تتأطر كتابات الشاعر محمد العناز ضمن التجربة الشعرية الجديدة بالمغرب، بوصفه واحدا من الأسماء الشابة التى تكتب قصائدها بحس نقدى عميق، يترجم بلاغة الحلم بتغير العالم. ولعل قصيدة "خطوط الفراشات"" المنشورة فى جريدة العرب الأسبوعي، السنة الرابعة، العدد154" [2] نموذج لهذه البلاغة الحالمة التى تشكل سمة تكاد تهيمن على الإبداع الشعرى الحديث. العنوان يتكون من جملة إسمية تحيل على الجمود والثبات. كلمة "خطوط" تطرح إشكالية دلالية: هل يتعلق الأمر بالخطوط المرسومة على الفراشات أم الخطوط الوهمية التى تتركها بعد أن تمر؟ وبناء على الافتراض الأول، هل خطوط الفراشات كلها متشابهة؟ إن العنوان الجيد" يجب أن يشوش على الأفكار، لا أن يحولها إلى قوالب مسكوكة"[3]، فالشاعر بهذا العنوان استطاع أن يمارس تشويشا على القارئ حين عمد إلى تشبيه خطوط الفراشات بالتجاعيد: " لا أرى سببا لدمعة بالغة الملوحة ولا تجاعيد تشبه خطوط الفراشات" الفراشة، هذا الكائن الصغير والهش، ينتبه إليه محمد العناز، بل يؤثث من خصائصه الدقيقة عالمه الشعري؛ فيصور حالة الإنسان وما قد يعتريه من علامات الضيق والمعاناة. الفراشة ترمز إلى" ملذات الحياة الفانية وإلى الخفة من مرت أمامه فراشة وردية، فإنه سيسعد طويلا؛ وإذا دخلت الفراشة منزلا يكون ذلك إيذانا بحدث منتظر على وشك الوقوع"[4] بناء على هذا البعد الرمزي، فإن دلالة الفراشة فى هذا النص تستمد شعرية توظيفها من كونها تشير إلى الطابع الزائل لمظاهر الحياة اليومية، وإلى عناد الزمن وخيانته. هكذا يمكن اعتبار القصيدة بيانا احتجاجيا ضد واقع مر، استحال معه الإنسان شيئا، بل بضاعة تخضع قيمتها لتغير مؤشرات العرض والطلب. إنها صرخة شاعر ودعوة إلى تمثل الإنسانية التى افتقدناها فى عالم الماديات واندحار القيم. لعل المتأمل فى "خطوط الفراشات"، يذهب إلى اعتقاد مفاده أن صاحبها فى عقد السابع؛ مما يعطيه صبغة التجربة والحكمة، وهى الصورة المرسخة فى المخيال الجمعى فى مجتمعاتنا العربية الإفريقية، على الأقل. أما حين نعلم أن الشاعر لم يطفئ بعد شمعته الرابعة والعشرين، فإننا نفهم أن العالم الذى افتقده ما هو إلا مسرح الطفولة. القصيدة إذن تتأرجح بين عالمين متجاورين ومتصارعين: الواقع الحالى بكل تمظهراته الشرسة وإكراهاته اليومية، والعالم الداخلى الخاص بالشاعر. إن مملكة الشاعر يحكمها طفل بعمره، طفل يرفض أن يوقع على سجل الجرائم الأولى، ويبغض عصر الإسمنت وبشاعة الأسلاك المعدنية؛ مملكة مطلع نشيدها الوطني: " كى تكون رئيسا إبدأ بحب الأطفال"[5]. عالم الشاعر إذن ذكريات تمتزج ببراءة طفولتنا وهى تبحث عبثا عن وردة وراء ثخونة الأسوار. إنها لوحة من الذاكرة، فأن " نكتب ذاكرتنا، معناه أن تخلى عن وهم محاكاة الواقع ونحرر اللغة من ترجمة المرئي، ونرتاد فوضى التخييل المنفتح على أكثر من سجل والمكتسب شرعيته من ما يرتديه من غلائل إستيتيقية"[6]. الرياح المارقة التى تهب على مرتيل" قادمة من فصول الوهج"، من حدائق الحلم والذكرى، ببوح العصافير وألوان الفراشات؛ الريح نفس الآلهة والروح والطاقة التى تحرك العالم[7]. " الرياح الخفيفة" منعشة، تجئ بردا وسلاما على الشاعر وعلى مدينة مرتيل المتوسطية..