" الأدب هو التأكيد الخالد لروح الإنسان". جيمس جويس
إن من عجائب الأدب أنه عالم مضطرب كموج البحر ليس له حدود ثابتة، ينطلق بنا - من خلال فرسانه ومدارسه ونقاده وكتّابه وعشاقه ومنظريه - من نظرية إلى أخرى ومن مذهب حتى آخر، فتقوم دوامات من الجدل والنقد حوله تتسع وتنداح بأفكار ورؤى ترفع المنجز النصي إلى أعلى علّين أو تخفضه إلى أسفل سافلين،إنه بحق قفّاز لكل الأصابع.فلماذا نخندقه في قفازات صغيرة لا تتسع له؟ أقول بنبرة تحشرجها الدهشة: أي بئر عميق القرار يريد أن يئدنا فيها قِدِّيسو أدب الالتزام وفرسانه بهذا الأدب؟ مِن" الشكلانية " التي ترى أن دور الأدب هو العناية أولا بالبناء المبتكر وطرائق توليد النص والأسلوب والأشكال السردية، وباختصار التركيز على التقنية بكافة وسائلها، ومن الفلسفية العدمية التي ترى أن تغيير الواقع والعالم أمر مستحيل، وأن الحقيقة الوحيدة الباقية هي ذات الكاتب الذي تسوقه نرجسيته إلي أن يصف بأدق التفاصيل أدنى انفعالاته وأتفه تجاربه الجنسية وذكرياته الأشد سطحية؟؟ إن أول ما تستلزمه الكتابة هو حرية الإبداع حتى يشتغل المبدع في مساحات وارفة يتحرك فيها كيف يشاء ويذرعها جيئة وذهابا كيفما شاء، ويحاور فيها نصه بلغة يختارها بمعجمه ومضمون من وحي خياله بعيدا عن إملاء نمطي ونسق تكراري يجتر وجودية سارتر أو خبز ماركس أوشكلانية الروس، ويا ليت شعري ما بال الخطاب الإبداعي وكأنه بدون هذه الأنساق لا إبداع له ولا أدب! فإذا التزمنا هذا الالتزام- حسب شروطه وملفوظه- فإلى متى نظل ملتزمين بمعطى معين لا نريم عنه ؟ وإذا التزمنا به فما هي آفاق هذا الالتزام ؟ وإلى أي حد نظل مستمرين في هذا الالتزام والعالم من حولنا يتدفق بمعطيات جديدة ووقائع تعرف قطيعة متجددة بسابقتها؟ ونحن وإذا كنا نصعر خدنا لأدب الالتزام فهذا لا يعني الانسلاخ من الواقع وقضاياه والسقوط في اللامضمون والإسفاف- إن على مستوى المضمون أو الشكل- والعبثية والفوضى والغوغائية والحرية السائبة، وإنما ندعو إلى كتابة واعية بذاتها وشروطها، لاسيما وأننا نتنفس كل يوم هذا الأتون/العولمة التي قد لَوَتْ عنُق المشرق والمغرب معاً، وجعلت العالم ينزلق بسرعة مذهلة في نسق من الأنظمة المعقدة تعرف انتشارا خرافيا للاقتصادات المفتوحة والتكنولوجيا والمعلومات والأموال والرساميل والثقافات والسلع والبضائع والخدمات والإعلام العابر للقارات ؟؟ فإذن عدم الالتزام لا يعني الفرار من معطى العولمة – بصفتها معطى مطلق يفرض نفسه على الفلسفة والأدب والعلم ولا انفكاك منه إلا إليه - وإنما يقوم على أساس "فوضى منظمة" إذ أن" حرية المبدع و"لالتزامه" يجب أن يظلا في إطار البحث عن جماليات أُخر، دون المساس بالذائقة وبأسس الإحساس الجميل،أي دون الخروج عن "الأدبية" إذا كنا نتحدث عن الأدب.كما أن الحرية لا تعني "تسليح" الإبداع والزج به في معتركات الحروب الفكرية والعقائدية الرامية إلى تكريس هذه الايديولوجيا أو تلك.. هذا على أن لا نمنع عن الإبداع حق السفر في مدائن "المسكوت عنه" و"اللامفكر فيه" شريطة احترام الآخر والكف عن" تسيس"و"مذهبة" و"أدلجة" الخطاب الإبداعي" فإذا سلمنا بالالتزام في الأدب فما موقع قصيدة النثر المعاصرة مثلا في الشعر وهي قد تحررت من عروض الخليل، واستطاعت أن تأتي بمنجزات نصية بأجود الألفاظ في أجود نسق دون أن تتسول من الخليل صدره وعجزه وقوافيه وزحفه وعلله؟ هل نلقي بالشعر المنثور في الزبالة بدعوى أنه "شعر متفلت" و"فوضاوي" و"مجرد كلام" للمراهقين من الشعراء لا أسس له ولا بحور ولا أوزان ؟ أم هل نحرق ما كتبته سوزان بيرنار وما كتبه الماغوط وآنسي الحاج في قصيدة النثر؟ وما موقع الميكروقص الحديث/القصة القصيرة جدا كذلك في عالم السرديات وهي أجناس في مجملها تقدس الذات وتعيد الاعتبار لها بمنأى عن الالتزام بقوالب ومواضيع محددة وجاهزة؟ فهل نتجاوزها كذلك لما فيها من المتخيلات والمحكيات التي لم تلتزم بصكوك القصة الكلاسيكية وتجاوزتها إلى الفرملة القصصية والتلغيز والتنكيت والترميز والحذف والومضة القصيرة جدا،وفضاء الجملة الواحدة،والإضمار والتكثيف..؟
أظن أن مهمة الأدب هي الاعتناء بالإنسان كذات وروح تتألم وتقرح وتفرح وتعيش جزئياتها وهمومها كما يؤكد جيمس جويس بقوله:"الأدب هو التأكيد الخالد لروح الإنسان"،ولذا فالالتزام على ما يبدو سجن لهذه الذات إذا كان منظّروه يلزمونها بإملاءاتهم دون أي اعتبار لتشظيها وأنّاتها وآهاتها، فوجب تخليص الأدب من وصايا الخطاب السياسي وسلطة الإيديولوجيا التي تُقرع لها طبول الالتزام.لأن الأدب –كما الفن- كما يقول تولتسوي:"عملية إنسانية فحواها أن ينقل إنسان للآخرين- واعيا مستعملا إشارات خارجية معينة- الأحاسيس التي عاشها، فتنتقل عدواها إليهم أيضا، فيعيشونها ويجربونها".فيكون الأدب بذلك رسول سلام إلى الآخرين يرسله الأديب إليهم ليجعل تجربته تعيش مرة أخرى لديهم،لعلهم يجدون فيها ما يجدون في حياتهم،ولنتمثل دائما – كما قالت الكاتبة إليزابيث درو في معرض حديثها عن كيفية تلقي الشعر وتذوقه - بجملة بسيطة خالدة قالها الدكتور جونسون:"الغاية الوحيدة للأدب هي أن تجعل القارئ يحسن الاستمتاع بالحياة أو يحسن تحملها"