لم تنجح المؤسسة الاسرائلية بعد النكبة من اقتلاع الجزء الحي الباقي من الشعب الفلسطيني ، رغم سياسة الحصار والتشريد والتهجير والاضطهاد والقهر القومي ، التي مارستها ضد جماهيرنا العربية الفلسطينية التي صمدت في وطنها ، وظلت ناطور البيت والبيارة والسهل والجبل والبيدر. وانطلاقاً من ايديولوجيتها الصهيونية العنصرية وضعت هذه المؤسسة نصب أعينها مخططاً تجهيلياً يستهدف نشر العدمية القومية بين هذه الجماهير والأجيال الفلسطينية الصاعدة ، وكذلك محاصرة الثقافة المقاومة والمقاتلة والكلمة الحرة الملتزمة ، واغتيال الوعي والذاكرة الفلسطينية ، وتشويه وطمس التاريخ الفلسطيني الكنعاني . ولتحقيق ذلك فرضت حصاراً ثقافياً على شعبنا المنغرس في جليله وكرمله ومثلثه ونقبه .وأمام هذا الحصار شكلت الثقافة العربية الفلسطينية سلاحاً حاداً وعاملاً حاسماً في صيانة وحماية الهوية الفلسطينية وبناء الشخصية الوطنية التقدمية المناضلة ، فكانت هذه الثقافة بشير وصوت الثورة قبل ميلاد الثورة ، وكان المثقفون الرواد في وطننا النازف، بحكم ثقافتهم والتزامهم الثوري الساطع ورؤيتهم المستقبلية المتفائلة، بمثابة الخميرة للتطور العلمي والثقافي القادم. وفي قلب هذا الواقع الاضطهادي القاسي والصعب ، وفي أتون المعارك الشعبية الوطنية والطبقية انطلقت الكلمة الشعرية والنثرية ناراً فلسطينية تحت رمال الكرمل وشواطئ حيفا ويافا، وكانت العتابا والميجنا لحناً شعبياً ونداءً ثورياً صارخاً وسط نهر الصمت ، وكانت أهازيج أعراسنا في المثلث والجليل تأكيداً على تلاحم شقي البرتقالة الفلسطينية . وكان للأدبيات الثقافية والفكرية التقدمية "الاتحاد"و"الجديد" و"الغد" دور ريادي وتحريضي وتعبوي وفعل كبير في انبعاث وتطور الثقافة والوعي والعلم والتربية، وتأصيل الفكر الوطني الثوري ، الذي يحارب ويكافح ضد الظلم والقهر والغبن والحصار والخنق الثقافي . وشكلت هذه الأدبيات منبراً للثقافة الثورية ونافذة مشرقة أضاءت بصرنا وبصائرنا ، ونفيراً في الكفاح والنضال الوطني والطبقي الشعبي ضد سياسة الاضطهاد والتمييز العنصري والقهر القومي ، ومن أجل السلام والمساواة . علاوة على كونها مدرسة تخرّج منها في الأدب والسياسة والفكر طلائع الحركة الثقافية العربية الفلسطينية المقاومة ، وحملة راية طليعية متقدمة في عملية التجديد في الثقافة والابداع والكفاح الوطني والسياسي الديمقراطي. ومن نافلة القول، ان الكتاب والشعراء والمبدعين الفلسطينيين هم من أبناء العمال والفلاحين والمسحوقين والكادحين وأبناء الفقر والجوع والانسحاق ، وقد أنتجوا وقدموا نتاجاً أدبياً شعبياً أصيلاً ، أدب أقلية قومية ترزح تحت وطأة سياسة الاضطهاد والتمييز والاجحاف، مع مميزات وخصائص هي نتاج البيئة الشعبية والواقع المعاش. ان الأحداث الصعبة التي مرّت فيها جماهيرنا جعلت ثقافتنا واقعية وشعبية وثورية في نظرتها ، انسانية وديمقراطية في توجهاتها وتطلعاتها، مناهضة ومكافحة ومضادة للظلم والقهر ، ومقاتلة بلا هوادة لأجل الحرية والمساواة والسلام والعدل والفرح الحقيقي. وقد تجسدت هموم الطليعة الثقافية والأدبية الفلسطينية بربط الأدب بالحياة والمستقبل ، وخلق أدب التغيير الجديد المفعم بالكرامة الانسانية . وهنالك قاسم مشترك يجمع بين الابداعات والتجارب الادبية الفلسطينية وهو احتضان هموم وجراح الوطن وعذابات رجاله الثوريين ، وطموحات الكادحين والمضطهدين في كدهم وكدحهم وبؤسهم وشقائهم، وكفاحهم من أجل المستقبل والغد الجميل. وتتجاذب الثقافة الفلسطينية موضوعات مرتبطة بتطور المجتمع العربي والتناقضات القائمة داخله، وثمة من تناول وعالج في كتاباته وأعماله قضايا العمال وأوضاع القرية العربية والتفاوت الطبقي في المجتمع، والصراع القائم بين القوى التقدمية والتحررية والعناصر الرجعية والظلامية المتزمتة ، اضافة الى قضايا المرأة واستغلال الدين لأغراض سياسية . وعلى العموم فقد ظلت الثقافة الفلسطينية واقعية ، ملتصقة بالتربة ومرتبطة بهموم وآمال الانسان وحاملة راية الحرية والعدل والتقدم للبشرية جمعاء. ان الثقافة العربية الفلسطينية ذات مسار ايديولوجي واضح وناضج ، وذات عمق علمي ثوري مستمد من المناخ الفكري والسياسي السائد بين جماهيرنا، وهي تدب فينا الاصرار العميق على مواصلة الحياة والابداع والتشبث بانسانيتنا فوق أرض وطننا . وهذه الثقافة أثبتت بجدارة هويتها التقدمية ومن أبرز سماتها ومعالمها : التغني بالأرض والوطن والانسان والتعبير عن هموم الشعب وأحلام الفقراء والجياع ، والايمان بالغد المنشود. وفي المحصلة الاخيرة، الثقافة العربية الفلسطينية في ارهاصاتها الأولى ذات طابع انساني وبعد طبقي اجتماعي، وتمتاز بواقعيتها وخصوصية اسلوبها ، وبالصدق وتوهج الرؤية، ومعالجة القضايا المصيرية ، والتفاعل مع واقعنا وملامسة همومنا وجراحاتنا . وفي ذكرى النكبة ، وفي هذه المرحلة الخطيرة التي تمر بها جماهير شعبنا ، من واجب كتابنا ومثقفينا تعميق الشخصية الثقافية والاجتماعية والوطنية للشعب، حتى تكون الثقافة العميقة الجميلة ، بعكس الثقافة الاستهلاكية المتعولمة الوافدة ، زاداً يغذي الصمود والاستمرارية والتشبث الواعي المثابر بالهدف، وتعميق انسانية الانسان الفلسطيني.