رياح مرتيل عنوان لتوهج الذاكرة فى عبورها نحو الحلم ب" العشق المستحيل": " الرياح الخفيفة القادمة من فصول الوهج تمرق بالقرب من ضفة مرتيل تحمل أوراقا هشة كالخريف" هذه الطاقة الشاعرة التى تدفع الخريف إلى حمل حقائب الرحيل، هى الأمل فى تغيير هذا العالم. إنه الحلم، وهو سمة طاغية على القصيدة. وفى هذا الصدد، تقول خالدة سعيد: " إن اعتماد الشعر الجديد على الرؤيا والحلم هو بمثابة احتجاج على واقع بات واقع قهر... فالحلم هو الضمان الأصلى ضد عمليات التغريب المتراكبة التى يمارسها المجتمع بفئاته المتسلطة"[8]. القهر والتسلط سبب رئيسى للمعاناة فى القصيدة كما فى الواقع المعيش؛ مما يجعل الإنسان بلا أمل "الضوء" فى تحقيق أحلامه الصغيرة؛ حتى الإبداع كمتنفس وحيد لذات الشاعر، يجد من يعاكسه ويقمعه " النافذة الوحيدة أغلقها سماسرة الضوء..." ينظر الشاعر حوله، فلا يرى سوى السماسرة وصور كاذبة عن الحب والجمال، ولا يرى إلا أناسا يتحولون على شاكلة شخصيات مسرحية " واحد القرن" لأووجين يونسكو. إلا أن الشاعر لا يستسلم لإغراءات هذه الحياة الماكرة، يفضل ألا يسقط فى متاهة مدام بوفارى الشخصية الروائية أو فخ كوستاف فلوبير نفسه:[9] فقد توهمك بعض واجهات الحياة بالوقوف أمام السعادة التى تنشدها فى أحلامك، فتقبل عليها بلا هوادة، قبل أن تصاب بالإحباط حين تكتشف أن ما اطمأننت إليه لم يكن سوى ضربا من السراب. تتوالى عليك النكسات، إلى أن تطرح السؤال الوجودى القاتل: هل الحياة تستحق أن تعاش؟ [10] ألم يكن جواب إيما بوفارى هو الانتحار؟ هل كانت تريد بهذا الاختيار وضع حد لاضطهادها فى عالم لا يعترف بالحلم. فما هو جواب الشاعر محمد العناز على السؤال الوجودي؟ "لا أرى سببا لدمعة بالغة الملوحة ولا تجاعيد تشبه خطوط الفراشات" كأننا أمام إنسان يقول: لن أستسلم للغواية ولا للخطر؛ سأبقى آخر إنسان. وهو" الحالم بعشق كالمستحيل"، لا يرضى لنفسه الانسياق وراء المزاد العلني...هو العاشق المثالي، ينشد حبا كالقصيدة، تأتيك بلا تصنع ومراسيم، سلسة مثل الهواء، عنيدة كالموج، شبقية مثل النار. المجد شعار الشاعر وشجاعته فى الانتظار،ذلك "الانتظار الهادئ ذلك الأمل الأخضر دائما.."[11] فهو ليس على عجل وله حاجة إلى تأمل أشبه باستراحة محارب. ماذا لو جلس لينتظر؟ "وأنا العاشق لزهرة اللوتس سأجلس بالقرب من ظلها" اللوتس نيلوفر أبيض مصري[12]، وهو" زهرة تنبت على الماء دون أن تتجذر، وهى رمز للإنبعاث. وفى الهند ترمز لإلى الازدهار والتفتح الروحي"[13]الانبعاث والتفتح هما ركنا حلم الشاعر فى هذا العالم الميت مجازيا. " سننتظر" فعل بصيغة الجمع: " أنا والكرسي"؛ الكرسى والشاعر، كلاهما ينتظر.. ما أتعس وأجمل صورة الانتظار هاته فى تناصها الجميل مع نص لمارسولين ديبورد – فالمور: " قبالة كرسيَ كرسيٌ ينتظر كان يوما لها ظل لفترة لنا هذا الكرسى باق هنا فى استسلام تام كما، الآن، أنا"[14] الأشياء الصغيرة تحس وتحلم فى عالم الشاعر: تظل مخلصة لحبها، تنتظر. الكرسى والشاعر صامدان: الأول لم يكثرت لغواية الصدإ ومغازلة الماء: والرمال الندية تطؤها أقدام الهوى ما الجديد فى تغير الأيام؟ والكراسى المعدنية لا تتغير بصدإ الماء والثانى كساه الألم قوة ضد" فقدان المناعة"[15] أمام مكر الزمان وخيانة التجاعيد؛ فالألم المتراكم لا يضر الشاعر بل يزيده قوة وهالة من المجد، يؤمن بقناعة ألفريد دى موسي:" لا شيء يسمو بنا إلى العظمة غير قوة الألم"[16] فالشاعر يقول : "لا أحمل أقنعة ولست عاريا من حرائق الألم" وفى انتظار التجدد، فى انتظار الشاعر والكرسي، يختتمان هذه القصيدة..إنها سلاح الشاعر الوحيد.الشعر هنا ! فهو لا يضاف إلى العالم، وإنما هو عالم فى ذاته، التجدد حتمية الكون، لأننا " لا نستحم فى نفس النهر مرتين"[17]. الشاعر فى انتظار: بياض الشاشة أو ألوان البريد الالكتروني لن تحرمني من لذة الوصال الخريف قادم وأنا والكرسى المعدني سننتظر...