لقد خطرت فكرة تحرير هذه السلسلة من المقالات عن مدينة “طنجة”، عقب اللقاء الأدبي الذي جرى بيني وبين صديقي الحميم، السيد ياسين الحليمي مدير مجلة “طنجة الأدبية” الورقية منها والإلكترونية. والمشروع يكمن، في تحرير سلسلة مقالات متوسطة الحجم لنشرها بمجلة طنجة الورقية كما الإلكترونية، ثم تجميعها في كتاب يصدر عن دار النشر “لينام” الواقعة تحت إشراف طنجة الأدبية. ومن جانبي، كمحرر إلى جانب طنجة الأدبية، لقد ارتأيت أن أحرر هذه السلسلة من المقالات بالإعتماد على مصادر منشورات الكُتّاب العالميين الذين زاروا طنجة، سواء كانت زيارتهم قصيرة المدى او المنتهية بالإقامة فيها كما هو شأن الكاتب الشهير “بول بولس” أو “جان جنيه” بالعرائش. وفي هذا السياق سأستهل هذه الدراسة، بمقدمة تعبر عن انطباعي الخاص اتجاه المدينة التي هي في الأصل مدينتي ومنشأ طفولتي. ثم أشرع بعدئذ في تهيئة مقدمة مبسطة عن تاريخ المدينة القديم، وبعدئذ أتابع هذه المحاولة الأدبية عبر شخصية الكاتب الأمريكي الأصل “بول بولز” لأسرد حكايته الشخصية عنها بعد أقامته بها لما يعادل نصف قرن من حياته . والتوقف بالمناسبة، على كل الوجوه الأدبية التي تقاسمت معه سحر ذكرياتها الخالدة. مدينة الوهم والسراب إنها بالفعل، مدينة ساحرة من لما كانت منذ آلاف السنين. وسحرها العجيب والفاتن يكمن في السّحر الذي تقذفه في قلب كل من خولت له نفسه، ان يكشف عن سر جوهرة روحها الخالدة. فتغدو مفتونا بها وأنت لا تدري مصدر هذه الفتنة ولا سحرها لك. وتسافر إلى أقصى الدنيا وتنسى كل شيء.. وذات يوم يتحرك الحنين الطنجاوي في سراديب روحك، وإذا بك عائد إليها بلا إرادتك ولا رغبتك، ولكن بالذي يسكن في روحك أنت أيضا من التوق إليها. وكذاك كان، أن عدت في صيف 2019 إليها بعدما غبت عنها قرابة تسعة سنين. ولغاية الآن لست أدري كيف حصل ذاك. وكل ما أذكره هو انني بعد غيبة قد طالت لبضعة سنين، وجدت نفسي فجأة أعبر السماء كما البر والبحر في ظرف ستة ساعات لأجد نفسي من جديد على رصيف مينائها. وكانت المفاجأة، أن شعرت من جديد بهذا التواصل الجمالي الخفي بيننا وكأنني لم أغادرها من قبل قط. وبالرغم من كل هذه التراكمات الحداثية والمعمارية التي طرأت عليها أثناء غيبتي عنها، إلا أن شيئا واحدا ظل كما هو، بصمة أصالتها الكامنة في مفاتنها الخفية. ولكل طنجته، ولي طنجتي ببحريها ومضيقها.. برياحها ورياحينها العتيقة، ضف عليها، الفينيقية والرومانية، كما الأندلسية التي ما زالت تسري في شرايين أزقة مدينتها القديمة وفي بريق عيون أطفالها. والأهم ما هو دائم فيها من كل ما ذكرت، أوهامها وسرابها. فشعوري حين تواجدي بها، أن كل شيء فيها يزداد صفاء ولمعانا وبريقا. فأنا مثلا حين أتجول من جديد، سارحا في أزقتها القديمة، تبدو لي هذه الأخيرة وكأنها قد تجددت من تلقاء