبد العزيز الجرجاني،ص 48 (38) -العمدة ج1 ص 128 (39) -نفسه (40)- نفسه (41) -العمدة ج2ص 114 (42) -ينظر نقد الشعر ص 96-98 (43) -العمدة،ج2 ص 172 (44) -نفسه (45) - نفسه (46) -نفسه (47) -العمدةج2 (48) -نفسه ج 2 ص 174 (49) -نفسه ج2 ص 147 (50) -العمدة ج 2 ص 151 (51) -نفسه ج 2 ص 154 (52) -نفسه ج2 ص 155 (53) -نفسه ج 2 ص 116 (54) -العمدة ج 2 ص 114 (55) -ينظر نقد الشعر ص 172 (56) -ينظر المصدر نفسه ص 178 (57) -نفسه (58) -ينظر العمدة ج 1 ص 163، ونقد الشعر ص 181،والموشح ص 333 (59) -تنظر كل الشواهد التالية في الموشح صص 2-3 (60) نفسه،ج1 ص 233 (61) -نفسه ج1 ص 239 (62) نفسه ج 1 ص 234 (63) -ينظر المصدر نفسه ،ج1 ص 239 (64) -عيار الشعر ص123 (65) -الموشح ، ص 406 (66) -الموشح ص 223 (67) -نفسه ص 223-224 (68) -نفسه ص 225 (69) نفسه ص 75 (70) -نفسه ص 76 (71) -الموشح ص 76