رضعت من حليب أمي حبا لوطن لم أره ، لما فتحت عيني أول مرة على هذا الوجود ، قالت لي أمي و ربع من الحقد ، خنقني ، ألم تعلموا أني أحسست بالغربة في وطن الآخر ؟ ". " أدهشتنا بصراخك الحاد عند مولدك " ، قلت " يا أمي ألم تعلموا أني استنشقت هواء ملوثا بقرن و ربع من الحقد ، خنقني ، ألم تعلموا أني أحسست بالغربة في وطن الآخر ؟ ". تملكت أمي الدهشة من هذا الإحساس المبكر، قالت " من أين لك بهذا الإحساس يا صغيري ؟ " قلت " يا أمي العزيزة قد تملكني الإحساس بالغربة في بطنك في شهري السابع ، هل تدرين أني كنت أسمع و أضحك و أبكي ؟ كانت الكلمات تصل إلي واضحة وضوح وجهك البدري ، كنت تقولين " أن الخبز الأسود في وطني أحلى من الخبز الأبيض في غيره ، و اللقيمات فيه أحلى من العسل المصفى في غيره،و سحنات أهله أوسم من كل السحنات ، و حتى عرق أجسادهم ، وقد اختلطت بتربة الحقول، أزكى من عبير الأقحوان ، فهم مني و أنا منهم . صحيح هذا؟. فردت بصوت مكسور " صحيح .. صحيح.." وطني لفظ أجدادي فتركوه غير آبهين، فارين من المسغبات و التيفوس و الترتيب الجائر و نظام الالتزام ، منهم من ترك أطفاله في الشعاب ، ومنهم من مات في الطريق، و منهم من وصل إلى وطن الآخر في هجرات توالت مع السنين ، يجترون ذكريات وطن طوقه الاستعمار و خدام أعتابه الأوفياء . أكل أجدادي أوراق الأشجار و جذور نبتة " تابكوكة " الحارة قبل أن يأكلوا الخبز الأبيض للوطن الجديد حتى ألفوه و نسوا الوطن و خبزه الأسود . كانوا يشتاقون للذين خلفوهم وراءهم في الوطن، و الذين أبوا الخروج منه ، كانوا يلتقون بهم في أحلامهم الليلية ،أين كانت تلتقي الأرواح المتحررة من الأجساد . رأيت جدي لأبي يتساءل بمكر "الوطن؟ عن أي وطن تتحدثون ؟ الوطن الحقيقي ها هنا " ، وضرب الأرض بقدمه و عصاه ، و حفن تراب أرض الآخر و قبله حتى علقت حبيبات التربة بشاربه التركي الكث . و الكل قال مثل ما قال " الوطن الحقيقي هاهنا وطن الخبز الأبيض". و حملق جدي في وجه ابنه الأكبر و سأله سؤالا و هو يعلم إجابته ، "قل لي أين جعنا و أين شبعنا ؟" فرد عمي بثبات ، " جعنا هناك و شبعنا هنا " فقال جدي " الوطن مع الشبع إذن " .تهلل وجه عمي المنغولي و ابتسم في بلاهة المجاذيب و هز رأسه كبغل . و رددت أنا - ابن العاشرة – مقولة أمي " لا ، ليس هذا هو الوطن الحقيقي ، بل الوطن هناك وراء الأسلاك الشائكة ، وطني ، علمني أن خبزه الأسود أحلى من الخبز الأبيض في غيره ، ". و هربت من جدي إلى جدتي و أجهشت بالبكاء الصادق في حضنها ، هدهدتني و مسحت وجهي ، فعلقت دموعي مالحة بباطن كفها ، و تمنيت أن تبقي كفها لأشتم رائحة الحناء . أحنت رأسها و تطلعت إلى وجهي المبلل و قالت بهمس " صدقت يا صغيري، فالوطن هناك وراء الأسلاك الشائكة الحاقدة ، حقد هؤلاء الذين نحن بين ظهرانيهم ، طعم خبزه الأسود ليس كمثله طعم ، و نسمات هوائه أرق من أي النسمات ، و ترحيب كلابه بأصحابها ليس كمثله ترحيب ، وذودها عن الديار و وفاؤها صادق ليس فيه خداع ، حتى أهله بكرمهم الحاتمي ، يدعون الله أن يأتيهم بضيف يقاسمونه طعامهم حتى و إن كان خبزا أسودا و زيتا و تينا مجففا ، هؤلاء هم أهلي و أهلك يا صغيري في وطني ، حتى وان كان وطن كذا .. فهو وطني . تعلمت الدرس و أقسمت بأغلظ الأيمان أن أعود إلى وطني ، و من أجل ذلك حرضت جدتي و أمي و أبي و كل أعمامي، إلا عمي الأكبر صاحب الوجه المنغولي على عصيان جدي الذي ربط الوطن بالبطن. و هددنا بسلاح تقليدي معروف " دعوة الشر" ، قلت " ألبسها يا جدي عباءة من أجل وطني ". انبهر الجميع بشجاعتي التي قتلها فيهم جدي عبر السنين. قال لي " من أين لك بهذا العصيان أيها المارد ؟ " و ضربني بعصاه فألمني، لكني بقيت على إصراري بعناد .