نفسها، واكتسبت جمالا إضافيا لم أكن أدركه من قبل، بفعل عصا موسوية أو خاتما سليمانيا يجدد من سحرها باستمرار. والعكس يتجلى هو الآخر في الظروف التي تكشف لي فيها حبيبتي طنجة، عن بؤس سكانها، والحزن العميق الذي يسكن قلوبهم، وهاجس قدرهم المتعلق بقدرها. فتبدو لي طنجة في تقلباتها الشبيهة بالريح الشرقية التي تتميز بها، وكأنها من أشقى وأتعس خلق الله على هذه المعمورة. وكأن حالتها النفسية، هي مرآة و صدى انعكاس للحالة الشعورية التي يستشعرها كل من ارتبط بها واقترن بها وأسلم قدره كما مصيره لسر مزاجها المتقلب. ثم هنالك من مميزاتها المنطبعة في نفسي ظاهرة السراب. فأنا أشعر مثلا، بأن كل ما أمتلك فيها، مهما بلغ حجمه وقيمته، ليس سوى قبضة سراب. يحصل لي أن أنفق وأضاعف الإنفاق المادي كما المعنوي، وكأنني لم أنفق شيئا ولم أستشعر بأي شيء. ويحصل لي أيضا، أن أرى الملائكة تجوب ليلا، سماء صيفها الدافئ، ثم انتبه كالخارج من حلم عجيب إلى كابوس اليقظة، ولم “أُتَنْتِن” ولا سهرت مع العشبة الذهبية الخضراء. حين كنت طالبا، في السنة الثانية إعدادي بثانوية ابن بطوطة بطنجة، تصادف أن طلب منا أستاذ التاريخ والجغرافية، أن نحضر له بحثا مبسطا عن أحد المعالم التراثية للمدينة. وكان اختياري أن قمت ببحث جد مبسط لتاريخ المدينة الضارب في القدم. وبالفعل جهزت بحثي وقدمته للأستاذ الذي لاقاه بالتقدير والإستحسان. واليوم وانا بصدد إنجاز هذه الدراسة المتواضعة عن تاريخ طنجة، قفزت لذاكرتي من ماضي الدراسي، خلاصة ذاك البحث التي ظلت عالقة بذاكرتي طوال كل هذه المدة الزمنية من عمري. ومجمل هذه الخلاصة يتلخص في القصة الأسطورة التي اطلعت عليها آنذاك، وأنا أجهل اليوم مصادرها. وتحكي الأسطورة، أن امرأة من أسرة شهيرة تنتمي إلى عصور غابرة، قد طلبت من أحد الملوك الغازين أن يمنحها قطعة أرض بحجم جلدة بقرة لتشييد مدينتها. واستغرب الملك من هذا الطلب الغريب، ولكنه استجاب لطلبها متيقنا مع نفسه، بأن الأمر لا يعدو عن كونه شطحة خيال من امرأة لربما بها مس. ولكن المرأة عادت عند الملك من جديد وامتثلت بين يديه، قائلة” لقد اتيتك بجلدة البقرة لاستلام مدينتي أيها الملك الكريم”. وفي الحين أخرجت كبة خيط كبيرة وبسطتها بين يديه ثم دحرجتها قائلة.” لقد قصصت الجلدة على شاكلة خيط أطول ما يكون يا مولاي، مثلما ترى”. فاستغرب الملك من حدة ذكائها وأجابها قائلا:” امض أيتها الفاضلة لقد منحتك كل ما تحتاجين إليه لتشييد مدينتك.. فكانت ولادة طنجة”. -يتبع- بقلم فؤاد اليزيد السني- بروكسيلبلجيكا نذكر القارئ الكريمة بأنه سيجد في المقالة اللاحقة التي هي قيد الإنجاز الآن، كل المراجع التي اعتمدناها في هذه السلسلة من القالات التي ننوي نشرها تباعا عن مدينة طنجة والوجوه الأدبية اللامعة التي خلدتها عبر إبداعاتها الفنية أم السردسة.