على إيقاع الشعر الطلق الجميل ، يطرز لنا الشاعر /الفلسطيني هيثم الريماوي باكورته الشعرية اليانعة التي اختار لها كعنوان ( على إيقاع الشعر). عنوان رامح و مباشر ، يوحي للوهلة الأولى ، بأن الشاعر يعزف نصوصه على وتر الإيقاع الخليلي ، عموديا كان أم تفعيليا . لكن التفاتة تالية إلى حاشية العنوان (قصائد نثر..و أكثر .) وقراءة أولوية للنصوص، تكتشفان أن الإيقاع الذي يرومه الشاعر هنا، ليس بالضرورة هو الإيقاع "الشعري" الجمالي. هو تلك الرعشة الشعرية الخفية و الانزياحية التي تسري بين سطور الكلام وأوصال اللغة، فإذا بالكلام غير الكلام. نقرأ من نص( للزمن الجديد...) -أرفع قبعة الخصام ، في حضرة ماردنا(المتنبي) أبحث عن هويتي لأمدحها قليلا ، ((من أنا؟ هذا سؤال الآخرين و لا جواب له )) ولكني لست لغتي، أنا كلامي ، حين ينبجس كلامي من كلامي في هذا الزمان الضبابي لا عيد، في عودة العيد يلخص هذا الكلام السريع الطلقات ، واقع التجربة الشعرية للشاعر هيثم الريماوي، كما يشق لنا ، بهذه الكلمات البليغة الوامضة، عن طبيعة الأفق الشعري الذي يرُودُه ، و طبيعة الهموم و الأسئلة الشعرية التي يعزف على أوتارها و ينبش في أسرارها. خصام مع المتبني و تركته الثقيلة. الذات والهوية . ( أنا كلامي، حين ينبجس من كلامي ). وزمن ضبابي ، هو بلا شك الزمن العربي ، لا عيد ، في أعياده . على هذا الشجن ، على هذا الإيقاع الشعري الساخن ، يعزف الشاعر شعره. ولا تهمه الخانات والحدود التصنيفية والتجنيسية التي يضعها فقهاء الشعر للشعر. ما يهمه هو إيقاع الشعر الجمالي ، وفتنته الطلقة المتوهجة. إن الهم الشعري الأساس للشاعر ، فيما يبدو ، أن يَنضُو عنه عباءة الأب وكوفيته. أو لنقل بلغة فرويدية رامزة وواخزة، أن يقتل هذا الأب، ليؤسس ويشيد ذاته، ويتكلم لغته، وينزع عن قوس هويته. همه الشعري أن ينقطع مع الآخرين ويتحرر منهم، أن يقطع مع القديم ليؤسس الجديد. ( وأبحث عن معري جديد، للزمن الجديد.). ( أفتش عن نفري جديد، للزمن الجديد.). كل ذلك، ليعيش تفاصيل وقته ويتنفس مناخ حداثته. - وأرتب أصناف الفاكهة والأطعمة الحديثة. مرارة ليمونة مستوردة بطيخة صغيرة، لشتاء ارستقراطي باذخ وكستناء، لا لشيء، فقط لأن الشعراء يجلسون كثيرا حول المواقد يبحثون عن الحقيقة يخرجون من معاطفهم الجرائد اليومية، وألوان الطبيعة. لكن من لا قديم له، لا جديد له، كما قيل. و من ثم هذا الحضور الملحاح للتراث عند الشاعر، وهذا الاستحضار الملحاح لإخوان صفا وخلان وفا من الزمن الماضي، المتنبي، المعري، النفري، الخليل، الحلاج .... الخ. جنبا لجنب، مع الاستحضار البهي لمحمود درويش. وكان الشاعر ضد التراث ومعه في آن، كأنه يسبح ضد التيار فيما هو منحرف مع التيار. كأنه يعيش الحداثة والسلفية في لحظة واحدة. وتلك لعمري، لحظة شعرية بامتياز. من هنا نفهم هذه الجزاله اللغوية، أو لنقل هذه الجمالية اللغوية تنضح بمائها نصوص هذه التجربة الشعرية. جمالية في انتقاء المفردة ونحت العبارة وصوغ الصورة والاستعارة. إن للذاكرة التراثية دورا كبيرا في صقل لغة الشاعر وشحذ عبارته وشحن نصوصه ب " النصوص الغائبة" وأثار أقدام الآخرين، على حد تعبير جوليا كريستيفا. ويمارس القرآن بشكل خاص، سحرا خاصا على ذاكرة ووجدان الشاعر - مثلنا ومثلكم تماما يذيبنا سحر البيان، الإنسان أخو الإنسان شرقَ أو غربَ، يثنيه الهديلُ كعود الخيزران يذيبنا سحر البيان ، مثلنا ومثلكم تماما "فبأي آلاء ربكا تكذبان " ؟ ( بأي آلاء ربكا تكذبان) ؟ و من ثم هذا الحضور الجميل والجليل للقرآن في المجموعة. وإذا دخل القرآن نصا أعداه بسحر البيان. لنقرأ هذه الشواهد الشعرية ، لنقترب أكثر من هذا الحضور ، ولنقترب أيضا من لغة الشاعر وعالمه الشعري. -عاريا ما زلت ألملم الحصى انفض الغبار عن توتر الماء, في البحر الكبير والبحر حالتان مد وجزر و" برزخ لا يبغيان". - تقرأ يوسف آخر، أيضا : ( وسبع سمان يأكلهن سبع عجاف) ( سبع من أخضر وأُخر من جفاف) يا قمحَ كنعانَ، لا صدى الآن لياء النداء لا صدى إلا لكاف خبزنا - يا جبلَ (الطور) تقدم قليلا في دمائنا الأولى تقدم قليلا لنعلم جيدا كيف (تتصدع الجبال من خشية الله) خذنا حجرا منك فيك. إنها شواهد كافية للدلالة على المناخ القرآني الذي تتنفس فيه المجموعة وتلحق في أجوائه. كما أن ثمة حضورا أيضا لأساطير ووشوم الأولين، سوفوكلس- نريسيوس-أخيل-عشتار- جلجامش..... الخ إن الشاعر بعبارة، يعقد قرى شعريا ( أي ضيافة شعرية) بين السلف والخلف. ويبدو واضحا من خلال الشواهد الآنفة، أن الشاعر موزع بين الهم الشعري والهم الوطني كل موجة وطن. نكون حين يكون الوطن. إن الوطن هو الجمرة المتقدة في شغاف الوجدان والكلمات. هوالنبع الحار والمالح لشعر الشاعر. وحين تلتحم حرارة الكلمات مع الحرارة القضية، ندخل في الحضرة الشعرية. هكذا يبدو هيثم الريماوي في هذه الباكورة الشعرية، شاعرا ملتزما بامتياز، وبشفافية شعرية راقية، أَنأَى ما تكون عن اللغط والجلبة. هكذا يجمع الشاعر بين الالتزام الجمالي والالتزام الدلالي. بين هم الشعر، وهم الوطن والسكن. وفي جميع الأحوال والسياقات، فهو عازف ماهر على وتر الشعر.