أكد لنا ذلك المتكلم الماهر الزاهد: "الشك أولى مراتب اليقين... من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر يبقى في العمى والضلال" غير أن شك الرجل وقف في منتصف الطريق لا هو يمر أو يدع النفوس تمر. لتأتي حكمة قاضي قضاة قرطبة لتزيل الأشواك والأحجار ويعبد الطريق بالتشديد والأخذ بنصيحة العقل الحر. والغريب كلا الرجلين تعرضت كتبهما كحطب لنار. بل لما فرّ َمن اليسانة إلى فاس. قرب باب المسجد قيدوه وصار محطة لشتم والبصق مع كل دخول وخروج. هذه هي الوردة التي قدمها الناس لهذا الحكيم العملاق الذي كان يحلم بالإنسان. نعم ولد في رأسه، كبر واشتد عوده وأشرقت أنواره وراء البحار بعيدا عن قساوة وجشع الرمال. هو منا... واليوم بدهشة نتطلع إلى قوة سيره وبهاء نوره. ومنا من لازال يعزف على أوتار أنغام الحقد القديم. لنسمي الحقد: جهل. هل كان يدور في خلد صاحب مجلدات كتاب الأغاني، أن هذه المكدسات من الورق ستختزل في قرص صغير يحمل في الجيب؟ * هنا تكمن أرستقراطية العقل البشري وعظمته. وكانت الكلمة التي حددت مصير قاضي القضاة بالنفي والإقصاء التام: (تموت روحي بموتِ الفلسفة) ومرت نسمة باردة في سماء بلاد النخيل وغرق الحيوان والبشر في ظلام.... الظلام. الشك نظرة... نظرة تفكيكية تستنبط الحقائق من الموجودات لا تستقر على حكم وقطعا لا تسلم بشيء لما قيل وما يؤكده أهل الكلام "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون... مقتدون" نظرة تترجم صيحة يقين غاليلو وهو يخبط بلاط المحكمة بأقدامه: ومع ذلك فهي تدور وليذهب نقيق الكنيسة إلى الجحيم . أما ما هو بديهي كالغراب الذي خفق بجناحيه وحلق بعيدا لماذا سأشك في وجوده. نبي الإسلام يقول: "نحن أحق بالشك من إبراهيم". أشك في ما قيل لي وما حكته جدتي عن السماء، أشك في تبرير آصرة قرابة العبودية الصغرى البشرية بالعبودية الكبرى المتعالية. الأشياء تعرف بطبيعة نتائجها. أليس كذلك؟ إن الشك غربلة لكل كلام لا يفيد ويغني تجربتي كإنسان غايته السعادة على الأرض أولا. سعادة غير ملوثة بشقاء دمع ودماء غيري. هل تشك؟ أنت من اليوم صدقني: صديقي. الصديق الذي حلمت به ذات محنة هم بعيدة. ولسانها كان يلهو يعلو ويقول: من أنت؟ لا لا لا دعنا من القيل والقال وسفر العنعنة الببغائية. سلطة الواجب ومكر الوجوب.... وتعال صوتها بالصراخ واختلط بالنواح وقالت لي: من أنت؟ هيهات لو تعرف كم صعب هذا السؤال وكم ثقيل حمله، معه لا راحة للعقل... أقصد الفوضوي منه، أي ذاك الذي عندما يرقص بالكلام لا يخفي لحيته. وعندما يغني لا يستعين بظل أحد. همه الهدم وليس البناء... وأي بناء هذا الذي تدوس أقدامه وتسحق الأنقاض.... وهي أرواح قالت رأيها ذات يوم بعيد في الحياة. إن الهدم هنا حوار جميل وهادئ مع تلك الأرواح. الشك الخلاق هو اليقين الوحيد: يحرر الحكيم من طلاسم سحر سلطة اليقينيات