لطالما كنت أذرع تلك الطريق ذهابا و إيابا، و لم أنتبه قط إلى الكوخ النابت هناك، تحت شجرة البرتقال المرّ الكبيرة. ماشيت فضولي و أطللت، فخرج جرو صغير، يُبصبص بذَنَبه، ويحتك بقدميّ. سُدى حاولت إبعاده، فأصرّ معاندا، و أقعى مستعطفا، فمدّ يده مصافحا. منذ ذاك اليوم، غدونا صديقين، أمسك به، ويتمسك بي ، و لا نفترق إلا عند النوم. و عوض الكوخ، استوطن هذا الكائن الصغير جيب قميصي الأيسر، جهة القلب. في الصباح يستيقظ متأخرا، ثم ينسل ذاهبا إلى مهمته. لم يشأ أن يخبرني عن طبيعة عمله، وعندما توجهت إليه بالسؤال، بدأ ينبح و يهدر، وكاد يعضّني، لولا أني سحبت السؤال معتذرا. دهِشة هي هذه الصداقة التي جمعتني بهذا الحيوان الصغير، أقصد الكلب الصغير، في كل مرة يبهرني، و يثير عجبي، حتى نسيت كل تلك الصداقات القديمة الخائبة، التي تورطت فيها، أو فُرضت علي. كل كلاب العالم تحب العظام، تلهو بها وتتلهى، العظمة شبيهة الفراشة التي يعقدها الوجهاء عند أعناقهم أثناء الحفلات الفاخرة. قطعة العظم تلك ، لم تكن تعني شيئا، بالنسبة لهذا الصديق الجديد. كان يعافها ، ويضع بدلا منها رزما مالية، يعضّ عليها بأنيابه المسننة. عندما يفلتها يبدأ بالنباح كالمسعور، و لا يهدأ نباحه، إلا وهو يجرها كالفريسة ، داخلا بها إلى جيب القميص، ويختفيان… بقوة الاعتياد و التعود، ألفت أن أجد بين فكي صاحبي أشياء جديدة تُثيرني، دون أن أملك شجاعة البوح بذلك، كلما دخلت عليه، ألفيه عاضّا على باقة ورد حمراء قانية، أو لوح شكلاطة شديد السواد، أو قارورة عطر فرنسي باذخ الرائحة، يدحرجها و يلعقها، كما تلعق الكلاب الأخرى عظمتها. ولم أفهم يوما، ما الذي جاء بثوب نسائي إلى وجاره. مرت ثلاثة أيام لم أره خلالها، اغتممت لأمره، وتساءلت إن كان قد هرب، أو استبدلني بصديق جديد. ثم راودتني الظنون، إن كانت البلدية قد قبضت عليه، ووضعته في قفص الكلاب الضالة التي تحيد عن الطريق، في انتظار التخلص منها. لولا أني اطمأننت إلى فكرة أن رفيقي الصغير، لا يملك أن يسبب أدنى مشاكل، من شأنها أن تجلب عليه عيون مصلحة حفظ الصحة بالبلدية. ولم يحصل قط أن رأيته ينبح في وجهها ولو مرة واحدة. دفعت الباب فاندفع، و تسللت إلى الوجار، جدران من الرخام الصقيل الأبيض، ومخازن حديدية مقفلة، ومئات من التحف البراقة، المعروضة على طول الممر المؤدي إلى الغرفة الكبيرة المعتمة، حيث كان هناك، مسجّى بدون حراك. اقتربت منه و رفعت الغطاء، ولا نفسَ يصعد من الصدر الضامر… كان الرأس ملقى إلى الجهة الأخرى، كأنه يُعرض عنّي، و البطن الكبير منتفخ انتفاخا كبيرا جدا، يؤذي ما اعتادت العين أن تراه من أبعاد الجسد البشري. و بين الجسد و لحاف السرير، بُقعة حمراء أو سوداء من الدم، لم أتبيّنها لخفوت الضوء.