يغمس الباحث الدكتور جوزيف إلياس كحَّالة، الحلبيُّ النشأة الباريسيُّ الإقامة، يراعته في مداد الوفاء، ليعيد إلى الأذهان في الذكرى 125 على الرحيل، صورة شاعر حلبيٍّ أصيل، أشادت به قلِّة من الناس، وتغاضت عنه أكثريَّتُهم، لما في حياته المتفرِّدة من آراء ثورويَّة صاخبة ومواقف بطوليَّة لاهبة.. حتِّى إنَّ مصرعه في محبسه، وهو بعدُ في شبابه، شكَّل علامة استفهام كبيرة لا تزال باقية في الوجدان إلى اليوم! جبرائيل الدلاَّل (1836-1892) شاعرٌ وناثرٌ وصحافيٌّ رائد. وهو سليل أسرة نبيلة عُرف عنها حُبُّ الفنون والآداب ونهل العلوم والثقافات وعقد مجالس الشِّعر والفكر.. ولا تزال دار آل الدلاَّل في حلب – على ما نابها مؤخَّرًا من خراب جائرٍ مُخزٍ – شاهدة، إلى يومنا هذا، على منزلة هذه الأسرة ومكانتها في المجتمع الحلبيّ. شغل الدلاَّل أهل زمانه بقلمه السيَّال النابض بالحياة. وإذ تسنَّى له، كما حال غيره من أولاد العائلات الحلبيَّة الميسورة، أن يجوب البلدان، وأن يسافر إلى باريس التي تشبَّع من أفكار حركاتها الثورويَّة آنذاك، وبخاصّة أفكار فولتير، تبنَّى، بدَوره، الفكر النضاليَّ الحُرّ. ولزم رأيًا في الحياة لا يرضى المساومة، ولا يهاب سطوة محتلٍّ أو يخشى رهبة حاكم. ولعلَّ في هذا تأكيدًا لدَور أبناء حلب، الذين ما كانوا من الأُسر الرقيقة الحال وحسب، بل من الأُسر الميسورة أيضًا، في استشراف الفكر التحرُّريّ والانتفاض في وجه الاحتلال العثمانيّ. وكان الجامع الأوحد بين الجميع حُبُّ الوطن والذود عن وجوده. ويقودنا هذا أيضًا إلى الزعم بأنَّ حلب الشهباء لا تُعرف من قلعتها وضيافتها وطباع أهلها وحميميَّتهم وحسب، بل تُعرف أيضًا من رجالاتها الذين صنعوا نهضة فكريَّة تنويريَّة هامَّة أشعَّت بنُورها خيرًا على جيرانها العرب، وتستحقُّ أن توضع بإنصاف في سياقها المناسب وفي إطارها التاريخيّ، قراءةً ودرسًا. وقد مهَّد هؤلاء الحلبيّون، يدًا في يد، لثقافة نضاليَّة ترفع من كرامة الإنسان، أيًّا كان، وتُحيي دَور اللغة، وتتطلَّع إلى مستقبل معرفيٍّ حضاريٍّ أكثر إشراقًا، مهما تجهَّمت السماء ودارت الدوائر. ولأنَّ نفوس العباد تأنس لما تعوَّدته وتبقى راسخة على اعتقاد صحَّته، وإن كان في الحقيقة خاطئًا، قضى الدلاَّل ضحيَّة استشرافاته الليبراليَّة تلك ورسالته التحريريَّة، التي أعلنها للناس، جنبًا إلى جنب مع أقرانه، في المجالَين، الاجتماعيِّ والقوميّ. وسُجن ظُلمًا مدَّة سنتين في آخِر حياته. ووُجد ميْتًا في زنزانته قبل انقضاء “محكوميَّته” بيوم واحد! إهداء الكتاب، الذي يقع في 208 صفحات من القطع الوسط ونشرته دار نعمان للثَّقافة (جونيه – لبنان)، إلى “الحبيبة حلب، ملحمة التاريخ والأدب والطرب.. وإلى جَمالاتها.. وإلى كلِّ شبر من طاهر ثراها”؛ وإلى “كلِّ حلبيّ مخلص أصيل لا ينفكُّ يحمل