جرجرة العوائد المشينة ابتذال و مسخ للذات ، خاصة إذا كان صاحبها محسوبا على الثقافة و المثقفين ، هكذا كنت انظر إليه بين الفينة و الأخرى ، يجلس في الصف الأمامي ، وهو بين الشرود و التركيز ،يتابع محاضرا يسرد مفاهيم محاضرته ، يغافل الجميع و ينخر أنفه بسبابته و إبهامه ، فيثير اشمئزازي و اشمئزاز الملايين الذين سيشاهدون المحاضرة عبر الفضائية الوطنية . كان جليس المقهى هذا ، يجتر عادات لا أدري كيف صنعتها ذاته المريضة ، يسردها ضاحكا ، فأضبط أعصابي المنهارة ،متحملا الاستماع لما يقول ،عساي أن أجعل مما يقول موضوعا للكتابة ، فهي ضريبة أؤديها مكرها في جلستي المسائية في المقهى . مما اجتره هذا الجليس عادة " التلصص " نبتت فيه كشجر السنط ، التلصص على العباد عبر شقوق الجدران و أكوية الأبواب و النوافذ ، في المقاهي و باحات الاستراحة و الحافلات و أين ما حل و ارتحل . كان يتلذذ بمحاولة " قراءة الشفاه " كخبراء الشرطة في الدول العظمى . يسعد بعادته هاته و يضحك بخسة لما يحس بأحدهم و قد أوطأ صوته فجأة ، مرتابا ممن اعتقده مخبرا. و كان يتساءل لماذا يخاف الناس من المخبرين ؟ . فرد أحد الجلوس يوما ، و كان من معتقلي الرأي ، رد بكلام رأينا فيه مبالغة كبيرة. قال أن المخبرين يملئون كل مكان، هم من جنس ماسحي الأحذية إلى الباعة إلى المدراء .و ساق لنا تجربته في اعتقال صنعه أحد المخبرين . أقسم بالأيمان الغليظة أنك إن رأيته ،على حالته ، لن تشك فيه أبدا . كان خضّارا ، يدفع عربة يدوية صفف عليها الخضار و بعض الفواكه ، و جعل من زقاقهم مكانا دائما ، ينادي على بضاعته بصوت مكسور ، يبيع بثمن أقل من أثمنة السوق ، فتكاثر زبناؤه من أهل الزقاق ، و سأله أحدهم ، مستغربا ، إن كان يربح بهذه الأثمنة ، فرد بتذلل الحامدين الشاكرين. كانت شخصية هذا المخبر تتميز بالحياء الشديد ، لا يرفع عينيه في زبائنه و زبوناته أبدا ، مما جعل الجميع يضفون عليه لباس التقوى . يترك العربة ليؤدي صلاته في المسجد ، و لا يهمه من أمرها شيء . لكن صاحبي ، المختبئ في إحدى دور الزقاق ، كان يراقب المخبر بعين الريبة من كوة الباب، و يقرأ في سحنته صفحات التخفي و المناورة بالكلام و الإشارات البلهاء ، و سمعه يوما يسأل أحد الزبناء عن البيت المعلوم ، فرد الزبون أنه لا يدري ، فقال له المخبر: " علمك الله ما لا تدري " . فازدادت شكوك صديقنا من هذا الأفاك ، و بدأت تتحول إلى يقين مع محاصرة المخبر للبيت بعينين تتقدان نباهة و قراءة لوجوه الزبناء و توليد الأفكار بإرساله إشارات التذمر عن الوضع و النظام ، و تسجيل ردود الفعل البلهاء لبعض الزبناء ، بل كان بعضهم يسب و يشتم ، و الخضار المخبر يسرها في نفسه ولم يبدها لهم إلا في قبو المفوضية المركزية ، كما حكوا فيما بعد . مرت الشهور و المخبر يقترب أكثر فأكثر من البيت المعلوم حتى ألصق ظهره ببابه الحديدي ، يرهف السمع بأذني أيل تدوران مع الفحيح داخل البيت ، يسأل عن صاحبه ، و لماذا أبقاه خاليا موصدا ، و ينتبه إلى عداد الكهرباء ، و يرسم في ذهنه مداخل الزقاق و مخارجه ، و يجمع المعلومات الصغيرة قبل الكبيرة من تحت ميزان منصوب فوق العربة لا يعرف التطفيف ، يكرم الأطفال بالفواكه و يسألهم كم من سؤال صغير، فيجيبون، و يحملون له الشاي و الخبز ، بل دعاه أحدهم لمأدبة صنعها مساءا ، فكانت اكبر هدية قدمت له في طبق فضي ، إذ عاود استفسار بعض المدعوين أكثر عن البيت المعلوم ،و لما خرج من دار المأدبة ، تيقن أن البيت معمور . و ذات صباح انتظر سكان الزقاق خضّارهم ، فلم يأت ، و ألحوا في السؤال عنه و التمسوا له الأعذار، و فجر اليوم الثاني سمعوا هدير محركات تمزق سكون الزقاق ، و جلبة رجال بزي مدني يطوقون مداخل و مخارج الزقاق . و بضربة من أداة حديدية كسر الرجال الباب الحديد ي ، و اقتحموا المنزل. وخرج السكان من منازلهم يستطلعون الأمر متعثرين في سرابيل الدهشة و الخوف ، فردهم الزوار بالهراوات ، فقفزوا إلى الأسطح القصيرة معاندين هؤلاء الزوار الذين ردوهم ثانية بالكلام النابي ، و حركات البذاءة التي أتقنوها جميعهم بدون استثناء مستلهمينها من دروس فاسدة تلقوها على أيد قتلة يعشقون ذبح الأمل و ملاعبة الأجساد بالخناجر البربرية ذات اللسانين .