عندما يذكر اسمك يا أمي تزهر كل البساتين خارج الفصول الواعدة بالزهر، تقيم الطيور حفلا للشذي على أنغام السواقي وخرير الأنهار، أمي رسمك الصغير يضم أوردة الفؤاد واسمك يضم الشفاه على حب يريد أن يأخذه معه إلى حيث لا يعود. يا أمي أدركت الآن أن قلبك الحاني الذي اتسع لأخطائي وحماقاتي لم يحتف بغير اسمي إلى أن لفظ الحياة ، يداك الحانيتان عشي، الذي ضم أحلامي ومعها صلواتك الخاشعة التي كنت تتبعينها بدعواتك لي، أعرف أن دعواتك تلك هي التي فتحت لي آفاق قلبي والحياة. عيناك أمي، مهدي الذي هزّه شوقك وحنينك إلى وأنا في أحضانك وبجانبك. صدرك كان ملاذي، في نجاحاتي وإخفاقاتي ووسادة أحلامي الجميلة، حين لم يكن للكوابيس معنى في أحلامي حضنك كان جنتي، وفراديسي ومنتهاى ومبتدئي ،وقد أدركت الآن أنه كان أوسع من بحر و أكبر من قصر وأجمل من الوجود. اعبريني يا أمي بغيابك الحاضر كما يعبر الخرير السواقي منتشيا برقرقة الماء وحسيس الهواء. اعمريني بشذى ذكرياتك كما الربى تشد الأرض بأوتاد من البهاء والخضرة. اسكنيني أمي بشوقي الدائم إليك كما الطلّ يلتصق بالأكمام ولا يغادرها كما الأريج يحضن الزهور في عشق لا يشبه إلا شبق الحياة. اسحبي من ذكراك على عيوني أقسى نظراتك فلن تكون سوى الحنان والحنان. واسدلي على جفوني شيئا من غدقك يا أمي فلن يكون سوى الفرح والفرح. يا أمي هالات النور التي كانت تتلألأ حول جبينك الوضئ فراشات زاهية الألوان تختصر الوجود في فرحتها المتراقصة، بالزهو والضحكات. باقات الألق التي كانت تلتمع في عينيك رياض تُحبر فيها الجنان والحور العين. اسمي بين شفتيك لغز الحياة وسعادتها ،واسمك بين شفتي سعادة الحياة ولغزها الأبدي. يا أمي تأتي مواكب الحب في يوم كان مقداره الحب نفسه ومعه الربيع تحتفل فيه القلوب بنبضها، والصدور بشهقة الحياة فيها. تستعد فيه كل حدائق الورود والرياحين لتقديم باقات الحب المختلفة الشذى والرحيق، لكي تشتم أريج ابتسامتك الذي يزين الوجود، ويرقص النور ويعطر الفضاء. أمي يا مرآة تنجلي عن الطّهر والأماني وتسطعُ بالأحلام والأغاني، في مرآتك التي لا تشبه إلا اللجين الصافي رأيت طفولتي ترقص على تصفيقات جدائلي الشقراء التي ظفرتِها بالوجد والاحتراق فالتصق منظرها بذاكرة الفؤاد وقلب الوجدان. أمي يا فيض خاطري ومستقر أفكاري لن يكفيني العمر كي أحدثك في انحناء عن نسائم الحب التي ارتشفها صدري من جنان حنانك ولن يكفيني الدهر كي أحدثك عن الأسى الذي طبع أيامي بعد أن غادرتني ذات حزن لازلت أحفظ يا أمي تلك الأراجيز التي أسعدتِ بها مهدي وسمعتها منك وأنا جنين يتكتم في سر الخلق والخالق، رددتُها على مسمع أولادي كأذكار ي وأورادي، وسأرددها كلما فاض وجدي وخاطري وكياني، ولازلت أكتبُ من يقيني أنك من تكتبين عمري وخواطري ،ومع ذلك فمازلت لغتي