في قلبه ووجدانه وفي حَلِّه وتَرحاله مدينته حلب”. وإلى “جبرائيل الدلاَّل، السيِّد، الماجد، الرافع صوت الإنسان شِعرًا ونثرًا.. ساحر الشِّعر وشاعر السِّحر” (ص9). وجاء الغلاف معبِّرًا منتقى بإتقان، تتصدَّره، مع صورة المترجَم له، لوحة للرسَّام الفرنسيّ الشهير بول سيزان. وهي لشجرة فستق نادرة في جوار مرسيليا (فرنسا)، حيث عاش الدلاَّل ردحًا من الزمن. وقد جُلبت من القسطنطينيَّة العام 1834 ولا تزال حيَّة إلى يومنا هذا. ولا يخفى ما للفستق من دلالة عند الحلبيِّين. التصدير (ص13-20): “الأديب الفيلسوف والمؤرِّخ كحّالة يكشف مخبَّآت جبرائيل الدلاّل”، لعميد مجلّة “الضاد” الحلبيّة العريقة (تأسّست 1931) الأديب الشاعر رياض عبد الله حلاّق. وفي السطور إجلال وتقدير للدلاَّل “الذي ملأ عمق القرن التاسع عشر، بشِعره وقوافيه… وظلَّ قريبًا من أبناء جلدته، على الرغم من تأثًّره بأدب الغرب، الذي دعا إلى التحرُّر من الجور والظلم والاضطهاد”. كما يشير التصدير إلى قصيدة “العرش والهيكل” التي كانت سببًا رئيسًا في نهاية شاعرنا الأليمة. وعُدَّت بحقٍّ تأريخًا وافيًا “لحقيقة المرحلة الأدبيَّة والفكريَّة والفلسفيَّة، التي عاشها علماء النهضة ومفكِّروها، في مدينة حلب، والبلاد العربيَّة إبَّان الحُكم العثمانيِّ في القرن التاسع عشر”. وفي مقدّمته (ص25-28) المنقولة أيضًا إلى الفرنسيّة في آخِر الكتاب، يبيِّن المؤلّف كحَّالة ما شدَّه إلى سيرة الدلاَّل “شهيد الأدب والفكر”. وقد نشأ كحَّالة في بيت والديٍّ يقع في شارع جبرائيل دلاَّل (أحد أهمِّ شوارع مدينة حلب في حيِّ العزيزيَّة)، وكان يطيب له أن يتردَّد على دار آل الدلاَّل الواقعة في حلب القديمة، قبل مغادرته بلده. استهلَّ كحّالة كتابه بالحديث عن “النهضة الفكريَّة في حلب خلال القرن التاسع عشر”. ثمَّ فصَّل في الحديث عن آل الدلاَّل من الروم الملكيِّين الكاثوليك، وعن بيان نسبتهم وما اضطلعوا به من أدوار وشغلوه من مناصب وتركوه من مؤلَّفات معلومة أو مجهولة، منشورة أو مخطوطة. وقد استعان بالصور والوثائق الفريدة التي حصل عليها من أرشيف العائلة والطائفة أو من الأصدقاء. واللافت، هنا، مراجعته لتسمية دارجة لأحد أزقَّة حلب الشهيرة “زقاق الأربعين” (الحاشية، ص64). ثمَّ أورد مقالاً شائقًا لنصر الله الدلاَّل، شقيق المترجَم له، بعنوان “المال والأعمال” (ص81-87)، كان نُشر في مجلَّة “الجنان” البيروتيَّة العام 1870. ثمَّ جاء الحديث عن دار الدلاَّل الأثريَّة التراثيَّة، ومَن سكنها من حلبيِّين وأجانب على توالي السنين. وخصَّ جبرائيل الدلاَّل وقصيدته “العرش والهيكل” بالنصيب الأوفر. وكان الدلاَّل نظم قصيدته هذه، ونُشرت له بإمضائه وهو في مُقتبل الشباب في باريس (1864)، شِعرًا عموديًّا مُقفًّى على البحر الكامل (152 بيتًا). وتصرَّف فيها نقلاً