• نأمل في بداية لقائنا تقديم نبذة صغيرة عن تجربة سعيد بوجغاض الفنية.. عن انطلاقتها الأولية ؟ والمراحل التي أكسبتها المتانة والقوة؟ وعن المعطف التشكيلي الذي خرجت منه ؟. • هو فنان عصامي، من مواليد سنة 1977، تفتقت موهبته في الرسم منذ سنوات عمره الأولى، اعتاد رسم الأشكال البسيطة قبل تعلم كتابة الحروف. كان والده يداوم على تمكينه من الأوراق وأقلام الحبر الجاف التي تعلم منها تفادي الخطأ في الرسم، فقلم الرصاص يمكن محور أما الحبر فلا. أذكر أن والدي كان يرسم لي لقلاقا أو فأرا أو سمكة ثم يعيد رسمها على شكل نقط ويكلفني بتتبعها، فأعيد الرسم انطلاقا من تلك النقط، ثم في المرحلة الموالية أرسم اعتمادا على خيالي. بعد ذلك صرت اشتري مجلات الأطفال: مجلة ماجد ومجلات والت ديزني... وأستلهم منها رسوما جديدة، كما كنت أفعل ذلك مع الرسوم المتحركة التي تسترعي انتباهي بشاشة التلفزة. كانت أول مشاركة رسمية لي في تظاهرة فنية هي مباراة الرسم الوطنية التي نظمتها جمعية تنمية التعاون المدرسي سنة 1989 وعمري 12 سنة، نلت خلالها المرتبة الأولى بميزة حسن، وهي أول شهادة لي في حياتي، وما زلت محتفظا بها، تاركا الميدالية للمدرسة التي كنت أدرس بها، بطلب من السيد المدير آنذاك. هذا الفوز أكسبني بعض الثقة في نفسي، فكنت أرسم كلما سنحت لي الفرصة، مع ترك أعمالي في نطاق ضيق دون محاولة إظهار موهبتي للعلن. كذلك كان الرسم مقررا في حصص الدراسة بتعليمي الإعدادي، حيث ما زلت أذكر إلى هذه اللحظة؛ تلك الدروس.. • ما يلاحظ على لوحاتك المختلفة أنها تنتمي إلى خليط من المدارس التشكيلية وخاصة الكلاسيكية والرومانسية والواقعية.. لماذا هذا المزج ؟ وما هي مبرراته ؟. • شعاري في الرسم هو الحرية، ومفادها أنني لا أجدني مقيدا، أو مفروضا عليّ أن أتقيد بمدرسة معينة، أو توجه فني بذاته. الفنان هو من يعبر عن دواخله بالأشكال والألوان، لذا فكل حالة أكون عليها قد تدفعني لاختيار موضوع دون آخر، وألوان دون أخرى، وتعبير أو بآخر. لم أكن يوما مهتما بالانتماءات الفنية، ولن أكون كذلك. هذه قناعتي. سأرسم كل ما يشعرني بالارتياح، مع احترامي وإعجابي الراسخ باللوحة التي تتحدث عن نفسها، تلك اللوحة التي تجعل المشاهد في غنى عن الفنان، تلك اللوحة التي تعفيني من شرحها لشدة وضوحها وإن شابها بعض الغموض أو بعض الرموز. تلك اللوحة التي يمكن أن أعرضها بمراكش وأنا متواجد بسلا، واثقا أن الكل يعي محتواها وفحواها. تلك اللوحة التي تشعرني باحترام الفن ونفسي والآخر عندما أرهق نفسي في إنجازها. تلك اللوحة المسبوقة بمخاض أسبوع على الأقل. تلك اللوحة التي ترغمك على الاقتراب منها لاستكشاف تفاصيلها. تلك اللوحة التي تروقك للوهلة الأولى ثم تزداد إعجابا بها فيما بعد. • ما هي الحكمة في غلبة اللونين الرمادي والأحمر على كثير من لوحاتك الفنية ؟ وما معنى اللون في عملية الإبداع التشكيلي ؟. • معلوم أن للألوان انعكاسا على إحساسنا، وأننا ننفعل بها ونتفاعل معها. بالنسبة لي فاللون الرمادي أو الممزوج مع بعض الزرقة يحيلني على الوحدة والهدوء، وهي الأحوال التي تحفزني على التفكير والتأمل والإبداع. وأكثر أوقات اشتغالي من المساء إلى بعد منتصف الليل. اللون الأحمر قمة الإثارة، وتوظيفه في اللوحة يجر الانتباه، لذا أحاول توظيفه على الخصوص في اللوحات التي تشكل المرأة موضوعا لها، حتى أني رسمت العديد من النساء بالأبيض والأسود، لكني استحضر اللون الأحمر على الشفاه أو الأحذية أو الدم أو الزهور التي تكون بأديهن أو بقربهن. عملية الإبداع تعني بالدرجة الأولى إنتاجا لا يرتكز إلا على قاعدة واحدة، وهي إنتاج الجمال، وجزء كبير في هذا الجمال يكمن في اللون، أحيانا في كثرته وأخرى في قلته، أحيانا في ألوان فاتحة وفي ألوان غامقة فينة أخرى. • إلى أي حد يمكن للمكان (مدبنة أو قرية أو ضيعة أو جبل او بحر) أن يكون عاملا للخصوبة على مستوى الإبداع التشكيلي ؟ وما علاقة المكان بلوحاتك ؟. • يقال: "الشاعر ابن بيئته"، والفن التشكيلي كما الشعر، يتأثر بمحيطه، والجميع يرى ذلك عندما نوسع من مجالات بحثنا، فلوحات فناني أوربا مختلفة عن مثيلاتها بآسيا أو إفريقيا.. وكلما ضيقنا من مجال البحث إلا واختلفت مواضيع الإبداع. هناك فنانون تأثروا بالمآثر وآخرون بالطبيعة وآخرون بالمخلوقات الحية، فكان لذلك وقع على ما ينتجونه من تشكيل. انظر إلى ما أنتج بشمال المغرب، سترى نساءنا المغربيات بذلك الزي الأصيل الذي يطغى عليه الأبيض والأحمر وتلك القبعات المستديرة وتلك الأزقة المطلية بالأبيض والأزرق السماوي... ثم ارحل إلى صحرائنا المغربية لترى لوحات تكاد تنثر عندها حبات الرمل لترى رجالنا الملثمين فوق جمالهم وتحت نخيلنا الشامخة. الفن التشكيلي هو – إلى حد كبير – إعادة إنتاج لما تراه عين الفنان باستمرار. • نفس الأمر يطرح بشأن عامل الزمن من حاضر أو ماض أو مستقبل ؟ أي إلى أي حد تكون الأحداث والوقائع الاجتماعية أو السياسية أو غيرها، دافعا مباشرا للإبداع ؟ وكذلك حالاته النفسية من فرح وحزن وقلق واكتئاب وغير ذلك، حافزا قويا للمضي قدما في الأعمال الفنية الإبداعية ؟. • كل الفنون تشترك أو تتقاطع في كونها وثيقة الاتصال بالإحساس، سواء لدى المنتج المبدع أو لدى المتلقي المتذوق. هناك لوحات اشتهرت لشدة ترجمتها للأحداث التاريخية الملازمة لها. أعطيك مثلا عن لوحة شهيرة من القرن التاسع عشر لرسامها الشهير دولاكروا وهي "الحرية تقود الشعب"، فقد ارتبطت بانتفاضة الباريسيين ضد الملك شارل العاشر، حتى كدت لا ترى حديثا عن هذه الفترة دون إشارة لهذه اللوحة. وأذكر عنوانا سبق لي أن قرأته بإحدى الجرائد عن كون أحسن ما تنتجه الشعوب هو نتاج فترة الألم. بالمغرب تجد العديد من الأحداث التي تجاوب معها الفنانون، كل حسب تخصصه، فالمسيرة الخضراء المظفرة أفرزت لنا العديد من القصائد والأغاني، كما تضمنتها العديد من اللوحات حتى لدى فنانين لم يعايشوا تلك الفترة. وخلافا لما قلته عن الإنتاج بسبب الألم، فمثل لوحات المسيرة الخضراء نابعة من شعور بالفخر والاعتزاز بملحمة أبدعها المغفور له الحسن الثاني قبل أن يبدعها غيره بالكلمات والألوان. • رغم صغر سنك، وفتوة تجربتك الفنية، إلا أنك راكمت عددا مهما من اللوحات التشكيلية.. فإلى ماذا تعزو هذه الغزارة في الإنتاج ؟. • (يقول ضاحكا) من قال لكم أني صغير السن؟ لعل التجاعيد لا تفكر لأن نغزوني بعد، لكن لا يفصلني عن العقد الرابع سوى ثلاث سنوات، ويمكن لمن يقترب مني أن يرى بعض البياض في شعر رأسي وفي ذقني. بخصوص تراكماتي الفنية، فبالفعل أنجزت العديد من اللوحات، سواء بالصباغة المائية أو الزيتية، لكني كنت دوما أهديها، خصوصا في مناسبات كأعياد الميلاد أو لمجرد شكر لشخص معين عرفانا بفضله. غزارة إنتاجي الحالي تعود إلى رغبتي في تدارك الزمن الضائع، ولأني صرت ملتزما في إطار مجموعة من المعارض التي يفترض تجهيز لوحاتها، كل حسب الموضوع المحدد له، فمثلا عندما اقترح علي المشاركة في معرض الفرس الدولي بالجديدة في أكتوبر 2014 كانت لدي بعض اللوحات إضافة إلى أخرى أنجزتها بالمناسبة، وفي نفس الفترة بالضبط عرض علي المشاركة بمعرض آخر بالمركز الثقافي لأكدال بالرباط حول موضوع المرأة، فشاركت. أحب أن تكون لوحاتي جاهزة، طالما أنها تلائم ميولاتي في المواضيع المختارة. كذلك فغزارة إنتاجي تعود إلى عشقي القديم والأزلي لشيء اسمه "الجلوس بالمنزل"، فأنا لست من هواة كثرة الخروج والتجوال إلا في العطل ولمدة وجيزة، وباقتراح من زوجتي. الجدران المغلقة المحيطة بي وسكون الخلوة والتهيج الذي يصيبني جراء فيرومونات الألوان وتلك اللوحة الفارغة العذراء أمام عيني تغريني لهتك بياضها بريشتي. اللوحات هي الحريم خاصتي، استمتع بها وأريدها دوما حولي. لذا فمجرد إنهائها، ألبسها أجمل الإطارات ليكتمل بهاؤها. • ما هي التقنيات الفنية المعتمدة في لوحاتك التشكيلية ؟ • ليس في لوحاتي تقنيات معقدة، يكفي التمكن من أمرين: التحكم في اليد عند تخطيط الموضوع ثم إتقان مزج الألوان لملء المساحات. ما يلزم – وهو ليس بتقنية – هو الإحساس الفني، وهو يتأتى بتحري الجودة دوما؛ الجودة في اختيار مضمون اللوحة والوضعية الأنسب، الجودة في نوعية الصباغة المستعملة ومدى مقاومتها للمؤثرات الخارجية كالضوء، الجودة في الريشة وتنوع أحجامها من الكبيرة إلى التي تقارب في رأسها حجم الإبرة، الجودة في نوعية الثوب « la toile » وشدة تمدده على الإطار الحامل. ثم الجودة في الزمن، وأعني بها أن أعطي للوحة ما تستحقه من الوقت، خصوصا أني لم أعد أشتغل بالصباغة المائية التي تجف بسرعة، فكل أعمالي الجديدة حاليا هي بالصباغة الزيتية التي تحتاج ليومين حتى أربع كي تجف، تاركة لي كفاية من الوقت لأعدلها كما أشاء أو كما تشاء اللوحة. • الحضور القوي للمرأة بلوحاتك الفنية يطرح أكثر من سؤال .. إلى ماذا يرمز هذا الحضور ؟ • المرأة حاضرة في الفن عموما، شاء من شاء وأبى من أبى. لكل فنان مصدر أو مصادر إلهام، وكثيرا ما ألهمتني المرأة سواء في الواقع أو من الخيال، بل أذكر أن بعض التقنيات تعلمتها من أستاذة لي في مرحلة الإعدادي، وبقدر ما كانت تراني تلميذا تدعوه لحضور حصصها مع أفواج أخرى من غير فوجي، بقدر ما كنت أرى فيها لوحة شقراء مفعمة بالأنوثة، عجزت عن رسمها حينها. بالنسبة لي فالمرأة هي الموضوع الوحيد الذي يستطيع الحفاظ على جماله، سواء أسكنتها في لوحة كبيرة أو ورقة صغيرة، سواء بالألوان أو بالأقلام. المرأة تمنحني مساحة شاسعة في الإبداع، فمختلفة مكنونات نظراتها، مختلفة رسائل ابتساماتها، مختلفة تموجات شعرها، مختلفة تضاريس أجسادها، مختلفة حركات دلعها، ولي رغبة في الإحاطة بها من كل هذه الجوانب، وما زالت لم أنه ذلك، وقد لا