في هذا النهار المتكرر منذ زمن ، يستيقظ الشهداء طيورا خضرا ترفرف فوق الجليل والمثلث والنقب وغزة والضفة ، وتأوي إلى المسجد الأقصى ، تطوف في جنباته وتمسح بأجنحتها ما علق بالمكان من غبار ( العابرين في كلام عابر ) ، وتفرش أرضية المسجد الأقصى وقبة الصخرة بريش أجنحتها فيأتلق بيت المقدس كله وأكنافه نورا ، وتفوح منه رائحة الجنة . في هذا اليوم يرفع الأقصى رأسه شامخا في وجه نيرون ، يصرخ في وجهه ويقول بلغة فصيحة لا تلعثم فيها ، ها هم أبنائي وبناتي يقفون سدا في وجهك ، فاغرب عني الى جهنم ، لن يكون لك فيَّ موطئ قدم ، وأنا الأقصى لا أموت ولن أهدم ولن أهزم ، ها هي الجموع زاحفة بهاماتها الشامخة تناديني ، فلبيكم يا أهلي لبيكم. في هذا اليوم يطل علينا الشهداء من خلف السدم ، يسيرون بيننا ، يشاركوننا الحياة التي رسموا لنا معالمها منذ رحلوا عن الدنيا واستقروا في قلوبنا وأرواحنا . اليوم يتوافد شهداء الوطن منذ القسام ، إلى قبة الشيخ الشهيد أحمد ياسين في موكب كبير متعانقين ، يتحلقون حوله ، في درس فريد ، يستمعون إلى النشيد الذي عزفه الشيخ عز الدين القسام يوم غادر جامع الاستقلال في حيفا ، إلى أحراش يعبد " إنه جهاد ، نصر أو استشهاد " . نشيد توارثه الناس منذ عزفه القسام إلى يومنا ، وما زال اللحن يتجدد ، ولا يزيده تقادم الزمن إلا بريقا ورونقا . هذا اليوم سار الشهداء في مقدمة المتظاهرين في الجليل والمثلث والنقب والضفة وغزة ، ملوحين للجموع بالرايات المجيدة المخضبة بحناء شرايينهم ، تحفهم الزغاريد من كل صوب ، ويتقدمهم الشيخان الجليلان القسام وياسين بكل بهائهما ، وهيبتهما التي لم يستطع نيرون أن ينال منها . يطوف الشهداء منذ الصباح وما زالوا ، فوق الربى الخضراء يروونها لتبقى خضرتها ورائحتها الفلسطينية ، يسقون براري البلاد بالأحمر القاني ، فتثور البراري ويهيج ربيع الجمال . يمسح الشهداء اليوم دموعا ما زالت تسيل من الأوقاف والمآذن التي يحاصرها ( العابرون في الكلام ) ، ويصلون تحت ظلالها فروض الصلاة ، ويرتلون ما تيسر من آيات الشهادة والفخر والعزة ، كما كانوا يرتلون . يتلفتون ويحدقون في الجهات ، يطيلون التحديق في وجوه الولاة على امتداد لغة الضاد ، ويبكون ، ثم يرتحلون إلى قبابهم النورانية وفي نفوسهم غصة ،وعلى ألسنتهم وصية لنا : لا تخذلونا يا أبناءنا ، لا تخذلونا .