يعتبر سؤال الموت أحد الأسئلة المؤرِّقة للفرد، والمحيرة لكيانه ووجوده؛ وذلك لما له من أثر بليغ في استثارة طاقاته، وحشدها لاستجلاء أسراره. هكذا تنازعه العارفون على اختلاف مشاربهم المعرفية (فلاسفة، وفقهاء، وبيولوجيون، وأنثروبولوجيون، ومؤرِّخون..)؛ وذلك بمناظير منهجية متنوعة، ومن منطلقات فكرية وفلسفية متباينة. من يعدْ قليلا إلى الوراء، متأمِّلا ما لهَجت به ألسنة الشعراء العرب القدامى، وما باحت به قرائحهم وملكاتهم الشعرية، سيقف -لا محالة- وقفةَ اندهاش وتأثر شديديْن أمام التحفة الفنية التي خلَّدها أبو ذُؤَيب الهُذَلي(ت60ه)، ورسخت اسمه في تاريخ الأدب العربي. نشير هنا إلى قصيدته العينية التي فتل خيوطها اللغوية لرسم معالم طقس الموت الذي فتك بأبنائه الخمسة (أو السبعة أو الثمانيةأو العشرة على اختلاف الروايات)، واقتناص تفاصيل لحظة دقيقة فارقة بين الحياة والموت.توقف أبو زيد عمر بن شبّة (ت262ه) عند هذا الأثر الفني الرائع، فجعل أبا ذؤيب يتقدم على جميع شعراء هُذَيل، التي كانت أشعر حي من أحياء العرب في نظره، وذلك لا بمجموع شعره، وإنما بهذه القصيدة. وسبق لابن قتيبة (ت276ه) أن رصد في كتابه (الشعر والشعراء) مَخاضات الشعر، ومواقيته ومناسباته، وشروطه الزمانية والمكانية، التي «منها أول الليل قبل تغشِّي الكرى، ومنها صدر النهار قبل الغداء، ومنها يوم شرب الدواء، ومنها الخلوة في الحبس والمسير. ولهذه العلل تختلف أشعار الشاعر ورسائل الكتاب..».لكنه لم يورد ضمنها مخاض الموت، الذي كان طقسا فنيا لميلاد جملة من الروائع الشعرية، على غرار ما نجد عند ابن الرومي، وامرئ القيس، وأمل دُنقل، ومحمود درويش في جداريته، وبدر شاكر السياب في صراعه المرير مع الموت، وانتصاره عليه شعريا على الأقل، فضلا عن أبي ذؤيب الهذلي الذي كان الموت مناسبة لانبثاق قصيدة تعد بحق من أروح ما ابتدعه المِخيال الشعري العربي في هذا المضمار. وكان على الفرزدق أن يستثني لحظة الموت من اللحظات الزمنية التي يتمنع فيها عليه الشعر، فيكون «نزع ضرس أهون عليه من نظم بيت» حسب القولة المأثورة عنه. تثير هذه التحفة الفنية سلسلة من القضايا المعرفية والجمالية الموثّقة لتخييل الموت شعرا عند أبي ذؤيب؛ أجلها -فيما نحسب- الاستثمار الأمثل لعنصر الحوار، والتوظيف البارع للصورة الشعرية، والنزوع منزع السرد، وجمالية الإيقاع. 1- حِوَاريَّة على شَفا السُّقوط: استهل الشاعر قصيدته بمونولوج داخلي، يسائل من خلاله ذاته عن سر وجعه وتفجعه، ومصدره النابع من الموت، مؤنِّبا إياها بنبرة تفاؤلية مدوّية، دالة على قوة عاتيات الزمن وغشمه وجبروته الذي لا يقهر، إلا بالصمود والتحدي والتفاؤل. وقد استثمر في ذلك أسلوبا استفهاميا دالا على الإقرار والإنكار في الآن ذاته على حد تعبير البلاغيين؛ إذ بقدر ما يقدر الحدث ويعترف بالهزيمة أمام الخطْب الجلل الذي ألمَّ به، فإنه في الآن ذاته، منكر له، سيما أن له أثرا عميقا في نفسه، حيث زلزل كيانه، وهدد ووجوده. لكنه سرعان ما عاد إلى رشده، واستعاد تعقله في الشطر الثاني من البيت الذي يفيد أن الزمان لا يبقي ولا يذَر، وليس بمجدٍ اللوم والنُّواح في مثل هذه الحالات والمواقف. أمِنَ المنُونِ ورَيْبِهَا