أبلغه. في كل مرة أبحث عن امرأة مختلفة - تذكروا أنني أتحدث طبعا هذا على مستوى الرسم فقط – وهنا تحضرني المقولة الفرنسية Cherchez la femme للكاتب الفرنسي الشهير Alexandre Dumas (père).. صدقوني، المرأة ليست مخلوقا ضعيفا كما نعتقد، فهي قوية لدرجة أن تفرض نفسها على رسومي بالقلم ولوحاتي الزيتية وإن حاولت تفاديها. المرأة نالت في فني أكثر من حقها في المناصفة، وقد يأتي زمان تحتكره فيه. المرأة رمز الجمال ويدي تهوى تشكيل هذا الجمال ولو بالأبيض والأسود، وأراه فيها أكثر مما أراه في الطبيعة بباقة ألوانها. المرأة كانت حاضرة عند ولادتي وعند قراني وعند أبوتي وحتما ستكون عند وداعي الأخير. المرأة حاضرة بأوجاع آلامها وآهات حميميتها، باتسامتها الخجولة وبضحكتها الجريئة، بدموعها الصامتة وبكائها العفوي. المرأة حاضرة كذكريات جميلة، أ فبعد كل هذا أقصيها من فني؟ ! • شاركت مؤخرا في أحد المعارض الفنية التي أقيمت بمسرح محمد الخامس بالرباط .. تحدث لنا عن ذلك ؟ وما طبيعة الاستفادة التي خرجت بها من هناك ؟. • بعد سنوات الضياع والانغلاق وحياة الظل، وبسبب دعوة المقربين من العائلة والأصدقاء وزملاء العمل للجهر بموهبتي المتواضعة، ارتأيت تجربة حظي، فانخرطت في إحدى الجمعيات التي فتحت لي أبواب المعارض الجماعية للاحتكاك بغيري من الفنانين، وكم كانت سعادتي وأنا أراني مدعوا للحديث عن لوحاتي لشخصيات وازنة أما عدسات الكاميرا، سواء برواق باب فاس بسلا، أو مسرح محمد الخامس والمركز الثقافي لأكدال بالرباط ومعرض الفرس الدولي بالجديدة وغيرها.. كلها مشاركات تسهم في تعزيز سيرتي الفنية. أول ما استفدت هو أني لم أطلع فقط على تجارب غيري من الفنانين، بل تعرفت على هؤلاء الفنانين وعلى شخصياتهم الطيبة، ولم أجد بأي منهم ذرة أنانية، فالكل شرح لي طريقة اشتغاله وأسرار تقنياته. جنيت العديد من لحظات المرح معهم وحتى الجنون مع بعضهم الآخر، ونحن على اتصال دائم. المعارض أشعرتني ببعض الثقة في النفس، وأن الله منحني ما يجعلني متميزا في مجال ما. استفدت من المعارض كذلك، ربط العديد من علاقات الصداقة مع معجبي الفن التشكيلي. • كيف ترى مستقبل الفن التشكيلي بالمغرب ؟ وما هي أهم مدارسه ؟. • أظن أن موجة الاهتمام بالفن الشكيلي بالمغرب بدأت ترتفع، إلا أنه مجال يظل قاصرا على النخبة، فليس بإمكان الجميع تذوق اللوحة الفنية، وإن أمكن ذلك فليس بمقدور الجميع اقتناؤها، وأنا أتحدث هنا عن اللوحة الفنية التي أنجزت من أجل الفن وبمجهود ضخم، وليس تلك اللوحة التي تعدّ كما "الوجبة السريعة"، التي تسوؤني رؤيتها.، وتشعرني بعدم احترام صاحبها للمتلقي. أحب أن أجدني في زمن يقدم فيه المقتنون على شراء اللوحة بثمن معقول، وليس انفاق مبلغ ضخم من أجل الاسم، وأنا مستعد أن أكون أول من يرسم بدون وضع اسمه، لولا خوفي من تجرؤ الغير على وضع اسمه عليها، ومعلوم أن هذا الميدان مليء بالتحايل والتقليد والتزوير، مما لا يتسع المجال لذكره. وبما أن الأذواق لا تناقش، فجواب سؤالكم عن أهم مدارس الفن التشكيلي بالمغرب هو ببساطة: كل المدارس. أقولها لأني – وكما سبق الذكر – أومن بالحرية في الإبداع، وإن كانت هناك بعض التوجهات التي لا تستهويني، إلا أني أحترم أصحابها.