بدأت القصة مع التكليف الذي تلقيناه صباح ذلك اليوم . وكنا– أنا وحلمي – نشرف على الصفحة الثقافية بجريدة " الوحدة " . نجلس في حجرة واسعة تطل نافذتها على شارع عريض ، بها مكتبان متواجهان ، ونقوم بكل ماتحتاجه الصفحة ماعدا تغطية المؤتمرات خارج العاصمة . معنا ، لكن على كرسي قرب باب الحجرة " خلفاوي " ببدنه الضخم ، ورأسه الحليق على الزيرو ، يتصفح مجلات أو يتثاءب إلي أن يطلب منه أحدنا شيئا . التكليف الذي تلقيناه كان بتغطية مؤتمر في إحدى المحافظات البعيدة ، وكالعادة اتصلت بشاب من قسم الأخبار كنا نعتمد عليه في تلك السفريات ، فقيل لي إنه في إجازة ثلاثة أيام لظرف طارئ . وعلق حلمي " ضاعت عليه المئة جنيه بدل السفر ووضعنا في ورطة " . تطلعت إليه أستكشف بنظرتي إن كان قد يقبل بالسفر . فعاجلني بقوله " لا ياعم ! لا . هذا مشوار يحتاج صحة " . كنت أعلم أنه يكره فنادق الأقاليم فلزمت الصمت . خلفاوي الذي اعتدنا تدخله في كل شيء ، واعتاد هو على صمتنا لأن ملاحظاته كانت في معظمها دقيقة ، مط شفته السفلى وهز رأسه قائلا باستهانة " وماذا يكون المؤتمر يعني؟ ناس يتكلمون، نرسل أي شخص والسلام. مشكلة يعني؟ " . وقهقه بصوت مدو كأنما يقف في حقل مفتوح بقريته، وسكت ، ثم استند بباطن قبضته على حافة مكتبي وأعلن ما بين الجد والهزل كأنما يجود علينا بهدية " هاتوا المئة جنيه بدل السفر وأذهب أنا " . الفكرة بدت غريبة ، لم أستوعبها ، مثل قطعة خشب يدفعونها لفم إنسان على أنها طعام فتتعطل حواسه لحظة . لمح خلفاوي حالتي على وجهي ، فتراجع للخلف وأولاني ظهره خارجا من الحجرة وهو يقول " مؤتمر ؟ يعني نخاف يعني ؟ " . وعاد بعد دقائق يحمل فنجاني قهوة ، وضعهما أمامنا بصمت لكي لا يشوش علينا استطعام اقتراحه . خلفاوي الذي ناهز الثلاثين ، ساعي ، لكنه يقوم بأي شيء ، وما لا يستطيعه يظل وراءه بإصرار حتى يتقنه ويتولاه ، ذكي بالفطرة وطموح وحاصل على دبلوم متوسط ، خلال عام واحد من عمله معنا أصبح قارئا للصحف يرمي بملاحظاته الدقيقة على ماينشر ويسخر من تبدل مواقف الكتاب ، بل وصار خبيرا في الكمبيوتر، يفتح ملفات، ويطارد فيروسات . لكن أيعني ذلك أن نرسله إلي مؤتمر ؟
تبادلنا أنا وحلمي نظرة . وبدا أن حلمي حسم أمره فقال لخلفاوي " طيب .. عندك بدلة أنيقة ؟ " . وعلى الفور اندفع خلفاوي من الثغرة التي فتحت أمامه يوسعها مؤكدا بحماس " عندي . وقميص وكرافت أيضا . ثم أنا سأحمل مسجلا صغيرا ، أسجل عليه كل ما يدور ، وممكن كاميرا . وإذا سألني أحد أقول من الجريدة وخلاص . مشكلة يعني ؟ " . ولمعت عيناه بأمل واثق يشجعنا . لكني تظاهرت بأني متردد ، ربما كنت مترددا فعلا ، وأنا أقول له " لكن إياك تفضحنا ! " . صاح بلهجته الريفية الممطوطة " كيف ؟ وكل ما سأقوم به الضغط على زر التسجيل ؟ . ماعدا ذلك أنتم تعرفون خلفاوي يسلك مع الجن " . استراح حلمي وقال له " وإذا سألوك عن أي شيء أنت صحفي . أديب " . هبط خلفاوي برقبته بين كتفيه وفتح عينيه باستنكار " صحفي ماشي . لكن أديب ؟! كيف يعني ؟ " . هونت عليه بنبرة مطمئنة " أنت تعرف أسماء طه حسين والحكيم " ، وشعشعت الفكرة عند حلمي فقال " وما عدا ذلك قل أنا أحب ساراماجو " ! مط خلفاوي بوزه باشمئزاز متوجسا من إهانة " صاراماتو ؟! كيف يعني ؟ " . ضحك حلمي " ليس صاراماطو ، بل ساراماجو ، أديب برتغالي ". زام خلفاوي مدركا أن الكلمة لاتحمل معنى قبيحا ، وقال رافعا حاجبيه لأعلى " واجب أتذكره .. احتياطا " . قبض خلفاوي المئة جنيه وتركنا . وعاد بعد يومين . الحق أقول كدنا لا نعرفه وهو داخل علينا برأس مرفوع وبدلة وتحت إبطه رزمة كتب . وضع أمامنا جهاز التسجيل، وصاح بشمخة " كل كلمة نطقوا بها. ومعي صور للمتحدثين. وبالمناسبة بعضهم أصرعلى التقاط صورة معي للذكرى " . خطف خلفاوي اهتمامنا ، وأصبح ذهابه وإيابه وما فعله الموضوع الرئيسي ، وسألناه عن التفاصيل فحكي كل شيء . قال إنهم استقبلوه بترحاب ( بدا على وجهه أنه أراد أن يقول بتقدير ) ، وإنه كان يتحين الفرصة خلال الأحاديث لتمرير عبارة " بالمناسبة أنا أحب ساراماجو . أديب عظيم " . وقهقه بطريقته الصاخبة مضيفا " مرة واحد منهم سألني ومن يكون ساراماجو ؟ . فأجبته بدهشة – خير ياعم ؟! ألم تقرأه ؟! ". انتبه حلمي إلي رزمة الكتب فسأله " ماهذا ؟ أبحاث المؤتمر ؟ " . وسحبت كتابا من بينها وقرأت بصوت مرتفع إهداء على الصفحة الأولى منه " إلي الأديب الكبير خلفاوي السيد . خالص التقدير لإبداعه " . نظرت إليه ، ورأيت للمرة الأولى سحابة خجل خفيفة تمرق في وجهه ، ولكنه ما لبث أن ثار بغضب صادق صائحا" أهداني إياها بعض الأدباء ما أن علموا أني صحفي في جريدة. ماذا أفعل ؟ كان لابد من سبك الدور ". وغادر الحجرة بعصبية ولم يعد . وفي صباح اليوم التالي رأيناه من جديد عند باب الحجرة في القميص والبنطلون القديمين . وتفادينا كلنا بتوافق غير معلن التطرق لموضوع المؤتمر . وبعد أسبوع صارت مظاريف مغلقة تحتوي على كتب تصل باسم خلفاوي . كان يفتحها أمامنا ببطء ثم يتجه بها ببهجة مكتومة إلي مقعده . هناك يخرج الكتب والروايات ويقرأ بعضها . أحيانا كان يقول بحيث نسمعه " والله هذا الشاب موهوب . أسلوبه حلو " . وبالتدريج صار خلفاوي يسألنا عن كتب بعينها ويستعيرها منا لقراءتها . مع حلول صيف ذلك العام تركنا خلفاوي والتحق صحفيا بإحدى الصحف تحت التدريب ، فلم نره بعد ذلك زمنا طويلا ، إلي أن سمعت في إحدى الجلسات أنه مسئول عن ملحق أدبي في صحيفة رائجة . وكنت بالأمس قريبا من مقر تلك الصحيفة فساقني الفضول لزيارته . واستقبلني في مكتبه بترحاب وتهليل ، وكان عنده شاب جالس بأدب على كرسي عند طرف المكتب ويده ترتجف بورقة ، ونصحه خلفاوي أمامي قبل أن يصرفه " إقرأ ساراماجو . أنا أحب ساراماجو " . واستدار نحوي وهو يضيف بنظرة مركزة وببطء كأنما يبثني رسالة خاصة " وماركيز " . وانصرف الشاب متراجعا بظهره وأغلق الباب خلفه بحرص . صرنا وحدنا ، فانطلق خلفاوي يحدثني عن مشاريعه الأدبية للمرحلة المقبلة .