تَتَوَجَّعُ والدَّهْرُ لَيْسَ بمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ ويعد الحوار الخارجي بما يحمله من سؤال وجواب، أحد الاختيارات الجمالية التي برع الشاعر في توظيفها، فمنحت للنص قيمته الفنية، وبثَّت فيه الحياة، وجعلته يرقى إلى تصوير وضعه الشعوري النفسي. فقد أجاد في إدارته بينه وبين أميمة، مما يقرب من عمق المأساة، ويدعو إلى تحيينها. تسَائل أميمة الشاعر عن سر شحوب لونه، وتغير ملامحه الفيزيولوجية، وإصابته بالأرق الحائل بينه وبين النوم الطبيعي: قَالَتْ أُمَيْمَةُ: مَا لِجِسْمِكَ شَاحِباً؟ مُنْذُ ابْتُذِلْتَ، ومِثْلُ مَاِلكَ يَنْفَعُ أَمْ مَا لِجَنْبِكَ لا يُلائِمُ مَضْجَعاً إِلا أقَضَّ عليْكَ ذَاكَ الْمَضْجَعُ وجاء جواب الشاعر جامعا مانعا موجزا في عبارة واحدة (أودَى بنِيَّ منَ البِلادِ فوَدَّعُوا)، مستطردا إلى الحديث عن المأساة الخاصة بالفقد. هكذا صور حياته، وقربنا من أعماق نفسه، مستعملا عبارات شعرية دالة دلالة قوية على عنفوان التجربة (غُصَّة/ عَبرة/ تُخُرّموا/ مصرع/ عيش ناصب/…). إنها حوارية تلامس هوْل الفاجعة، ودنوّ صاحبها من الانهيار والانكسار والتأزم، لولا قوة جلده وتحمله، وإيمانه بأن الدهر غير مجزع، ولا جدوى من العتاب واللوم. وغني عن البيان، أن التوظيف الشعري للمرأة -سيما في مقدمة القصيدة العربية- كان مفتاحا فنيا ومدخلا منهجيا لمقاربتها. وذلك بما يطرحه من أسئلة وقضايا جمة؛ من قبيل طبيعة القرابة التي تصلها بالشاعر، وأثرها في وسم الشعر بطابعة الواقعي أو التخييلي، وموقعها في دائرة الإبداع الشعري العربي القديم وتلقيه. ومهما يكن، فلا نستبعد أن يكون الحوار المستعمل في النص هنا، أحد الأسس التي استند إليها ابن سلام الجمحي (ت231ه) في وضعه موضع الطبقة الثانية من طبقات فحول الجاهلية، وحكمه له بالشاعرية والفحولة والثقة والقوة كما في قوله عنهفي (طبقات فحولة الشعراء): «إنه كان شاعراً فحْلا، لا غميزة فيه ولا وهن». 2- ذاتُ الأظفَار الطَّويلة: لعل من جملة ما منح للعينية قيمتها الفنية كذلك، فأثارت إعجاب النقاد والدارسين على امتداد تاريخها، ما تحمله من صور شعرية تقطر حزنا وألما، وتشعّ فجيعة وفقدا. نستحضر منها ما جاء في البيت الآتي: وَإذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لا تَنْفَعُ تلك صورة مخيفة للمنيَّة التي تبدو عبارة عن حيوان مفترس يكشِّر عن أنيابه للانقضاض على فريسته. وما فريسته سوى الإنسان ذاته التي يفتك به، ويحوِّل فقده وكينونته من حال الوجود والحياة والوصال، إلى حال العدم والموت والفناء والغربة. لقد حاول الشاعر بشجاعته وفروسيته أن يتحدى الموت، وينقذ أبناءه منه، لكنه وجد نفسه عاجزا عن ذلك، فاستسلم للقدر الذي لا رادَّ له. ولقَد حرَصتُ بأن أدَافعَ عنهمُ فإذا المَنِيّةُ أقبلتْ لا تُدفَعُ هكذا غدت عيناه دامعتين على الدوام لا يتوقف دمعهما، وكأنهما مخدوشتان بشوك، فأصابهما جراء ذلك العور: فَالْعَيْنُ بعْدَهُمْ كَأَنَّ حِدَاقَهَا سُمِلَتْ بشَوْكٍ فهْيَ عُورٌ تَدْمَعُ ولما كثرت حوادث الشاعر، وتتالت خطوبه ورزاياه، صوَّر حاله بحجرة صلدة مرمية في الطريق، ما يفتأ المارون يقرعونها على الدوام: حَتَّى