نزل عليه قرار التعيين، القادم من الوزارة، كالقدر، انتظره طويلا، حملق فيه كثيرا، قرأه عدة مرات ، لم يصدق في البداية لكنه اضطر إلى ذلك ، حاول أن يعزي نفسه بأنها مشيئة الله. الالتحاق بمقر العمل، بعد يومين، ضروري و مؤكد. صعق، و حاول أن يخفي خلجات نفسه عن الآخرين ، فهو رجل البيت و المسئول الأول عمن فيه ، و لا يجوز أن يبدي غير صور الرجولة في الصبر و التجلد ، هكذا قال في داخله . سيترك كل عزيز ، المدينة التي ولد و ترعرع فيها كالفنن ، كيف سيقدر على فراقها و فراق الأم و الإخوة الصغار ، هو كافلهم بعد وفاة الوالد ، كان عاملا بالمكتب الوطني لسكك الحديدية ، خطفه الموت من بين ظهرانيهم و أمام أعينهم في سيارتهم الصغيرة ، داستها شاحنة كبيرة لنقل الرمال ، يقودها سائق متهور ، اكتشفوا في التحقيق أنه كان مخمورا . كان الوالد عائدا بهم من رحلة قصيرة إلى البادية ، حيث تزينت الأرض بزي قشيب و راق وجهها لسكان المدينة فخرجوا يلتمسون يوما زاهيا من فصل ربيع هذه السنة المطيرة ، تصابوا مع الصغيرين فدوى و إلياس ، قطفوا الزهور و طاردوا الكلاب الضالة و زعقوا ببراءة . تخمر الجميع بالفرح إلا الوالدة جلست تراقب الجميع ،على وجهها مسحة من الكآبة لم تعرف سببها، حاولت أن تطردها فعجزت . فقلبها كان دائما دليلها ، سائق الشاحنة المخمور كان يترصد أيا كان ، و كانت السيارة الصغيرة هي المقصودة عن غير قصد .. قرأ قرار التعيين على مسامع أمه، ذات الإعاقة المستديمة من جراء الحادثة، فدعت له بالتوفيق و شجعته ثم ساعدته على جمع أمتعته استعدادا للرحيل .. بات ليلة بيضاء يتقلب في فراشه يمينا و يسارا، جفاه النوم في سكون الليل الجاثم كالعملاق على البيت و الحي ، حتى كلابه أمسكت عن النباح و قططه عن المواء ، أهو حزن عن الوداع قبل الوداع ؟ . جاء في التعيين " تقرر تعيينكم في مجموعة مدارس كذا بقرية كذا . بحث عنها في الخريطة فلم يجدها ، وجد فقط الدائرة التي تنتمي إليها ، سأل عنها العارفين بالمنطقة ، فسودوا كل أمل . هي منطقة جبلية نائية وعرة المسالك ،بالكاد صالحة للدواب . احتار من أمر هذا التعيين و هذه السفرية التي لا عهد له بها ، تشتت ذهنه و لم يستطع جمع شتاته ، و خارت قواه فاستسلم . ودع الجميع ليلا فرارا من نظراتهن و شهيقهم. و مع خيوط فجر هذا اليوم الحار ركب الحافلة ، جلس في مقعد خلفي و أصر على أن ينظر إلي مدينته تتمطط كالطفل محاولة الاستيقاظ زاهية بأنوارها تبتعد عمدا ، فأحس بها تلفظه كابن عاق ، " كيف تفعلين يا وجدة الوجد؟ هل سأقدر على فراقك ؟ و فراقك غربة موحشة ، ياغادرة ، فمن أين لك بهذا الغدر ؟ فهو ليس من شيم أهلك . و انحبست دمعتان في مقلتيه فبدت له وجدة كالسراب لتختفي بعد ذلك . انتبه إلى الركاب ، و استغرب كيف لبعضهم يكمل نعاسه وسط هدير محرك هذه الحافلة القروسطية التي تزداد جنونا فوق الطريق الرئيسية . ضحك لأول مرة من منظر سقوط أمتعة على رأس أحدهم ، و كان نائما ، فقفز مذعورا و استشاط غضبا و سب صاحبها فرد هو الآخر بسيل من السباب بدل أن يعتذر ليتدخل مساعد السائق و السائق نفسه مهددا بإنزال الراكبين . و انحرفت الحافلة يمينا إلى طريق ثانوية ، و مع انحرافها تبدل المنظر من الخضرة إلى الجدب ، فتساءل " إلى أين؟ "