خص الأديب المغربي محمد صوف فضاء رمضان لبيان اليوم، بالنص الكامل لروايته الجديدة «أورام موروثة»، التي لم يسبق نشرها. ندرجها، ها هنا، ضمن حلقات، على امتداد الشهر الفضيل.. وهي حلقات حافلة بالإثارة والتشويق والمتعة. وللأديب محمد صوف إصدارات عديدة، في الإبداع القصصي والروائي، وكذا في مجال الترجمة، كما له اهتمام بكتابة السيناريو، وبالنقد السينمائي. ومن بين عناوين إصداراته: رحال ولد المكي (رواية)، هنا طاح الريال (مجموعة قصصية)، أبناء قابيل (مجموعة قصصية)، يد الوزير (رواية)، الرهان(رواية). *** أحست نانا صديقة كاميليا بالضيق الذي يخنق صديقتها . اختلست إليها النظر. تتبعت حركاتها ووجدت نفسها تشاطرها حزنها . كان عصيا عليها إدراك هذا الإحساس أول الأمر. بريق عينيها كان يومض وينطفئ. رأت فيها جرأة غير عادية و معاناة غير عادية أيضا .تبادلتا نظرة فاحصة ثم قصت كاميليا على نانا حكايتها منذ البدء وأبدت نانا شكا حافلا باليقين في الرجل . - أشم رائحة نصب على شرفك. هذا الرجل استغل وضعيتك جيدا واستغل قدرته على الإرشاء وقدرة الآخرين على الارتشاء . أوهمك و أوهم أهلك بعقد زواج وهمي واستغل قراءة الفاتحة و أخذك إلى بيته . ستكتشفين أنه يستغل كل شيء.واضح أنه معتاد على الخوض في الماء العكر. - هكذا قال مروان . و مع ذلك ينتظر مني هذا المحتال أن أحبه . ابتسمت آنا و قالت : - لا يفهم رجلك في المرأة بقدر ما يفهم في الاحتيال.كل طاقاته امتصها التلاعب .لا يعي أن الطريق الوحيد لكسب امرأة يمر عبر الحب ولا شيء سواه. الحب يجلب الاقتناع. يتصور أن المرأة مخلوق غير عاقل و لا تحركها سوى النزوات . هذا هو الوهم الأكبر .لا عليك سأنظر في أمر زواجك و سآتيك بالنبأ اليقين . سألتها كاميليا - كيف ؟ - دعي الأمر لي . أعطيني فقط اسم الموثق العدلي وصورة زوجك والبقية أنا أتكفل بها . أعدك أنه سيرفع الراية البيضاء . ضحكت كاميليا و أشرق وجهها بسعادة مبهمة . ألقت نظرة على مزهرية جديدة في الركن الأيمن من الغرفة ثم على التلفاز الرابض في أقصاها و تحاشت النظر إلى صورته ضاحكا فوق الجهاز. ورأت في عيني نانا الخضراوين بريق أمل غرس فيها ثقة لم تشعر بها من قبل. عينان فيهما طفولة و شرود وابتسامة .. آه من بسمة النظرات . مرت لحظة صمت و نهضت نانا مودعة .. - لو يعرف زوجك أن جسد المرأة حافل بماء الخلود .. و تبادلتا قبلتين على الخد ثم همست كاميليا : - مروان يعرف ذلك .. ردت نانا : - لاشك أن حياته في غاية البساطة رغم أن الآخرين يعتبرونها معقدة .ولا شك أنه مليء بالتوجس ويتنقل من يقين إلى يقين - لم أفهم - لا عليك تحب نانا أن تتأمل .التأمل يجمع الشتات .لذا ارتأت أن تمارس رياضة المشي في غابة بوسكورة . تجد الغابة جميلة متبرجة ومتواضعة في ذات الوقت .تعرف كيف تسلم نفسها و تعرف كيف تتأبى و هي تعبر مسلكا اختارت دائما عبوره يحدث أن تغمض عينيها بين الفينة والأخرى و تصغي لصخب العالم ونسيم الربيع يدا رقيقا تداعب وجهها. وهي تسير رأت جماعة من الشباب على مبعدة منها تقف في وسط المسلك. تابعت سيرها دون رهبة.وقف أحدهم في الوسط تماما ثم جاء صديقان له .