(يحدث لي عادة أن أطيل النظر إلى المرآة، فينمو شعر رأسي فيها طويلا حتى ينسدل مجاوزا كتفيَّ. وهكذا أفعل. ينمو الشعر، فأتحسس ناصيته منجذبا إلى ليونة سوادها الرائقة، وإلى عينين ملولتين كبركة آسنة. أغرق في البركة الآسنة، وأصبح كائنا في تخيلات بديعة. أتخيلني أكتب داخل غرفة وحيدا، وفي صمت الحكماء، وأفكر فيكِ. أتخيلني أعطيكِ مُسوَّدة نصي الأدبي هذا. خذي واعطيني رأيكِ) أسمع مرعوبا طرقات عنيفة على باب غرفتي. الطارق يجعلني أتخيل قبضة عظيمة لرجل في ضخامته الجسورة لا ملامح له. أحاول أن أتكهن من يكون صاحب هذه الطرقات، لكن إيقاعها يتغير. ذاكرتي كمنزل مهجور؛ فلا وجه يطل منها حتى أقول إن ذاك سيزورني. أسمع أصواتا تخفت نبراتها وتعلو، تتداخل وتتوحد، ثم يكون صمت قصير، ثم تنبعث في أثيرها، وتصير قريبة من أشكال آدمية تترقب اقتراف فعل شنيع لا أدري ما هو بالتحديد، لكني أدرك أني الفريسة- الهدف، مثل طفلة بريئة يدعوها رجل مريب لتأخذ حلوى. بتوجس أسحب غطاء الفراش، وأغطي نصفي، وأضع بجانبي الأيسر، فوق خوان صغير، رواية عبد الرحمان منيف "قصة حب مجوسية"، التي كنت أستمتع بقراءتها. إن الجماعة الآن تتكلم بهدوء: جلال دمث الأخلاق. أقسم لَهُوَ من جنس الديناصورات. يكاد يكون نبيا هذا الولد. جلال ليس من طينتنا يا صحابي. أتقول إنه شاذ؟! (مضت ثلاثة أيام على اكترائي الغرفة. ألست غريبا عنكم؟! لماذا تريدون رؤيتي؟ أتودون تذوُّق وجهي؟ ستتذوَّقونه، وستقولون إنه تافه، ولكن لدي عزاء: أقول طورا إنه مالح وطورا إنه حلو. أيُوتِّركم فضول معرفة طعم وجهي؟ هل أفتح لهم وأتركهم يتذوَّقون بألسنة ممدودة واحدا واحدا؟!) ما رأيته قط يُخاصم أحدا أو يُعاركه أو حتى يُجادله. فليفتح الباب حتى يتهوَّى كبقية خلق الله. إنه حتى لا يساوم البقال كما نساومه. إنسان خلوق. لا يحملق في فتنة النساء كشبان الحي العاطلين. لا يشرب مُسكرا ولا يدخن مخدرا. هو طيب لكنه يحتاج إلى تغذية جسده كما يلزم؛ فهو هزيل جدا. رأيته في مطعم "الفردوس". يكاد لا يأكل شيئا. يأكل كالعصفور. أحسني مغلفا بالذل. أما الرجل المريب فما عاد مكتفيا بالنداء. إنه يتقدم نحوي مهرولا. إنهم يحاكمونني مُدثِّرا نصفي. سيصدرون حكما ظالما في غيابي. لا أستطيع إتيان حركة؛ فأصواتهم مُعجزة في خلق جسد آخر في جسدي. (آكل بنهم بهيمي، وأشرب أقوى الأنبذة، وأدخن المخدرات أيها الملاعين! حتى إني صنعت مخدرا في غرفتي أتناوله بعد أن أقفل الباب والنافذة، وأخفي ما يدفعني إلى الانتحار، فأهلوس حينئذ سعيدا، وأحلم بعوالم في نصوص سردية لقارئتي العزيزة. فابتعدوا! وأقول لكم إني أستطيع نكْح أقبح امرأة برضاها أو بغيره وسط أعينكم البلهاء. ابتعدوا! هل يستطيعون كسر الباب؟ هل أفتح لهم ليتذوَّقوا جسدي؟ أليس فتح الباب كفتح الفخذين؟!) أصواتهم تصبح أكثر تحررا. الصوت الضاج يطغى على الصوت الهادئ ويغتصبه. الساعة الحادية عشرة وخمس وعشرون دقيقة يا جلال. ما رأيته قط يرفع صوته على الجيران. ما رأيته أنا. إني لا أعرف هذا الجلال. كيف هو؟ هل هو قاطن مستجد في حينا؟ إنه شديد الانعزال. فليخرج ليتهوَّى قليلا! ألا يشتغل؟! إنه الآن يستمني على أفلام الأنترنت! الخجل سيقوده إلى الاكتئاب. سيموت هذا الشاب اللطيف! إنه وحيد وخجول وبطَّال ! خوفه هذا سيهلكه في النهاية. أدثر جسدي كله، ويراودني إحساس بالتلاشي، كقطرة الندى وقت سطوع الشمس. (أحلم بالمشاهير متألمين بألم التطفل والأضواء مُسلَّطة عليهم. لكني لست مشهورا. هل أفتح لهم حتى ينتهي ألمي؟ أحقا سينتهي بفتح الباب أم سيشتد؟) يهمس رجل فجأة، فيصمتوا برهة، ثم أسمع وشوشات لا أميز منها إلا القليل: إنه يخفي شيئا. قد يكون مجرما مبحوثا عنه. (سأكون سفاحا إن لم توقفوا طرقاتكم المتوسلة. هل أفتح لهم ليعرفوني؟ أنا لست كما تظنونني!) يطرقون طرقات متعبة، ويباركون لي الآن عيد الفطر بأصوات ضاجة. (إنها أصوات أشخاص لا أعرف أشكالهم. إن في مثل هذا اليوم يتطفل المرء, ويبارك غريبا, وفاتح الباب يحترز مزعوجا من ألا تنفلت منه ضرطة. ولكن لماذا تنمو نيَّة فتح الباب في داخلي؟ كما لو أن ساكنا خبيثا في داخلي ينخزني! إنهم يُصوِّتون كما لو أني غير موجود مستأنسين، غير أن هاجسا ينتابني: إنهم لمُدركون أني موجود بشامَّتهم، ويستلذون تظاهري بالغياب) صوت رزين: عيد مبارك يا جلال. ثم صوت هازئ: ألا تُصلي يا جلال صلاة العيد؟! ثم صوت سلطوي: عيد مبارك يا جلال! يطرقون، ولا أبارك عيدهم. أحسني مذنبا ذنبا لا يغتفر. ذاك الصوت يصير أكثر سلطوية كما لو أن صاحبه ينوي كسر الباب بدافع أخلاقي ما: عيد مبارك يا جلال! قُمْ يا رجل وتهوَّى! تُعاودني صورة ضخامة رجل بلا ملامح، فأتخذ وضعية الجنين في غطائي، وألتعن. (هل أفتح له؟ ألن يقترف أيها الساكن الخبيث فعلا شنيعا؟!) أحس بالسخف ينغل في أعماقي، وأدعو الله أن يكفوا عن الطرق والكلام. قد يكون خارج غرفته. ربما هو في مقهى"باريس". أجل. إني أراه هناك غالبا. فلنره هناك. نبرات أصواتهم تتغير فجأة. إنها كصوت أب يعِدُ ابنه كاذبا بهدية. أسمع همهمات ودقات أقدام على الأرض. تمر برهة. أسمع هزهزات مقبض الباب، فيهتز قلبي كما لو أنهم يمسكونه كما يمسكون المقبض. (إنها لحيلة أطفال!) يطرقون، يتكلمون. أتململ كمن به مس. أغمض عينيَّ وأفتحهما. أشعر ببرودة أنفاسي. (هل أفتح للملاعين؟!) أبحث جادا عن حل عندما أدرك أني قد وصلت قمة الضعف، فأنظر جانبا حيث الخوان الصغير. أضع سماعة الأذن، وأبحث عن موسيقى تثيرني في حاسوبي. ما يزالون يُقلِّبون ذاك الجلال بألسنتهم، وأحاول ألا أُقلِّب جلالي بصمتي. أدفع عني الغطاء بقدميَّ مقاوما الشلل. إنه من الصنف الذي يفعل كثيرا في أحلامه! (لقد شموا قذارتي في بضعة أيام. كلا. أشم أريجي. هل أنا صادق فيما أقوله؟ هل أنا جلالي؟ أنا جلالهم؟ أكاد أرى رأس أفعى تطل وتختفي في جحرها. كيف سطعت رائحتي؟ هل للرجل المريب خطم كلب صيد؟ أأنا صادق أم هم الصادقون؟ هل أخرج لأتهوَّى؟ أأبارك عيدي؟ لماذا لم أُصلِّي معهم؟ أأبارك عيدهم؟ أأبارك العيد؟) ألتعن وأفكر في موسيقى مُحبَّبة. سأستمع إلى أضمومة موسيقية لفرقة رامشتاين. أرفع عقيرة الحاسوب، أغمض عينيَّ. أكاد لا أسمع أصوات الطارقين. ألن أثقب طبلة الأذن؟ غير مهم. في أعماقي يتبخر شيء لزج قليلا قليلا. أفتح عينيَّ ببطء، وأنظر جانبا، وآخذ رواية عبد الرحمان منيف، أقرأ فيها ببطء، وأكاد لا أفهم شيئا؛ فصوت الفرقة يُسْخِن دمي، ويدفعني إلى الحركة، وذهني يعشق الطيران بعيدا، لكني أحاول استيعاب سطر هنا وهناك، وتناسي صورة وجهي وأحداث تُعكر مزاجي. وتمرُّ ساعة، وأنا مستلق كجثة على سريري. أملُّ روعة الموسيقى، وأحن إلى روعة الصمت، وأشعر بألم في أذنيَّ، وبتعب الكسل. أخفض عقيرة الحاسوب، فتنهال علي تلك الطرقات. (عزيزتي القارئة، أعلمكِ أني كنت أُسوِّد مدخنا مُخدِّري العجيب، ومُرحبا بعشرة ضيوف ثقلاء، بابتسامة ممطوطة جدا، فتحت لهم بابي، عندما أزلت عن رأسي سماعة الأذن، و ألا رغبة لي في نكْحك وسط الأعين الشرهة. إن هذا لَجِدُّ مَعيب(!