اختبئي يا صديقتي، قالت وصال لصديقتها كوثر التي كانت بجوارها تلهث. أمهليني قليلا ريثما تذهب أمي إلى إحدى صديقاتها، لأريك ما أنا فاعلة مع تلك الرعناء. لم تصرين على شجارك مع نوال، وأنت تعلمين أنها أقوى منك، وأكبر منك سنا؟ لقد أهانتني أمام صديقاتي يا وصال، قالت كوثر بصوت عال وغاضب. أخفظي صوتك، لقد أسمعت قصتنا الجميع، وأخشى أن يكون من هؤلاء الجميع أمك؟ قالت وصال ضاحكة. أمي؟ لا لا، والتفتت كوثر في كل اتجاه كمن يخشى على نفسه سهم عدو لا يدري من أين يباغته، وراحت تركض لا تلوي على قصد، كان حذاؤها متسخا، وشبه ممزق، وشعرها مغبرٌّ، بعضه منسدل على النصف الأيمن من وجهها، والبعض الآخر راح يتمايل مع حركة الهواء على كتفها الأيسر، يزيد تمايلا كلما زادت سرعة جريها، كانت تعدو كظبية فارَّة من ذئب جائع، لا أدري سبب ذعرها ذاك المساء، إلا أني أعلم خشيتها من أمها التي لا تدخر جهدا في نهيها عن إلحاق الأذى بأحد، كانت كلمات أمها تمر كشريط رجعي في خيالها. كما أنها تذكرت كيف أنَّبَتْها أمها في المرة السابقة حين تشابكت بالأيدي مع جارتها سعاد، فأدمت أنفها، استرجعت كل هذا في لحظة، وما كادت تنهي حتى خطَت خطواتها الأخيرة متثاقلة قبل أن ترمي بكلها على عتبة دارها وهي تشبك خمسها في حلقة الباب الفاسي العتيق الذي تحيل شقوقه على الزمن البهي. لقد كان الباب موصدا، والزقاق الضيق خال من المارة، وكوثر تلهث وحدها، وتسعل بصوت لم تستطع كتمانه، من حسن حظها أن الذي شاركها لحظتها لم يكن إنسيا قد ينُمُّ بها إلى أمها، وإنما كان محض صدى راح يردد نصف سعلاتها كلما سعلت، وما لبثت كوثر أن استجمعت قوتها، وانتبهت إلى حالتها التي لم تر سوؤها ورداءتها إلا لتوِّها، انخلع قلبها، وبدأت تنفض الغبار عن ثيابها بسرعة كالتي عَدَت بها، نزلت إلى حذاءيها المتسخين بوحل الحارة، خلعتهما، وراحت تنفضهما بقوة ضاربة الواحد بالآخر كي تتخلص من الوحل الذي علق بهما، نظفتهما جيدا وتنفست الصعداء، واستقامت في وقفتها، وأمسكت شعرها وعقدته خلفها، ودقت الباب أخيرا. بعد الدقة الخامسة فتح الباب، دخلت كوثر وهي على مرأى من أمها التي أحست أن وراء ابنتها أمرا عظيما، وإلا فما هذا وقت عودتها إلى المنزل! قبل أن يتسنى لأمها أن تسألها كانت قد دخلت إلى غرفتها وأغلقت عليها الباب، لا تريد أن تتقابل عيناها مع عيني أمها، كانت تعلم جيدا أنه إن تم ذلك ضعفت، وانكشف أمرها بسهولة، فهي من النوع الذي لا يجيد الكذب، وإخفاء الأسرار، راحت الدقائق تمر بطيئة كأنها تتعمد ذلك، وكوثر في غرفتها لا تنوي الخروج منها، وفي لحظة رنَّ الهاتف فقفزت في سريرها ظنًّا منها أن أم نوال قد جاءت كما جاءت أم صديقتها من قبل، لم يهدأ توترها إلى أن سمعت توالي الرنات لتتبين أن الصوت صوت الهاتف، قالت وهي حانقة، يا له من هاتف غبي! انتظر ريثما أنهي الأمر مع تلك البدينة… ولم تنه كوثر جملتها حتى سمعت دقات عنيفة على الباب أسقطت قلبها في يديها، خطت خطوات ثقيلة إلى باب الغرفة لتتسمع، فسمعت صوتا أنثويا كان يتحول إلى صوت أجش كلما اشتد وعلا، تبيَّنَتْ بعد ثوان أن هذا الصوت صوت أم نوال، وقد رأت ما حصل لابنتها، ولا شك أنها أخبرتها بكل ما وقع، اختلط صوت أمها مع صوت أم نوال وعليا، انطفأ الوقت داخلها، فلم تعد تتبين شيئا، ولم تعد تفهم إلا شيئا واحدا هو ما سيحدث لها حينما ينتهي ذلك الصوت، ويخبو.