حاول أن يلفي لحياته معنى.. ارتطم بجدار اليأس، فَخَرَّ ساقطا على الثرى كما يسقط الطائر المرتطم بنافذة من زجاج. أخذه نسر آدمي.. طار به إلى قمة شماء.. وعاش حياة النسور حينا من الدهر.. قذف به النسر كقمامة منتنة حين لم يعد له به حاجة.. عاش كالقبابر بين الحفر.. لم يحتمل حياته الجديدة-القديمة، ثم مات ولم يكترث أحد بموته.. شتيمة ناف عن الخمسين خريفا. ينتظر حياته الزوجية أن تأتي على كف عفريت. جلس في ركن من أركان الزقاق يدخن كيفه منتشيا. أبصره أبله الحي. قصده بتؤدة. جلس بجنبه. ألقى عليه الرجل نظرة ازدراء. انتظره الأبله طويلا ليُؤْثر على نفسه فما فعل. سبه بصمت فلم يشف غليله. أراد أن يتخلص من غصة في قلبه فقال: - ابنك يتعارك مع أحدهم قدام المدرسة..!!! أحس الخمسيني بسرب من أشواك الصبار يخترق جلده. رمقه بنظرة مثقلة بالحقد والكره، وانسحب الأبله في هدوء... أمومة أشرقت الشمس وغربت، بزغت وأفلت، ظهرت وغابت، وهكذا، لسنين، فعلت... ورحمة تقف بالباب، صامتة كأبي الهول حينا، وجامدة كتمثال الحرية أحيانا، تنتظر عودة الغائب.. وتنشد مرارا وتكرارا: "رَامِي ثْغَابَذْ أَيُورْ غَابَنْ يَثْرَانْ نَّشْ نْعَايْنِيشْ أَسَڭَّاسَا نْعَيْنِيشْ إِمَارْ نَّسْ" وتتمتم بين الفينة والأخرى: - متى يا رباه أنشد: "سْرُورُو أَوَتْشْمَا سْرُورُو أَمِّي تُوغَا يَزْوَانْ يَازَفْدْ غَا ثْمُورْثْ نَّسْ"؟ عاد بأقل من خفي حنين، أشعث.. أغبر.. أفلس من ابن المذلق.. وقعت عيناها عليه. ارتمى في أحضانها. رثت لحاله وبكت حتى ابيضت عيناها.