كان صوت العجوز يأتي من الباب الموارب.. تطلعت إلى السماء، ما تزال الغيوم تملؤها، وبدا المطر ينث... حينما دخلت إلى الغرفة، ظلت تتحدث وهي تتابعني، بنظراتها الحنونة.. ثم سمعتها تقول: تعال إلى جواري.. أفسحت لي مكانا قربها، بينما بقي أخوتي ينظرون إليها في صمت ثقيل.. وقد تدثروا بأغطية سميكة.. فيما كانت والدتي تغط بنوم عميق.. قلبت جمرات المنقلة.. ورمت على جسدي النحيل دثارا.. بقي الفانوس المتقد في (الرازونة ) يبعث في الحجرة ضوءه الأصفر الباهت، وحين تهب عليه الريح، أرى الأشياء تتحرك، وكأننا نسبح في قارب.. نظرت جدتي إلى عيوننا الذابلة، فقالت: إلى أين وصلنا في الحديث؟؟ أجابها أكثر من صوت: إلى الأسد الذي ذهب إلى الصيد..!!! شدتني إلى أضلاعها وقالت: نعم .. شعرت بالدفء وبرطوبة ملابسي.. واستمرت العجوز في حديثها: (خرج الأسد والحمار والأرنب إلى الصيد، وفي الغابة استطاع الأسد صيد غزال..) هبت نسمة باردة، حركت ضوء الفانوس، فبانت أعمدة السقف الخشبية، كان سخام الموقد انتشر في الأعلى، وبدت لي صور كأنها رؤوس شياطين.. التصقت بجدتي من الخوف الذي يغزوني، والبرد الذي حط بثقله على الغرفة.. وأضافت الجدة: (سحب الأسد فريسته، وأمر الحمار أن يقسم لهم الوليمة..) صر باب الحجرة حين لامسته الريح بشدة.. فبكى أخي الصغير، صمتت جدتي وقالت مخاطبة الطفل: لماذا تبكي ..؟؟!!! فصاح بوجل: أريد أن أتبول.. ألتفتت العجوز نحوي وقالت: أذهب مع الولد لقضاء حاجته.. شعرت برغبة في البكاء، وانكمش جسدي نحو الجدة وقلت: ليذهب وحده.. غضبت جدتي وقالت: لن أكمل القصة.. نهضت متبرما، وسحبت أخي نحو الخارج، كانت يده دافئة وغضة.. مازال المطر ينهمر والريح الباردة تشتد.. وفرائصي ترتعد من الخوف، وتهيأ لي أني رأيت في الزاوية البعيدة من الدار أشباحا تتحرك، انتابني الفزع لكني تماسكت، وضغطت بشدة على يد الطفل ومضيت إلى بيت الخلاء.. وقفت تحت النخلة التي تتوسط (الحوش)، ورحت أشاهد قطرات المطر تنزلق على السعف المتحرك من شدة الريح.. عاد أخي ومضينا إلى الحجرة مسرعين.. واندسست إلى جوار الجدة مرة أخرى، وبدأت تسرد القصة، فيما رحت أتطلع إلى وجهها الأليف، بأخاديده التي رسمتها سنوات طويلة من التعب، كما كانت تخبرنا.. واستمرت قائلة: ( أخذ الحمار الفريسة، قائلا للأسد: حسنا يا سيدي يا ملك الغابة.. الأفخاذ لي والقلب أعطيه للأرنب، لأنه صغير الحجم، ونتقاسم معا الأضلع والرأس يكون من حصتك.. نظر الأسد بغضب إلى الحمار، الذي أراد أن يهنأ بالوليمة وحده.. فنهض الأسد مزمجرا، ليصفع الحمار على وجهه بقوة...) ازددت التصاقا بجدتي، كان صوت المطر يحدث في رأسي فجوة، من الاضطراب والخوف الغريزي. نام أخي الصغير وهو يستمع إلى قصة العجوز، التي ظلت تقلب الجمرات الحمراء، لا أدري لم فكرت بالأشباح تحيط بنا، وشعرت بأن الغرفة المعتمة، مثل بالون منفوخ يكاد ينفجر... بينما ظل وجه الطفل الراقد ببراءة شاحبا بلون الضوء المتراقص على ثناياه.. وأكملت جدتي وهي تقول: (صرخ الأسد بصوته العالي، في وجه الأرنب قائلا له بغضب: ألان عليك أن تقسم لنا الفريسة...) ملأ الرماد المنقلة، ولم تكن هناك سوى جمرات قليلة، من الفحم، بقيت أختي بجدائلها الصغيرة تحدق في وجه جدتنا التي ما انفكت تحدثنا: (أقترب الأرنب من الفريسة، وهو يرتعد خوفا.. فقال بصوت واهن ومرتعش: يا سيدي.. الآن أنت جائع، أتمنى لو أكلت ألأفخاذ، وسأبقي لك قلب الغزال، إلى أن تستيقظ من القيلولة، لتأكله هنيئا مريئا.. وفي العشاء لا بأس لو تعشيت بالأضلع.. وأعطنا بعض العظام ورأس الغزال تأكله...!!!) نامت أختي على الوسادة التي كانت تتكىء عليها... شعرت بالنعاس، لكني كنت أخاف من أن أنام بسبب المطر والأسد الغاضب، الذي لابد أنه سيهجم علي ويفترسني مع جدتي التي طلبت مني أن أحضر لها بعض الحطب. شعرت أن رأسي ثقيل وأجفاني تراخت.. وسمعت جدتي تقول... وكان صوتها يأتيني من بعيد: سأل الأسد الأرنب قائلا: (من علمك هذه القسمة..؟؟!! فأجاب مرتعشا: صفعة الحمار.. يا سيدي !!) غفوت.. وظل المطر يطرق على السقف حتى الصباح...