وقف أحدهما إلى يمينه و الآخر إلى يساره. المسلك الآن مغلق أمام نانا ولكي تمر عليها أن تغير الاتجاه . لكنها تابعت طريقها و كأن لا أحد أمامها.نفث رجل الوسط دخان سيجارته وابتسم لها بخبث . أذهله شرودها .حدق في عينيها الخضراوين .قرأ فيهما ابتسامة خالية من الوجل والتردد و قرأ فيهما طفولة ووجد نفسه يفسح لها المجال . بحركة من يده أوقف زحف صديقه الواقف إلى يمينه نحوها . قال : - كأنها لم ترنا . ساروا خلفها . لم تلتفت. كانوا غير موجودين . رأوها تخرج من نهاية المسلك و تتوجه نحو سيارتها .بدورهم توجهوا نحو سيارتهم . لم تلتفت إليهم وقبل أن تدير محرك السيارة كانت سيارتهم قد انطلقت. قال رئيسهم : - غريب ما حدث لي . تراخت أعصابي دفعة واحدة .وجدتني أنظر إليها في استسلام .خجلت من نفسي .كيف نعترض سبيل امرأة من هذه الفصيلة؟ قال الآخر : - بدوري أحسست بقواي تتسرب من دماغي و كأني أغرق في وحل ناعم . قال الثالث : - هذه المرأة ساحرة. أوقفوا سيارتهم على قارعة الطريق في شارع مولاي يوسف و اتجهوا راجلين نحو حديقة الجامعة العربية. فجأة توقف رئيسهم - انظروا .. كانت هناك في رصيف مقهى الحديقة .بنفس الهدوء والدعة تطالع كتابا و أمامها كوب عصير شربت منه النصف. - كيف استطاعت أن تصل قبلنا و تجلس و تطلب عصيرا و تشرب منه النصف و قد تركناها خلفنا .. نظروا إلى بعضهم البعض في حيرة. عندئذ رفعت هاتفها إلى أذنها وابتسمت ابتسامة عريضة . إنها شلوميت . صديقة تعرفت عليها ذات حفل زفاف . و من ذلك الحين و هي تهاتفها وتسعى إلى لقائها . لا ترفض نانا أبدا عروض شلوميت . و في كل لقاء أمام قهوة سوداء من جامايكا كانت تضبطها و هي تنظر إليها خلسة . وبين الفينة والأخرى ترى وجهها يشرق بسعادة آثمة عندما يندفع بصرها إلى نهدي نانا النافرين و تشعر بملمس ذراعها و عند كل وداع كانت تطبع قبلة على شفتيها وتكتفي نانا بالابتسام بينما يلمع في عيني شلوميت بريق اشتهاء وخوف من أن تفقدها . وافقت نانا على لقاء شلوميت ذاك المساء .والتقيا في بيتها . وجدت نانا نفسها تقص على شلوميت قصة كاميليا و ما يجري لها مع مصطفى العصوي . - من ؟ سألت شلوميت . - مصطفى العصوي ردت نانا بتلقائية .ضحكت شلوميت و قالت : - هذا الطفل الطويل العريض الذي يخاف من الظلام . - أ تعرفينه ؟ - كل البيضاء تعرفه . وأعربت لها عن نيتها في أن تعرف عنه كل شيء.لقد فكرت في الاستعانة بمحقق خاص . تريد أن تعرف عنه الشاذة والفاذة صبت لها شلوميت فنجان قهوة و اقتربت منها أكثر. - لا داعي لذلك .سأقوم أنا بهذه المهمة وسآتيك به عاريا. أحاطتها بذراعيها و تمتمت بكلام لم تتبينه .. - أنت حلم رقيق حنون. لم ترد نانا على جرأة شلوميت - أنا غوايتك .عانقيني .تذوقيني . تعلمي كيف تقشرينني و ارميني بعد ذلك مثل قشرة ليمون .اقتلعي غرائزك . رشفت نانا من كأسها وتساءلت كيف سيتسنى لشلوميت الحصول على تفاصيل حياة مصطفى العصوي ؟؟ و كأن شلوميت شعرت بما يتفاعل داخل صديقتها ركبت رقما في الهاتف وقالت: - أنا محتاجة إليك في قضية لا أريد أن يعرف أحد عنها شيئا. و بعد لحظة صمت أضافت: - نعم مصطفى العصوي . أريد ملفا كاملا عنه .تفاصيل حياته من ألفها إلى يائها. ثم صمتت ثم ضحكت ثم قالت: - أعدك يا أنت.