المريضة. وأعني وإن طار الغراب وخفق بجناحيه وحلق بعيدا ورب الكعبة هو: عنزة سوداء. .................. وضع القلم وأخذ نفسا من سيجاره وركز نظره على كلمة: مريضة. وكعادته دائما وهو لا يعرف كيف صار سجينا لهذا الإحساس: عندما يهزم أو يطعن بوصف أو شتيمة: يبكي. مسح بمقدمة معطفه دموعه ونطت الحروف من شفتيه: أنا على يقين مع هذه الكلمة ستحضر الملعونة... لا بل أكيد. ونظر جهة الباب وأرخى أذنيه... وأضاف: هذا وقت حضورها ترى ما الذي حدث للملعونة؟ هز كتفيه وتظاهر بعدم المبالاة وحمل القلم و.... ما كان... ما كان علي أن أبدأ قصتي بالشك... لأنني لو شككت بالفعل لما واصلت غزل الحروف لأصنع منها معطفا للعظام، أقصد الكتابة. منذ زمن بعيد وأنا أكتب وما وصلتني رسالة من قارئ مجهول يمدحني أو يدمني. معناه أن كتابتي ما هي إلا مرض من بين أمراضي العديدة والتي قهرتها بالكتابة. أكيد أن كتاباتي تثير الحنق والحقد والغضب وأكيد البعض منهم يتمنى شنقي وبأمعائي. إذن هذا الصمت الذي يحوم حول كتاباتي يؤكد تفاهتي. لكن لماذا هذا الناشر المجنون أصر على نشرها ومع تسديد أتعابها. هو يأخذ مني المطبوع يضعه إلى جانبه يحمل السماعة ويخاطب المنصت بصوت آمر: سلمه المبلغ. ويكتب على ورقة المبلغ أرقاما ويقول: خذ ، اذهب عند أي موظف في الشركة وسيسلمك الأتعاب أو اذهب عند السكرتيرة الآنسة آية.. الأتعاب بعض النقود تكفيني لشراء السجائر ونوع من القهوة المفضلة والكثير من خشب الصنوبر الجاف لتدفئة. أما الزاد وثمن النوم في هذا البيت البارد المتهالك... أنا إنسان عاق... لا...لا... كل أعضائي الظاهرية سليمة شكرا لرب ... مرضي الشك ونهايتي: مصحة. لكل نزيل هنا مشكلة، هنا لا معنى للعرق، الانتماء، اللون والدين. هنا شيء واحد يوحدنا أن القلم رفع عنا. هنا نحن كالأطفال. نتكلم في كل شيء إلا في الحديث عن أحسن دين، مذهب أو حزب. أما الله كل له معبده وطريقة الوصول إليه. تستهوينا الموسيقى وأسعد يوم في الأسبوع الجمعة يوم تجول في الحقول والجلوس لتناول سندويتش مع عصير برتقال قرب نهر إيبرو وما أروع وأحب يوم السبت إلينا يوم ذهاب إلى السينما بعد اختيار فيلم يرضي ذوق الجميع. أحيانا أتنازل عن ذوقي وإن لم يوافق موضوع الفيلم مزاجي، كنت أقرء الفيلم بعين إعجابهم به. بمعنى سعادتهم كانت ترضي وتبهج فهمي. لكن المسرح كان يوحدنا جميعا. ولأني طوال حياتي أكلت خبزي بعرق جبيني، صندوق الضمان الاجتماعي بعد الحادثة وتأكد طبيبه الخاص باستحالة القدرة على العمل في المزرعة لتربية الخنازير الصناعية. نعم هنا كل شيء صار صناعة بما فيه الإنسان. أصبح لي اليوم مع مطلع كل شهر راتبا يحميني من الجوع والبرد. "آية" هذه وحدها حكاية. لا... أنا لا أشك في حقدها علي ومن الأفضل أن أقول: تكرهني. فقط لأنها بعد كتابة المجموعة القصصية الثالثة، قالت لي إنها وقعت في عشق لكتاباتي وعندما سألتها عن أي واحدة من القصص هي قريبة منها؟ ظلت صامتة لبرهة طويلة وأجابت: الأولى أعتقد عنوانها: الشك. رددت: الشك؟ قالت وهي تواصل النظر وبحدة الواثق من نفسه: عنوان مثير وموضوع شيق. سألتها: هل يمكن أن تلخصي لي القصة في كلمات. بابتسامة خجولة: إنها من الأعمال التي لا تلخص، لكن ما دامت رغبتك كذلك، لا بأس... وطفقت تحكي: هي سيرة ذاتية للكاتب ولا أدري إلى أي حد هي صادقة مع نفسها. في الحقيقة ما يهمني كيف كتب حياته. كل واحد منا يحمل في روحه قارة أحزانه أي لو ملك جمال اللغة لنقل لنا تجربته في الحياة. من حيت الزاد كلنا مشروع كاتب. حياة الكاتب نص يحكى بصيغة أخرى، زمنها وأنفاسها: الحرف. ما قساه في يوم بعيد.... ما يؤلمه في لحظته.... ما يتمناه لنفسه وأمثاله..... ما يناقضه يدمه ويرفضه... أو.... يمدحه ويستكين لظله... وهذه النفوس الأخيرة سميها ما شئت إلا أهل الحرف الصادق. لأن الصدق لا يقيم تحت سقف القصور. ومع العلم ينبغي الحذر الشديد من بعض المتألمين من حملة القلم وإن فكروا وحدثوك بلسان ذلك الألماني الرجل الثائر المبشر بالبرق، صاحب اللحية البيضاء الكثيفة ويسبح في البياض شعيرات سوداء. نعم... لقد جرى لصاحبنا ما جرى للحكيم بودا أعلن ثورته ضد كل صنم وحولوه إلى صنم ولقبوه بالإله. كان الألماني ضد الدين... وبعد دفنه حولوه إلى نبي. وهل وصلت الرسالة ؟ ومنهم من حلق لحية الرجل واختار صناعة الأوهام متماشيا مع ريح الوقت: كول أوكلني أسي الحاج... كل واحد منا يملك لسانه فليتقدم... أنا طرقت بابهم، هم أجابوني بمطلق الود وليس كما حصل في المرات السابقة... ولماذا لا أرد التحية بمثلها. إيوا افتح عينيك، فكر معي ومن بعد تكلم إن شئت. نعم فكرت وهذا جوابي: العيب كل العيب من خدعهم قوة وحدة صوتك وبريق لمعان عيونك، كانت كلها وعود... و أوصلوك. نحن المعبر... ولنعد إلى قصتك سيدي الكاتب. هناك عبارة يرددها البطل كلازمة مع طول الحكي، وهي جميلة جدا ومزعجة. وهو إزعاج لا يقود إلى الوقف والحيرة. أعني بتلك الحيرة التي لا تغدي معرفتي وتساعدني على رؤية العدو من الصديق... أنا لست ذكية في علاقتي مع البشر. أكشف جميع الأوراق وبنية كبيرة وصدق... وما تعلمت فن مراوغة سم لسعات دفئها. لكن على أية حال، هي محمودة مادام همها إزعاج الثبات من اليقينيات التي أقسمت أن لا تستقيم. أي بلغة الحكماء تساعد على توليد أسئلة الصمت والتفكير في القضايا المصيرية للإنسان وجوده ومعناه. إن من أبشع أمراض التفكير هو التسليم. التسليم ثبات والثبات موت... عربة الحياة لا تكل من السير قدما. غير أن الراكب المدجن لا يشعر بسيرها القوي. وتلكم إن شئتم مشكلته، وحدها العاصفة معلمه... ووحدها تكذب زعم يقينه... هيهات لعودة الفرح القطار الأخير قد غادر المحطة الأخيرة... ليجلس إذن يستهلك وينتظر. أكيد في يوم ما سيحكمنا