عن قصائد فولتير الفرنسيَّة الثورويَّة. وفي القصيدة تكلُّمٌ لاذعٌ على السياسة والدين ورجالاتهما، ونداءٌ إلى الثَّورة، وصرخةٌ إلى المساواة.. في جرأة بالغة ونقد صريح.. إلى ما في الأبيات من مواعظ ونصائح لا تحمل ابتعادًا عن الدين أو تأليبًا عليه، بل هي شذب لكلِّ سلوك شاذٍّ أو معتقد فاسد ذي مآرب مضلِّلة. وقد وُصفت القصيدة بأنَّها أمنع من العقاب وأندر من الكبريت الأحمر… ولمَّا رجع الدلاَّل إلى وطنه، بعد نحو ربع قرن، وُشِيَ به واتُّهم بأنَّه من أنصار الحُرِّيَّة. فنُكب صاحبها لأجلها، أي القصيدة، ومات (أو قُتل) في ظُلمات السُّجون بجريرتها (الحاشية، 123). ويحتلَّ كتيّب “السحر الحلال في شِعر الدلاَّل” لعلاَّمة حلب ونابغتها قسطاكي الحمصيّ (1858-1941) القسم الأخير من الكتاب (ص145-189). صدر هذا الكتيِّب/الديوان في 44 صفحة وطُبع في القاهرة العام 1903. وفيه جمع الحمصيّ، وهو ابن أخت المترجَم له، قصائد الدلاَّل التي وصلت إليه، قدر ما استطاع، مع بعض من نثره. كما نشر الحمصيّ في ترجمته ما نظمه في رثاء خاله. وإنَّ إعادة النشر في كتاب كحَّالة، في حدِّ ذاتها، عملٌ يُشكر عليه المؤلِّف، إذ طالما خفي نتاج الحمصيِّ هذا، وبالتالي سيرة الدلاَّل، عن كثيرٍ من الباحثين والقرَّاء فما وجدوا إليهما سبيلاً. أضفْ إلى ذلك تطوُّر تقنيَّات الطباعة التي أكسبت العبارات، وبخاصَّة الأشعار، حلَّةً جميلة. ولقد أحسن د. كحَّالة صنعاً، سواء في حواشيه الكثيرة أو في ثبت مصادره ومراجعه العربيَّة والأجنبيَّة، في أن عاد إلى ما ذُكر عن الدلاَّل بإسهاب أو اقتضاب. وطابق المعلومة على اختلاف زمان نشرها. وصوَّب ما قد رآه من خلل. في شِعر جبرائيل الدلاَّل تألُّقٌ في وصف “جَمال الطبيعة والخليقة، وبخاصَّةٍ المرأة…”، ومعاناةٌ مضنية مع كلِّ ما من شأنه أن يئد الفكر الحُرّ، ومجافاةٌ لكلِّ دين أو سياسة إذا ما رأى فيهما امتهانًا للإنسان، وسعيًا لتَركه مستغَلاًّ يغطُّ وضميره في سبات عميق لا نهاية له! وهذا كلُّه ليس بالشيء القليل أو الأمر اليسير في فترة كان ناسها يحاسَبون على همسة!! إنَّ جَماليَّة الشِّعر/السِّحر عند جبرائيل الدلاَّل مذهلة وتستحقُّ أن تنكبَّ عليها دراسات وتتناولها أقلام. ساعده في ذلك تضلُّعه من الأدب والفنِّ والموسيقا ومن علومٍ شتَّى، ومعرفته بلغات عديدة فتحت له أبواب الاطِّلاع على ثقافات الشرق والغرب، ومعاصرته شخصيَّات رفيعة، وشغله مناصب رسميَّة وإعلاميَّة هامَّة، ومراسلاته لأقرانه من أدباء وشعراء، إلى ترحاله بين أشهر البلاد والمدائن العربيَّة والأجنبيَّة: الآستانة، بلجيكا، إسبانيا، البرتغال، الجزائر، تونس، مرَّاكش، فيينَّا، باريس، مرسيليا، بيروت (التي لقي فيها ترحيبًا وحفاوة “ما أنساه كثيرًا من المشقَّات التي تكبَّدها بعد عودته إلى موطنه حلب”، ص113). وإذا ما