كأَنِّي للحَوادِثِ مَرْوَةٌ بِصَفا المُشَرَّقِ كُلَّ يوْمٍ تُقْرَعُ 3- كمْ بطلٍ مهزوم: إن من سنن الكون أن الشيء كلما تمَّ واكتمل، بدأ في التلاشي والانهيار والنقصان، آخذا طريقه إلى نقيضه لا محالة. ومن هنا، فإن الشمل إذا اجتمع -طالت المدة أو قصرت-سيأتي يوم يدبّ فيه التشتت إلى الجمع: كَمْ مِنْ جَمِيعِ الشمْلِ مُلْتَئِم القُوَى كانوا بعَيْشٍ قَبْلَنا فَتَصدَّعُوا تمثَّل الشاعر هذه السنة الكونية جليا، فأدار خاطره فيمن حوله، فتمكن من اقتصاص صور سردية ثلاث أوردها متتابعة على سبيل القياس الحجاجي، علَّه يقنع نفسه بهذه الحقيقة المرة: صورة حمار وحشي يتصدَّر قطيعا من الأتن نحو أحد الموارد المائية، فأصابه صائد بسهمه، وصورة ثور تطارده كلاب الصيد فتنهشه، ثم صورة بطل، مكتمل البنية، مدجَّج السلاح: -والدَّهْرُ لا يَبْقَى عَلَى حَدَثانِهِ جَوْنُ السَّرَاةِ لهُ جَدَائِدُ أَرْبَعُ -والدَّهْرُ لاَ يَبْقَى على حَدَثانِهِ شَبَبٌ أَفَزَّتْهُ الكِلاَبُ مُرَوَّعُ -والدَّهْرُ لا يَبْقَى على حدَثانِهِ مُسْتَشْعِرٌ حَلَقَ الحديدِ مُقنَّعُ بيد أن وسيلته الشعرية مع ذلك عاجزة -مهما بلغت ما بلغت من الرقي الفني- عن استجلاء قرارة النفس، واستشفاف ما ظل عالقا بالوجدان. لذا، راح يلتمس ضالته في السرد المُشِعّ في اللوحات المذكورة التي زادت من قيمة القصيدة، سيما أن الشاعر لم تعوزه هذه الوسيلة الجديدة التي أخضعها للقالب الشعري، وروَّضها لتستجيب لمقتضياته ومعاييره ومقوماته «الأنواعيَّة». وعليه، فليس أمام جبروت القضاء وسلطانه الذي لا يقهر من حلٍّ، سوى ترويض النفس على الرضى بالقناعة، والاكتفاء بالقليل، والرضوخ لأمر الواقع. والنَّفْسُ راغِبَةٌ إذا رَغَّبْتَهَا وإذَا تُردُّ إلى قلِيلٍ تَقْنعُ والجدير بالذكر أن قدرة الشاعر على صوْغ هذه الحكمة في نسَق شعري متكامل، لا ينفصل عن سياقها الفلسفي والجمالي، هو ما جعل بعض النقاد قديما يعتبره «أبدع بيت قالته العرب». ومهما اختلفنا في هذا الحكم النقدي المبني على البيت، ودرجة صوابه أو خطئه، يظل البيت حاملا موقفا معينا من الموت والحياة، وأسلوبا خاصا لمواجهة مثل هذه اللحظات الوجودية القاسية. ومن هذا المنظور، يتأكد أن موقف أبي ذويب من فكرة الموت، يختلف عن موقف محمود درويش وأمل دنقل، وأحمد سعيد أدونيس القائم على التصدي له، والاحتفاء به، ومحاورته أو السخرية منه. 4- العزْف علَى إيقَاع العَيْن: الحديث عن الموت يقتضي استحضار الحياة، إذ بأضدادها ومقابلاتها تتمايز الأشياء. ويستبطن لفظ الموت دلالة الفناء، والغياب، والفقد، والغربة، والفراق، والتشتت، والاستسلام، والمعاناة. في حين يحمل لفظ الحياة معنى الحضور، والألفة، واللقاء، والوحدة، والتئام الشمل، والإصرار، والفرح. وعلى هذا النحو يتداخل الوجود والعدم، والحضور والغياب، فيشكلان مفارقة عجيبة في كل نص يروم مقاربتهما أو مقاربة أحدهما. ونظرا لقوة التجربة وعظمتها، فإن الشاعر يستنفر طاقاته الإبداعية، ويستجمع قواه اللغوية والشعورية لمجابهتها، وتجسيد رؤيته وموقفه منها. ويظل الإيقاع من المستويات اللغوية التي يراهن عليها الشاعر كثيرا في تجسيد هذا المناخ الجنائزي، واستدعاء طقوسه المختلفة وأجوائه