إنسان آلي. سيبرمجونه وفق رغباتهم وهي رغبة لا يصيب سهمها إلا الهدف الواحد والوحيد: قامتي كإنسان. يقول البطل في قصة "الشك": "أنا أشك في وجود السفينة لكن لن أشك في وجودها" لكن ... لماذا حكمت على البطل بالتيه في الصحراء... شيء غريب... أنا لا أشم في قصصك رائحة الثلج، مع العلم أن ندفه تنط وتقبل زجاج نوافذ غرفتك التي تطل على شساعة بياضه. كان على أبطالك الاستحمام في بهائه وفهم سر عظمته. توقفت عن البوح لحظة وأضافت: لماذا تضحك؟ تذكرت ذلك الرائي العملاق الأرجنتيني عندما حكمت محكمة بابل بلسانه على ملك جزر بابيلونيا صاحب المتاهة العجيبة الصنع، التيه في الصحراء دون خدم، نساء، زاد وغلمان.. ووضع مولانا السلطان العربي المؤمن والمستسلم بمعجزة الرب وليس بما خرج من نبات أفكار الإنسان. صاحبه في قلب شراسة الرمال وقال له: يا صاحب الصولة و الصولجان، حاكم نفوس العباد، الجن والحيوان... هذه متاهتي ابحث لك الآن عن الباب. لا سلالم فيها و لا جدران. وحدها عزلة الصحراء كانت لسيره وبحثه عن الباب: المعلم. محكمة بابل تلك التي وظفت ذلك الرجل الأرجنتيني العجوز القريب من وعكة نظر. وقد يكون عاشقا لعطر رائحة شجر ميت وهو الكفن خطأ كتب على الشاهد اسم: ورقة بيضاء. وهو كان على يقين أن بابل مقبرة لأرواح جميلة مرت من هنا ذات يوم ولم يسمع لأغانيها نقيقا. كان كتاب الرمل دليل على يقينه. وسألتني: هل قرأت رواية "الأم"؟ نعم ... مكسيم غوركي الرائع. لماذا لا تترك أنوار أنغامها تراقص سواد قلق حروفك. رواية الأم: أغنية الأمل. صحيح ْ... فاتني أن أتعلم رسم أشعته. ربما الحياة القاسية التي عشت، قتلت في روحي أفقه. النعلة.... النعلة .... النعلة على أولاد الأبالسة دفنوا الشمس في قلعة تحت الرمال. والباحث عن المفتاح مصيره التيه في متاهتها لا جدران ولا سلالم. وطوبى لكل نفس مغامرة نبيلة : نحن في حاجة إلى أشعتها: ظلام ظلام والخزي والعار لمن جعل من سقف برودته بيته الأبدي. واشْ فهمتيني الأنسة الجميلة آية؟ قالت: أولا اسمي: ذاكرة. ثانيا: أنا لست سكرتيرة... أنا تلك الروح التي رافقتك السفر في السفينة. هل تذكر؟ قلت: سفينة ؟ سفر؟ متى؟ وضحكت. قلت في نفسي: وهل أنا نوح؟ قالت : إلى اللقاء الآن... أطلبني متى أحسست بالوحدة ولا تنسى كتابة الفصل الثاني من الرحلة وسميها: اليقين . ............ نعم أشك في سلامة هذا العقل الذي يحلم بجمع شتات هذه الذاكرة. أشك في نزاهة هذا القلب في حبه للمتعالي القريب. أشك في قامتي كإنسان. لقد نصحني طبيب المصحة بالإبتعاد عن الكتب وتلويث البياض بالهذيان المريض. ما علاقة هذه الأسماء التي تنط من حروف هذه الخربشات في ما أفكر فيه الآن؟ من تكون هذه الملعونة الجميلة؟ وهل أنا عشت الشك لأكتب عن اليقين؟ هي ذاكرة وأنا الشتات. قصتي الجديدة سأسميها: ذاكرة الشتات. عنوان يعبر عن روح زمني. أليس كذلك؟