يعد الكاتب والناقد المسرحي المغربي عبد الكريم برشيد رمزا مائزا في المشهد المسرحي المغربي، ومنظرا للفرجة الاحتفالية بامتياز في العالمي العربي، هذا المحارب المسرحي مازال يحفر في أرض هذه الاحتفالية يواصل كتاباته الإبداعية والنقدية دون كلل ويأبى الاستراحة من مسرحياته: «عطيل والخيل والبارود»و»سالف لونجة»، احتفالان مسرحيان، منشورات الثقافة الجديدة سنة 1976، و»امرؤ القيس في باريس»، منشورات الستوكي ووزارة الشبيبة والرياضة 1982، و»اسمع ياعبد السميع»، دار الثقافة بالدار البيضاء سنة 1985؛ ومن إصداراته التنظيرية:» حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي»، دار الثقافة بالدار البيضاء سنة 1983؛ و»الاحتفالية في أفق التسعينات»، اتحاد كتاب العرب، دمشقسوريا سنة1993؛ حول تجربته الاحتفالية وبياناتها، وواقع المشهد المسرح العربي و... كان لنا معه هذا الحوار: p من أين أتيت للمسرح؟ ولمن تكتب؟ ولمن تتوجه بمسرحياتك؟ n ماذا أقول لك؟ لقد أتيت لفن المسرح من عالم المسرح، لأنه لا وجود في هذا الوجود إلا لهذا المسرح، والذي يمكن أن يضيق ليكون جنسا أدبيا أو فنيا أو فرجة فقط، والذي يمكن أن يتسع حتى يصبح كل الدنيا، وذلك في كل أبعادها وامتداداتها اللامحدودة. في هذا المسرح الوجودي هناك من يعي هذه الحقيقة الأساسية، وهناك من يجهلها أو يتجاهلها، وأرى أنني قد كنت دائما أعرف بأنني مجرد ممثل في مسرح الوجود، وبأنني كنت مطالبا بأن ألعب دوري في مسرحياته الغامضة، ولهذا فقد حولت هذا المسرح الوجودي إلى موضوع للاشتغال، وارتقيت بصور الحياة اليومية العادية فيه إلى درجة الفكر، ودفعت بها إلى درجة العلم والفن والشعر والسحر والإبداع والخيال والاحتفال. لمن أكتب؟ أكتب للقارئ الذي يسكنني أولا، لأن القارئ هو وجهي الثاني أو هو دوري الثاني، وثانيا، أكتب ذلك القارئ المفترض الذي يسكن هذا العالم، والذي يقتسم معي هذه اللحظة التاريخية، ويقتسم معي نفس الهموم والاهتمامات، ويقتسم معي عشق الجمال والكمال، ويقتسم معي الرحلة باتجاه المدينة الفاضلة الممكنة. إنني قارئ كتاباتي إذن، قبل أن يقرأها الآخرون، وأنا ناقد هذه الكتابة قبل كل الباحثين والدارسين والنقاد، ويمكن أن أعترف بأنني قارئ صارم، بأنني لا أقنع بأية كتابة، ولذلك فقد كان ما مزقته من كتاباتي أكثر بكثير مما نشرته وأخرجته للناس. لمن أتوجه بمسرحياتي؟ أتوجه بها للمسرح، لأنني أعتبر نفسي من خدام هذا المسرح الأوفياء، وأرى أن المطلوب من هذه المسرحيات أن تكون جميلة، وأن تكون معبرة، وأن تكون مثيرة ومدهشة، وأن تكون ساحرة ومغيرة، وأن تكون مفيدة وممتعة، وأن تكون صادقة وحقيقية. p للمسرح منذ العصر اليوناني إلى اليوم رسالة مهمة يضطلع بها، بالمناسبة، ما هي الرسالة التي يضطلع بها المسرح الاحتفالي؟ n بالتأكيد للمسرح رسالة، لأنه التلاقي والاحتفال والتعييد في معناه الحقيقي، وبهذا فهو حضور شامل وكلي، وهو حوار أيضا، وهو إحساس جماعي، وهو إقناع واقتناع، وهو مشاركة واقتسام، وأرى أنه لا يعقل أن يستدعي المسرحي الجمهور، وأن ينتظر هذا الجمهور أن يسمع وأن يرى فكرة ما، ثم من بعد لا تقول لهم المسرحية أي شيء، لأن الناس لا يجتمعون بغير موضوع، ولا يمكن أن يتواصلوا بغير تبادل الرسائل، وهذا بالتأكيد هو دور اللغة المسرحية، والتي ترتقي إلى درجة الخطاب المسرحي ورسالتي أنا في المسرحية هي أساسا رسالة غير إيديولوجية، وغير حزبية، وغير شعوبية، وغير فئوية، وغير تعليمية، وغير تحريضية، وهي رسالة إنسان معتز بإنسانيته، وهي رسالة مواطن مدني معتز بمدنيته، وهي رسالة مناضل وجودي يدافع عن الجمال وعن الحق وعن الحقيقة وعن الفضيلة، وعن كرامة الإنسان. إنني أومن بأن الباطل والقبح في هذا الوجود استثناء، وأن القاعدة هي الحقيقية وهي الجمال وهي الحرية. p ما تقييمك للوضع المسرحي العربي الراهن ؟ n من المؤكد أن المسرح العربي هو وجه الواقع العربي، وطبيعي أن يكون هذا الواقع اليوم غامضا وملتبسا، وأن تكون له آلاف الأقنعة، وكذلك هو حال مسرحنا العربي اليوم، فهو يظهر شيئا، ويخفي أشياء كثيرة جدا، وهو يعكس بؤسا اجتماعيا وسياسيا وفكريا في المجتمع العربي، فهناك نقص كبير في التربية الديمقراطية، وهناك جفاف في منابع الحرية، وهناك ضبابية في الرؤية الفكرية، وهناك بؤس في الاجتهاد، وهناك شح في التصور والخيال، وهناك فقر في المؤسسات، وهناك خلل في العلاقات، وهناك تهيب من ركوب المخاطرة العلمية والجمالية، وهناك إصرار على التبعية الببغائية، وعلى الاقتباس والاختلاس وعلى التزييف والانتحال، وعلى الالتزام بما لا يلزم. إن أهم وأخطر ما ينقص هذا المسرح هو أن يكون مسرحا أولا، وأن يكون عربيا ثانيا، وأن يكون معاصرا ثالثا، وأن يكون جزءا أساسيا وحيويا من ثقافته ومن حضارته رابعا، وأن يكون قريبا من نبض الحياة ومن هموم الناس خامسا، ونعرف أن المسرح أخطر من أن يكون مجرد كتابة أدبية، أو مجرد فرجة بصرية، أو مجرد التقاء يعقبه فراق. إن الأساس في هذا المسرح أن يؤرخ لما أهمله التاريخ، وأن يهتم بجغرافيا النفوس والعقول والوجدان والأرواح، وأن يرسم للحياة اليومية خرائطها، وبهذا نكون اليوم في حاجة إلى إنسان مسرحي شامل ومتكامل، أي إلى المسرحي المؤرخ وإلى المسرحي الجغرافي وإلى المسرحي العراف وإلى المسرحي العالم وإلى المسرحي الساحر وإلى المسرحي الحكيم وإلى المسرحي المهندس، والذي يمكن أن يعيد صياغة العقل العربي، ويعيد بناء نفسيته وخياله وذوقه الجمالي بشكل مختلف. p وماذا عن وضعية النقد المسرحي الآن؟ n النقد شريك أساسي في الحركة المسرحية، ويمكنه أن يلعب أحد الدورين التاليين أو هما معا أي أن يكون عامل دفع إلى الأمام، أو أن يكون عامل جذب إلى الخلف، وأرى أن بعض النقد المسرحي العربي لم يساهم في تطوير وتجديد المؤسسة المسرحية ككل، وأرى أن كثيرا من المسرحيين لم يفهموا طبيعة الشراكة المسرحية، وفهموا بأن الأمر يتعلق بصراع وحشي بين سلطتين متنافرتين ومتنافيتين، سلطة الإبداع وسلطة النقد، وبهذا فقد خان كثير من نقاد المسرح روح وجوهر هذا المسرح. لقد كان على هذا النقد أن يساهم في تطوير الحركة المسرحية، وأن يعمل على تثقيف الجمهور، وعلى إعادة صياغة ذوقه، أوعلى حماية هذا الذوق من الميوعة والإسفاف، كما كان عليه أن يحرض على الخلق والإبداع، وعلى أن يفضح الاختلاس الذي يتم تحت اسم الاقتباس، وأن يحتفي بالعبقرية الإبداعية، وأن يصحح الأخطاء أيضا، وأن يوثق، وأن يؤرخ، وأن يكون شاهدا على هذا العصر المسرحي، وأرى أن كل هذه الأشياء لها وجود لدى كبار النقاد المسرحيين العرب، ولكنها تبقى في حكم الاستثناء الجميل والنبيل، والذي تمثله أقلام جادة في النقد المسرحي العربي. p تجربة عبد الكريم برشيد من بين أبرز التجارب المسرحية التي تعمد إلى قراءة التراث التاريخي العربي، ماذا تعني بهذه العودة إلى الأصول؟ وما هي أرضيتها السوسيو ثقافية؟ n أعترف بأنني لا أعود للتراث، لأن التراث لا يوجد في الخلف، إلا بالنسبة للمتخلفين طبعا، ونعرف أن الأساس في التراث أنه حد من حدود الذات، تماما كما هي الطبيعة وكما هو الواقع وكما هو التاريخ، ونعرف أن هذه الذات محكومة بأن تمشي إلى الأمام، ولكن بمعرفة مكتسبة من الماضي، وبتربية تمت في الماضي، وبلغة تأسست في الماضي، وبهذا يكون التراث عاملا من عوامل غنى هذه الذات، ويكون عنوانا على صدقها ومصداقيتها إن التراث في المنظور الاحتفالي هو ذاكرة الجماعات والمجتمعات والشعوب والأمم الحية، وفي هذه الذاكرة يخبئ الإنسان تجاربه دائما، ويخبئ حكمته وعبقريته، ويخبئ علومه وفنونه، ويخبئ أحلامه وأوهامه وأساطيره ومعتقداته المختلفة، وإنني أحاول دائما، في كل كتاباتي المسرحية، أن أقرأ روح هذا التراث سواء في بعده المغربي والعربي أو في مستواه الكوني إنني أقرأه قراءة خالية من التقديس والتبجيل، قراءة نقدية تنطلق من النحن ومن الآن ومن الهنا. p الآن، حين ننظر إلى مسرح الهواة بالمغرب، كمسرحي رائد في هذه التجربة، كيف تقيمها؟ n مسرح الهواة في المغرب كانت تجربة خاصة، لقد كان مشتلا، وكان مدرسة، وكان ناديا للتمرين السياسي الديمقراطي، ومن هذه المدرسة تخرجت أفواج كثيرة من المؤلفين ومن المخرجين ومن الممثلين ومن التقنيين ومن المسيرين، وفي هذا المسرح تربى جيل كامل من الشباب المغربي تربية مسرحية وفكرية وسياسية، وتعلم كيف يدبر مسألة الاختلاف الفكري والسياسي تدبيرا عاقلا. مسرح الهواة هذا كان ورشة كبيرة مفتوحة على التفكير والاجتهاد، وعلى الخلق والابتكار، وعلى التطوع الإبداعي، وعلي روح وجوهر هذا المسرح، وانطلاقا من هذا التطوع كان المسرحي فيه حرا، وكان مسرحه حرا أيضا، ولم يكن تابعا لإدارة أو وزارة أو شركة، ولكنه كان تعبيرا صادقا عن شباب له رؤية ورؤيا، وله حالات ومواقف، وله إشكاليات واختيارات، وهذا ما أعطى المسرح المغربي تراثا مسرحيا غنيا بالتعدد والتنوع وبالحث والتجريب. p لماذا المسرح الاحتفالي وقتها؟ وما الصدى الذي تركه بيانه الأول سنة 1976 ؟ n المسرح الاحتفالي هو المسرح المسرحي، وكل مسرح حقيقي فيه حياة وحيوية، وفيه صدق ومصداقية، وفيه احتفالية وعيدية هو مسرح احتفالي بالضرورة، وهذا بالتأكيد هو ما يمثل روح المسرح الاحتفالي فكريا وجماليا وأخلاقيا، والذي هو دعوة للتمسك بثوابت الوجود، والتمسك بثوابت الحياة، والتمسك بثوابت الإنسانية الحقيقية، والتمسك بثوابت المسرح المسرحي. هناك شيء أساسي غاب عن أذهان كثير من النقاد، وهو أن المسرح الاحتفالي ليس صيغة مسرحية فقط، وليس تقنيات في الأداء والإلقاء وفي تأثيث الفضاء، وليس منهجا في الكتابة الدرامية والمشهدية، ولكنه رِؤية قبل كل شيء، رؤية غير مأتمية، وغير عدمية، وغير عبثية، وغير فوضوية، ولكنه رؤية احتفالية وعيدية، وبهذا فقد جاء ليقترح صيغة أخرى للعيش والحياة، ويقترح علاقات ومؤسسات أخرى، ويقترح مدينة أخرى وعالما آخر، وأن تقوم هذه الصيغة الوجودية المسرحية على الصدق والمصداقية، وعلى الجمال والجمالية، وعلى التلاقي في الملتقيات والافتراق عند المفترقات، وعلى الإنصات لهمس الحياة والأحياء في الزمن الحي. أول بيان للمسرح الاحتفالي صدر في ربيع سنة 1876 ولقد جاء بتقليد جديد على الثقافة المسرحية العربية، والذي هو تقليد إصدار البيانات، ولقد جاء هذا وفاء للعبقرية العربية التي أبدعت رسائل إخوان الصفاء، وأبدعت كتاب ( البيان والتبيين) للجاحظ، وأبدعت كثيرا من الرسائل التبيينية في الثقافة العربية. وهذا البيان الاحتفالي جاء انحيازا لذاتنا نحن الآن هنا، وجاء محاولة للتحرر من مركزية المسرح الغربي، وجاء بهدف ربط المسرح العربي بعالمه وبكونه وبثقافته وبجابيته وبغلافه الجوي، وجاء تأكيدا على الحق في الاختلاف. p المسرح الاحتفالي ومخزون الذاكرة الشعبية، أية علاقة؟ n من طبيعة المسرح الاحتفالي أنه مسرح مفتوح، وأنه متعدد الأبعاد والزوايا، وأنه واقعي وطبيعي وشاعري ورمزي وسوريالي، وهو يحتفي بالإنسان في كليته وشموليته، أي وهو جسد و هو نفس وهو عقل وهو وجدان وهو ذاكرة حية، وتظهر هذه الذاكرة في شكل رجوع إلى الخلف (فلاش باك) أو في شكل أحلام الشخصيات المسرحية، وقد ترتقي إلى درجة التاريخ، والذي هو ذاكرة جماعية مشتركة، أو إلى درجة الأسطورة، والتي تمثل مخزونا من الصور ومن المعتقدات المحكية والمصورة، والتي يقوم المسرح الاحتفالي في كتاباته الإبداعية بترجمتها ترجمة واقعية وعلمية، حديثة ومعاصرة، ولقد أكدت هذه الكتابة على أن التاريخ، باعتباره ذاكرة، ليس حكايات تحكى، وليس روايات تروى، ولكنه روح قبل كل شيء، وأن الأساس دائما هو روح التاريخ قبل أحداثه وأسمائه. إن المهم إذن، في هذا المسرح الاحتفالي، ليس هو الذاكرة في حد ذاتها، ولكنه طبيعة العلاقة بها، والتي يمكن أن تكون علاقات متعددة ومتنوعة، ولقد اخترنا نحن الاحتفاليين أن تكون علاقتنا علمية ونقدية وجدلية ومعاصرة، تنطلق من الآن ومن الهنا. p متى تصبح المسرحية واسعة الانتشار كالشريط السينمائي؟ n من حسن حظ المسرحية أنها لا يمكن أن تكون إلا مسرحية، وعبقريتها تكمن أساسا في هذه الخصوصية، والتي تجعل منها لقاء حيا مفتوحا على الجمهور وعلى المكان وعلى اللحظة وعلى الأتي وعلى كل الممكنات، وتجعل منها احتفالا جماعيا يقوم على المشاركة وعلى الحوار وعلى التفاعل، وهي بهذا مختلفة عن الشريط السينمائي في كل شيء، فهي ليست صورا متحركة ترى بالعين فقط، ولكنها احتفال يخاطب في الإنسان كل حواسه، فهي أساسا حوار فكري، أو هي مأدبة فكرية باذخة، كما يمكن أن تكون حلقة من حلقات الوجدان المتحرر، أو من حلقات الروح، والتي قد تشبه حلقات الذكر الصوفي، وهذا ما يبرر أن تكون المسرحية أقل انتشارا من الشريط السينمائي، ولكن مفعولها، في النفوس والعقول والأرواح، أشد وأقوى بكل تأكيد، وهي بهذا منذورة للبقاء والخلود. p هذه الأسماء ماذا تعني لك؟ p الطيب الصديقي؟ n الطيب الصديقي مخرج مسرحي كبير، قدم مسرحيات كثيرة بأساليب فنية متنوعة، وفاته أن يؤسس مسرحا برؤية موحدة وبخلفية فكرية واحدة.. p سعد الله ونوس؟ n كاتب كبير، عاش صادقا مع نفسه ومع المسرح والناس، ومات صادقا أيضا، في تجربته الأولى أكلته السياسة، ولكن معاناته مع المرض أعادته إلى نفسه، وارتفعت بمسرحه إلى درجة الإبداع الإنساني الخالد. p ألفريد فرج؟ n كاتب ومفكر مسرحي كبير، ولا أحد في مصر، بعد توفيق الحكيم، استطاع أن يكون أديبا ومسرحيا ومفكرا وحكيما إلا ألفريد فرج p بريخت؟ n مسرحي من زمن الحرب الباردة ومن زمن الأيديولوجيا، وهو اليوم في حاجة إلى أن نعيد قراءته عربيا قراءة موضوعية هادئة، وأن يتم ذلك بعيدا عن الأحكام الجاهزة والمعلبة p سلطان بن محمد القاسمي؟ n كاتب عربي كبير، تعززت به الكتابة المسرحية العربية الجادة، وتعزز به التاريخ في المسرح، وتعزز به التراث في المسرح، وتعززت به اللغة العربية في المسرحية، وتعززت به المعاناة الوجودية والسياسية العربية الحقيقية في المسرح، ويكفيه فخرا أن يكون مبدع الهيئة العربية للمسرح.