النفسية المتراكبة. بل إن من الشعراء من يتمثل صورة ما بعد الموت، على غرار ما نلمسه في «جدارية» محمود درويش، وفي «رسالة الملائكة» لأبي العلاء المعري. وتبقى لحظة الاحتضار والإشراف على العالم الآخر، من اللحظات الزمنية الفارقة التي يحشد لها الشاعر عواطفه ومشاعره الفيَّاضة ليقتنص تفاصيلها، ويستجلي أسرارها، مثلما نقرأ في دالية مالك بن الريب الذي تخيل فيها موته، واستعداد أقربائه وأهله لدفنه في قصيدة رائعة، مقتنِصا تفاصيل المشهد الجنائزي وأبعاده الإنسانية والوجودية: تذكَّرْتُ مَن يبْكي علَي، فلَمْ أجِدْ سِوى السَّيفِ والرُّمحِ الرُّدَيْني باكِيَا وأشقَر خِنْذِيذ يجُرُّ عِنَانَهُ إلى الماءِ، لم يتْرُك لهُ الدَّهْرُ سَاقِيَا ولا غرو -والحالة هاته- أن يتمثل المتنبي الموت في صورة سارق خفي دقيق النَّصل «يصول بلا كف ويسعى بلا رجل»، ويتمثل طرفة الحياة كنزا ثمينا، لكنه ما يفتأ يتناقص تناقصا مستمرا إلى حين انقضائه وزواله بقرب الموت. ويعتبره أبو العتاهية «داء ليس يدفعه الدواء» عن الإنسان كما في قوله: أرَى العَيْش كنْزاً ناقِصاً كلَّ ليْلةٍ وما تنقُص الأيَّامُ والدهْرُ ينْفدُ ومهما اختلف هؤلاء الشعراء في وسائلهم الفنية، واختياراتهم الجمالية المعتمدة في تجسيد فكرة الموت شعرا، فإن أبا ذؤيب اهتدى إلى نسق إيقاعي يتناغم مع مقام الموت، ويتماشى مع موقف الفجيعة والخطب. فقد اختار لنفسه بحر الكامل المعروف بثقله، وكثرة حركاته المتتابعة،كما تجسده التفعيلة (متَفاعلن) المتكررة ست مرات في البيت. هكذا بلغت حركات البيت ثمانيا وعشرين حركة، مقابل أربعة عشر سكونا. وكان من المفترض أن يبلغ عدد الحركات ثلاثين، لولا تحويل الشاعر حركتين إلى ساكنين كما في التفعيلتين الرابعة والسادسة من البيت الأول، باعتماد زحاف الإضمار. ثم إن إنه اختار حرف العين رويّا للقصيدة، وهو صوت مجهور حلقي، له من القدرة ما يسعفه على تصوير زفرات النفس ولواعج الذات سيما أنه مضموم، والضمة تختلف عن الفتحة والكسرة من ناحية دلالتها على الفخامة وقوة الفجيعة وهولها كما هو معلوم. وبذلك يوقِّع الشاعر نهاية كل بين على قيثارة الحزن والأسى، محدثا موسيقى داخلية وجرسا صوتيا ينبثق من بين ثنايا الجمل والعبارات الشعرية، فتغدو القصيدة سمفونية رائعة أودعها الشاعر صرخته المدوِّية في وجه الموت. ولهذا السبب على ما يبدو لاذ متمم بن نويرة بهذا الحرف في رثاء أخيه (المنهال)، وذلك في عينيته التي مطلعها: لَعيْنِي ومَا دَهْرِي بتَأْبِينِ هَالكٍ ولا جَزَعاً ممَّا أصَابَ فأوجعَا لقد غيَّب المنهالُ تحتَ ردائِه فتىً كان مبْطانَ العشيّات أرْوَعا خاتمة: لم يكن أبو ذؤيب الأب الوحيد الذي بكى أبناءه ورثاهم في شعره، لكنه الأبرع في تفجير شعور الأبوة في وجه المصير المحتوم. فكان بذلك خير من تناول موضوع الموت شعرا، وبلور فلسفته، وصوَّر أجواءه النفسية وآثاره الفكرية أيَّما تصوير. ومن هنا ظلت قصيدته -ولا تزال- وثيقة فنية شاهدة على عصرها، تتجدد على امتداد الدهور والأزمان. وهو ما يسمح للدارس بتمثل مختلف الشروط المعرفية والجمالية التي اجتمعت لأبي ذؤيب الهذلي، في نحْت مقوماتها وعناصرها اللغوية والثقافية والتخييلية. د. الحسين اخليفة