تذوَّقتَ شِعر الدلاَّل فلسوف تدرك على الفور أنَّ من بين قصائده وموشَّحاته ما يصلح لأن يُنشَد أو يغنَّى في أيَّامنا هذه، فتطرب له الآذان أيّما طرب. وتمتزج في شِعر الدلاَّل مشاعر الشوق والحنين، والأنفة والفخار، والرقَّة والعذوبة، والمودَّة والأسى، والتظلُّم والعتاب… حتَّى إنَّك لتجده تارةً أبا فراس الحمدانيّ في شكواه، وطورًا المعرِّيّ في فلسفته، وطورًا أبا تمَّام في حماسته، وطورًا جريرًا في تغزُّله، وطورًا آخَر ابن زيدون في افتتانه، وآخَر أبا نوَّاس في ساعات حبوره… إلى مَن سواهم ممَّن خلَّدت العربيَّة والناطقون بها أشعارهم على مرِّ العصور. ويكتب الناشر الأديب ناجي نعمان في تقديمه: “جوزيف إلياس كحَّالة، في ذا الكتاب، يتدلَّلُ علينا، ويُدلِّلُنا: يتدلَّلُ علينا بالسِّحر الحلال، ويُدلِّلُنا بكَشف النِّقاب عن كبير الدلاَّلين في حلب، جُبرائيل بن عبد الله الدلاَّل، الشَّاعرِ الثائر”، مُلمحًا إلى أنَّ المؤلِّف كحَّالة “في ذي المرَّة أيضًا، يُكحِّلُ عيونَ القرَّاء، ويُدهشُهم، فنجده، كما الحاوي، يُخرجُ لهم، على تُؤَدَة وحصافة، الأديبَ تلوَ الأديب، من بُرْنَيْطَةٍ ما وُجِدَتْ إلاَّ لِتَقِيَ من وَغْرَة الشَّمس” (الغلاف، ص4). وتجدر الإشارة إلى أنَّ المؤلِّف كحَّالة من مواليد حلب العام 1958. أتمَّ دراسته بين حلب، ولبنان، وإيطاليا، وفرنسا (باريس)، التي يُقيم فيها منذ العام 1984. تخصَّص في الفلسفة العربيَّة المسيحيَّة في العصر الذهبيِّ للإسلام، وفي فلسفة التصوُّف الإسلاميّ، وفي تاريخ الكنيسة المَلَكيَّة الأنطاكيَّة. له العديد من المؤلَّفات باللغتين الفرنسيّة (5 مؤلَّفات) والعربيّة (12 مؤلًّفًا). كما له مقالات ودراسات منشورة في عدّة مجلاَّت عربيَّة وعالَميَّة. وقد نشرت له دار نعمان للثَّقافة 3 مؤلَّفات حتَّى اليوم. بين سحر نثر كحَّالة النصيع وسحر شِعر الدلاَّل البديع يجعلك كتاب “جبرائيل الدلاَّل شاعر السحر الحلال” تشعرُ بأنَّك تلقاء هامَةٍ حلبيَّةٍ عالية، اصطفَّت، على سني حياتها القصيرة الملتبسة، إلى جوار شخصيَّات عربيَّة وحلبيَّة جِدّ معروفة، نبقى في حاجة إلى استذكارها، إذ طالما شابه الماضي الحاضر، كما الطهطاويّ ومبارك والباروديّ والشدياق واليازجيّ والبستانيّ والمرّاش وحسّون والكواكبيّ… مثَّلت جميعها نموذجًا من تواصلٍ حضاريٍّ مع الغرب، لم يقف متحسِّرًا نائِحًا على الأطلال، بل سعى، في ما سعى، لِتَثقيف الإنسان وإثراء فكره بعد تقييمه نُظُمَ البلاد وتقاليدها، وإلى تحريك الشرق للخلاص من نير العبوديَّة. وهذا ما هيَّأ لأحداث مطلع القرن العشرين. وهكذا، فإذا شئت أن تعود بنفسك قرنًا أو قرنين من الزمن، وتتنشَّق جَمالات حلب، وتصغي إلى حكايات أهلها.. وتنظر في ما شبُّوا وشابوا عليه.. وتتلمَّس ما تركوه من أثر ورسالة.. فإليك هذا الكتاب!