تتلكأ وتتلعثم في سرد ما كنتِ ومازلتِ من إلهام، لازلت تنسابين في نفسي بقدميك الصغيرتين تتسللين إلى خلايا الروح، وتمسحين عن نظراتي سهام الحزن فينبثق الوجود عن ورد الحب والصبر والأمل، تدقين باب الحلم بيديك الجملتين المصبوغتين بحناء من الواجبات، تمسحين على شعري فتتلألأ خصلاته كأسلاك ذهبية تلتقي مع الشمس في إشراقها والبهاء، تسحبين غطاء من الدفء على جسدي النحيل وتغلقين علي الخوف كل منافذه حتى أستغرق في نوم العافية والأحلام اللذيذة. ولا زلت أذكر صباحاتك النديّة بابتسامتك الجميلة تشرق على وجهك، فيبدو الكون متلألئا بنورها السني وألقها العجيب، أتناول منك محفظتي وقد رتبت فيها كتبي وكراريسي كتحف نادرة قادمة من مكان ما لم يخطر ببال بشر، لم أكن أغادرك يا أمي إلا لكي أعود إليك وألتقي بلهفتك التي لن أراها على وجه غير وجهك الباسم ، أذكر إذ تهزين رأسك في يقين أنك تعرفين أنني لم أغادرك إلا لكي أعود لكي تبسطي على مائدة الأشواق أطباقا من زاد الحياة ودفقاتها وددتُ يا أمي لو طال أمدي ذاك فما غادر إلى سواه وددتِ أنت أيضا، ولكن لا مرد لي ولا لك يا سيدة الأحكام والواجبات إذ لازلت أذكر تلك الحقيبة المليئة بالأحزان شيعتها على كتفي حين غادرت أيكتك، لأطير بمهيض الجناح في سماء ملأتها كواسر الطيور، لم أعرف بعدها كيف أنزل من سماء الخوف ولا استطعت أن آلف الكواسر ؟ كيف أستطيع أن أفعل وأنا من بذرت في حضن الرقة وسقيت بماء العيون فكانت الأحلام سدرتي والأماني كعبتي. لازلت أذكر صبرك يا أمي، وصبر صبرك علي الأذى وقهر الزمن، أذكر أنك ولدت امرأة لم تعرفي للطفولة معنى وأنت تفتحين عينيك على سجون لا سجن واحد سجنك الأكبر في وطن يئن تحت وطأة الاستنزاف والاستدمار، وسجن والدك الذي كان يستحل طفولتك في أعمال لا يقوى عليها الكبار، سجن أنوثتك التي كان الجميع يرفضها، حتى اعتقدتِ أنها عار فكرهتها، وعاقبتِ نقسك بأن طوقت نفسك بها متفانية إلى أن غادرت هذا الفناء ،وسجون أخرى صنعتها لنفسك من طيبتك التي يسميها القوم هنا سذاجة، ومن حيائك الذي يقولون عنه ضعف وقلة حيلة. يا أمي... لم أعرف نموذجا لحواء الأولى سواك ، حتى اعتقدت أنك نزلت من الفردوس ذات عصيان..... فما الذي أهديك في العيد يا أمي؟ وأنا كنت ذاك العصيان الذي اقترفته على مدى تاريخ امرأة هي أنت،و على مدى تاريخ حواء والعصيان. لا معنى للزهر وأنت الرّوض الملئ بالأزهار ولا عطر له و أنت العطر والرحيق. و الحلى والجواهر تستحي من لآلئ ابتسامتك ولؤلؤ جبينك. وتختفي الألحان عندما تستمع إلى نغمات هدهدتك، وتنمحي الصور من صدق المحيي و الألق، والقصص والأساطير تنام على صدرك الحاني الهدايا ستنطفئ أمامك يا أجمل هدايا الحياة فقولي لي ماذا أهديك يا أمي؟ فأنا لا أجد أحسن مني ومنك هدية لك ولي ولجمال الوجود.