لقد فتحت عيني، أنا الكاتب الاحتفالي على هذه الدنيا، ولم يكن في بيتنا غير كتاب واحد، هو كتاب الله، والذي هو أبو كل الكتب كلها، وهو سيد كل الكتب، والذي جعلني أتعلق باللغة العربية، وأعشقها عشقا صوفيا، لأنها لغة فردوسية، تلتقي فيها الطبيعة بما وراء الطبيعة ولقد خرجت من الكتاب، بعد أن تعلمت رسم الحروف، وبعد أن حفظت شيئا غير يسير من كتاب الله، ولقد دخلت المسرح، ووجدت أن هذا العالم لا يمكن أن يكون إلا مسرحا، وأن كل الناس فيه ممثلون، من حيث يدرون أو لا يدرون، وإلى اليوم، فإنني مازلت أومن بأن الفن أصدق من الواقع، وبأن الممثل الصادق، في مسرح الوجود الصادق، كما في المسرح المسرحي الصادق، هو ذلك الإنسان الممثل الصادق والعاشق دائما، وهو ذلك المواطن الذي يحيا حياته في الحياة بعشق، والذي يؤدي دوره فيها بعشق، والذي يلقي حواره بعشق، والذي ينصت إلى نبض الحياة والأحياء من حوله بصدق، والذي بتفاعل مع شخصيته المسرحية، ومع كل الشخصيات الأخرى بعشق، وبالنسبة لهذه الاحتفالية، والتي هي مدرستي الحقيقية في الوجود وفي الحياة، فإن أحسن كل الممثلين لدي، هو ذلك الذي لا يترجم الشخصية ترجمة خائنة، ولكن هو الذي يكتبها في لحظتها المسرحية الحية، أو هو الذي يعيد كتابتها لنا بلمسته السحرية، والذي يجعلنا ننسي، نحن المتلقين أو المتلاقين المسرحيين، أن هناك كاتب غائب قد كتب لهذا الممثل ما يقول، أو أن هناك مخرج مختبئ، في مكان ما، قد أملى عليه ما يفعل وكيف يفعل وكيف يتفاعل وكيف ينفعل، وإن كل ممثل يتحرك بمحرك خارجي ليس ممثلا حقيقيا، ويمكن أن يكون أي شيء سوى أن يكون ممثلا في عالم المسرح وفي مسرح هذا العالم والأصل في هذا الممثل أن يكون نفسه دائما، ولا يكون أي أحد غيره، وأن يستحضر الشخصية الغائبة، وأن يقتسم معها لحظته، وأن يقتسم معها إحساسه، وأن يعطيها شيئا من روحه ومن وجدانه ومن خياله، وأن يجعلها تحيا فيه وبه، وأن تتفاعل مثله مع طقس الاحتفال ومناخ الاحتفال وهذا الممثل الإنسان ماذا يمكن أن يكون سوى انه حياة وحيوية وأنه حرية وتحرر ، وانه حزمة اعمار في عمر واحد، وبدون حيوية ولا حرية ولا إبداعية، فهو مجرد قطعة شطرنج، وذلك على رقعة المسرح، أو هو مجرد دمية في مسرح الدمى المتحركة واحسن كل الممثلين، بالنسبة للاحتفالية، هو الممثل الذي يلعب دوره، بعد أن يحبه، وأن يكون صادقا في ادائه، وهو لا يمكن ان يكون مقنعا وممتعا في دوره المسرحي، اذا لم يكن مقتنعا بدوره وبنفسه فيه، ولم يكن عاشقا للمسرحية التي يحتفل فيها، ولم يكن مستمتعا بها وأجمل كل الأشياء، في عالم الناس والاشياء، هي تلك النفوس والأشياء الصادقة التي لا تخون اسمها، ولا تخون دورها، ولا احد يمكن ان يتصور وجود ملح غير مالح، ولا وجود مربع غير مربع، ولا وجود عسل لا يكون حلوا ولست أدري، متى قلت أو كتبت، بأن أسوأ شيء في مسرحية الوجود، هو ان تكون ممثلا سيئا، وذلك في مسرحية سيئة، وأن يحدث ذلك في مسرح سيء، وان تجد نفسك من حيث لا تريد أمام جمهور مسرحي سيء، وأن يكون مكتوبا لهذا التمثيل السىء ان يتم في فضاء سىء وفي مناخ سيء وفي زمن سىء، وان يجد هذا الممثل الوجودي نفسه سجينا او منفيا في مسرحية عبثية، مسرحية كتبها كاتب سيء، واخرجها مخرج مجنون وسىء وقدر لها ان تعرض أمام جمهور سيء وكل شيء يصبح صاحبه ويشبه لحظته ويشبه سياقه ويشبه تاريخه، هو بالتأكيد شىء مشروع وحقيقي، وعليه فإن جود ممثل فقير، باحساسه وبلغاته وبخياله، في فضاء سينوغرافي غني لحد البدخ، هو بالتأكيد حال غير مقنع وغير ممتنع كما أن وجود ممثل مسرحي صغير، في دور مسرحي كبير، هو مفارقة كاريكاتورية مضحكة، تماما كما أن وجود ممثل هزيل، شكلا ومضمونا، بزي مسرحي جاد وفخم وكبير، هو معادلة خاطئة وغير صحيحة وغير مقنعة والممثل الحق، بالنسبة للاحتفالية، ليس هو ذلك الذي يحسن الكلام فقط، ولكنه ذلك الذي يحسن الصمت أيضا، وفي كتاب (الرحلة البرشيدية) يدور الحوار التالي ما بين المسافر و الكاتب الاحتفالي: (–إانك أنت الكاتب تحسن الكلام جيدا يا سيدي وأحسن الصمت أيضا وأيهما الأصعب بالنسبة إليك، الصمت أم الكلام؟ الصمت هو الأصعب دائما، ورحم الله من قال: يتعلم الإنسان الكلام في عامين، ويحتاج إلى خمسين عاما ليتعلم الصمت … الصمت الممتلئ وليس الصمت الفارغ يا سيدي) والممثل ليس جسدا فقط، ولكنه روح قبل كل شىء، و وجود جسد بلا روح هو مجرد جثة، وهذا الممثل ليس آلة يحركها محرك خارجي، لأن محركه موجود فيه، وطاقته والوجدانية والعقلية والروحية موجودة فيه، وهذا ما يتجسد ويتسخصن بشكل كامل في الاحتفال المسرحي، والذي هو حالة وجودية وجدانية صادقة وبحسب الاحتفالي المفكر، فإن فعل الاحتفال بالجسد وحده في المسرح لا يكفي، والمطلوب من هذا الاحتفال ان يتم بكل لغات هذا الجسد، الظاهرة والخفية، وان يكون ذلك في لحظته العيدية الحية وبالنسبة للاحتفالي دائما، فان تكون قارئا سيئا لكتابة سيئة، فهذا شيء معقول ومقبول، ولكن ان تكون قارئا سيئا لكتابة جميلة ونبيلة، فإن مثل هذا الفعل هو عدوان على الجمال وعلى الكمال وعلى الحق وعلى الحقيقة وعلى روح الإبداع والأصل في الكتابة انها فعل احتفالي، وعليه، فإنه لا يصح ان نمارس هذا الفعل الاحتفالي بلغة ماتمية،او بلغة فوضوية، او بلغة خشبية لا روح فيها فقه الكتابة وكتابة الحكيم أنا الكاتب إذن، لم اولد كاتبا، وقد اكون ولدت احتفاليا، ولقد بدأت فعل الكتابة بقلم كنت أصنعه بيدي من القصب، اي بنفس القصب الذي كان الراعي يصنع به الناي الحزين، ثم عرجت في المدرسة على قلم الرصاص، وكان ذلك القلم يحمل ممحاته في رأسه، وكان هذا اقتناعا من صناع هذا القلم بأن الخطأ لابد منه، وبانه مثل الذنوب يمكن ان يمحى، ومن يذكر اليوم تلك الممحاة العجيبة، والتي كانت تشعرنا بأن الصواب آت بعد محو الخطأ؟ ولقد كنت أكتب وأكتب، ثم أمحو، وعرفت أن المحو جزء من فعل الكتابة، تماما كما أن الموت جزء من الحياة، حياة الأجساد التي تحمل موتها المؤجل فيها، وتحمل نهايتها في بدايتها، ووجدت نفسي أنفخ على بقايا الكلمات والعبارات التي أمحوها، لتطاير في الفراغ مع الهباء، لقد علمني هذا القلم الرصاصي أشياء كثيرة جدا، وأفهمني أن محو ما يكتب، هو حق من حقوق الأقلام لكاتبة وحدها، وأن هذا المحو معناه المراجعة مرة، ومعناه الرغبة في تحقيق الكمال مرة أخرى، كما قد تكون له معاني أخرى كثيرة جدا، أما إذا جاء هذا المحو من الخارج، وكان إملاء وتعليمات وتحذيرات، فإنه لا يمكن أن يكون إلا تسلطا ومصادرة ورقابة واغتيالا للأفكار والمعاني، وبذلك يكون اعتداء على حيوية القلم وعلى حرية صاحب القلم، ويكون مسخا لروح الكتابة ولمعناها الحقيقي ايضا، وروح هذه الكتابة، ليس لها من اسم آخر إلا .. اسم الحرية.. لقد كان هذا الرصاص حاضرا في زمن الرصاص، أما في زمن الحلوى، فقد ظهرت أقلام أخرى جديدة، هي أقلام الحلوى، وعرفت أن ما نمحوه من كتابات، هو أضعاف أضعاف ما نكتبه، وأنه بعد فعل المحو يظل ذلك الممحو مختبئا في الظل، وذلك في زاوية مظلمة من النفس وفي العقل والروح، وأنه من الممكن جدا أن يعود إلى الانكتابة من جديد، ولكن، بشكل أخر مختلف ومغاير. ولقد اهتديت إلى الريشة، مثل كل الناس في العالم، وكان ذلك في مرحلة لاحقة، وكانت الريشة ريشتين، الأولى للعربية والثانية للفرنسية، وتلك الريشة، مع دواة الحبر، هبت عليهما اليوم رياح التغيير، واصبحا في خبر كان.. ولقد جاء زمن القلم الجاف بعد ذلك، وأحدث ثورة في فعل الكتابة، ووجدتني أقول مع بعض القائلين، تعددت الأقلام والكتابة واحدة، ولكن المعاني ليست واحدة، ومقاصد الكتابة ليست واحدة أيضا، فالكتابة بالنيات، ولكل كاتب ما نوى، وعلى قدر العقول والأرواح تأتي الكتابات ولقد اشتريت في بداية السبعينات آلة راقنة، ومع الأيام استأنست بصوتها (المزعج) واعتبرته أجمل موسيقى ممكنة، وقبل ذلك، كانت موسيقى الصمت المعبر هي أجمل موسيقى بالنسبة إلي، ودخلت أخيرا عهد الكتابة الإلكترونية، وتهت في دروبها ومتاهاتها، وأصبحت سجين الشاشة السحرية المضاءة، وإلى حدود الآن، فإنني مازلت أحتفظ بتلك الآلة التي صاحبتني زمنا طويلا، والتي أسميتها ميمونة، لقد قاسمتني شيئا من جنوني، ولقد سجلت نبضي على الورق، وتحملت ثرثرة شخصياتي المسرحية، وشاركتني أحلامي وأوهامي، وهي اليوم معطلة، مثل كل المعطلين في بلادي، إنها تنظر إلي، وأنظر إليها، ولكن من بعيد، وهي عنوان كبير على ذلك الماضي الذي..لا يمكن أن يمضي أبدا.. وإنني أتخيلها وهي تنطق في صمتها، وأسمعها وهي تقول للحاسوب، في يوم من الأيام ستنطفئ أضواؤك أنت أيضا، وستلتحق بي، وسيكون لك مكان هنا على هذا الرف البارد.. ويعلم الله، أية آلة مجنونة ستأخذ مكانك غدا، وكيف سيكون وجه هذا العالم المجنون غدا.. مستقبل الكاتب ومستقبل الكتابة ومرة أخرى، يمكن أن أتساءل: هل يمكن أن ينتهي دور هذا الفعل الذي نسميه الكتابة؟ و متى يمكن أن يتم ذلك ؟ في هذا اليوم الجاري، أم في ذالك الغد الآتي؟ وذلك الرفيق الصديق والرقيق، والذي قال عنه عمنا المتنبي ( وخير جليس في الزمان كتاب) هل يمكن أن تنتهي مهمته، وأن يصبح مجرد ذكرى، أو مجرد تحفة من تحف الماضي، وأن يصبح الكتاب الإلكتروني بديلا عنه؟ وهذه الجريدة اليومية، والتي هي أوراق وصفحات، نلمسها، ونقلبها، والتي يقرأ كتاباتها القارئون، والتي لها علاقة قربى بقهوة الصبح، والتي يتسلى بكلماتها المتقاطعة اللاعبون، والتي يلف فيها ( الزريعة) البائعون، والتي تستخدمها بعض النسوة لمسح النوافذ، والتي يفترشها بعض الناس في الحدائق، والتي، لبعض عباد الله الآخرين فيها، مآرب شتى، هذه الجريدة ، هل يمكن أن نستيقظ صباح يوم من الأيام ، لنجد أنها قد اختفت تاما، وأصبحت في خبر كان، وتختفي في غفلة من التاريخ كما اختفت أشياء كثيرة من حياتنا اليومية؟ وهل ينتهي عصر الكتابة على الألواح والورق والجدران، ويبدأ عصر الكتابة بالضوء ؟ وهل ينتهي رصف الحروف، ورسم الكلمات، و تبقى للأنامل وحدها حق مداعبة الأزرار و ملاعبة ذلك الشيء الذي يسمى ( الفأر) ؟ وهل ينتهي عصر الورق والوراقين، ويختفي زمن الكتب والكاتبين والكتبيين، وتختفي (عادة) التكلم، ويختفي علماء الكلام وكل المتكلمين، ولا يبقى في الساحة إلا التفرج والمتفرجون؟ وإلى عهد قريب، كنا نكتب بالريشة في المدارس، واختفت تلك الريشة التي تلطخ الأصابع، واختفت المنشفة، ولم يعد للدواة أي دور، ومن يدري؟ فقد تختفي هذه الكتابة كلها، بكل أدواتها المختلفة، القديمة الجديدة معا، ونستعيض عنها بالإملاء على الجهاز الكاتب، وقد يصل الأمر إلى أبعد من هذا، فيعرف الجهاز ما في ضمائرنا من أفكار وحالات، فيترجمها، ويكتبها، أو يرسمها، من غير أن نفعل نحن أي شيء، وإذا وصل هذا الإنسان إلى درجة ألا يفعل شيئا، فإن وجوده يصبح بلا معنى، وتكون هذه الآلة أكثر فاعلية وأكثر أهمية منه . وفي المسرح، كما في كل الآداب والفنون المعاصرة الأخرى، دعت كثير من الأصوات إلى قتل المؤلف، وإلى اغتيال الكتابة بالقلم، واقترحت الرجوع إلى أقدم كتابة عرفها الإنسان، والتي هي الكتابة بالجسد الحي، ولقد كان لمخاصمة الكلمة الصادقة دائما معنى الهروب، وكان لها معنى التملص من المسؤولية أيضا، ولقد كانت الثقافة الشفوية في أغلب مظاهرها ثقافة محايدة ورمادية ومسالمة، وكان المتكلمون يختفون دائما خلف تلك العبارة الشعبية التي تقول ( اللسان ما فيه عظم) وهم بلا شك يعرفون، أن القلم عظم كله، وأن فعل الكتابة قد يكون بقلم الرصاص، وأن الرصاص يمكن أن يقتل، وأن يصيب بجروح، ولعل أصدق كل الأقلام هي تلك التي ترسم وتتكلم، والتي لها موقع في الخرائط، والتي لها موقف في الوجود، ولها طريق يؤدي إلى الحق والحقيقة.. ففي الشفوي يحضر المنشد والمغني، ويحضر الزعيم والخطيب، ولكن العالم ااحكيم لا يمكن أن يحضر إلا في الكتابة العالمة.. وبالرغم من وجود كل هذه الأقلام الكثيرة والمتنوعة، وبالرغم من تقدم وسائل الكتابة، فإنني لا أمنح حبي وعشقي إلا لأقلام الرصاص، أما أقلام الحلوى والشكولاطة فإنني لا أعرفها ولا أعترف بها.. فما رأيكم، دام عزكم؟